أما والله ما أوتى لقمان الحكمة بحسب ولا مال ولا أهل ولا بسط في جسم ولا جمال ، ولكنه كان رجلا قويا في أمر الله ، متورعا في الله ، ساكتا ، سكينا ، عميق النظر ، طويل الفكر ، حديد النظر ، مستغنٍ بالعبر ، لم ينم نهارا قط ، ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال لشدة تستّره وعموق نظره وتحفّظه في أمره ، ولم يضحك من شيء قط مخافة الإثم ، ولم يغضب قط ، ولم يمازح إنسانا قط ، ولم يفرح لشيء إن أتاه من أمر الدنيا ، ولا حزن منها على شيء قط .
وقد نكح من النساء وولد له الأولاد الكثيرة وقدم أكثرهم إفراطا ( أي مات له أولاد صغار قبل البلوغ ) فما بكى على موت أحد منهم .. ولم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان إلا أصلح بينهما ، ولم يمض عنهما حتى تحاجزا .. ولم يسمع قولا قط من أحد استحسنه إلا سأل عن تفسيره وعمن أخذه .. وكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء ، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين ، فيرثي للقضاة مما ابتلوا به ، ويرحم الملوك والسلاطين لغرّتهم بالله وطمأنينتهم في ذلك ، ويعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه ، ويجاهد به هواه ، ويحترز به من الشيطان .. وكان يداوي قلبه بالتفكر ، ويداري نفسه بالعِبَر .. وكان لا يظعن إلا فيما يعنيه ، فبذلك اوتي الحكمة ، ومُنح العصمة .
وإن الله تبارك وتعالى أمر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار وهدأت العيون بالقائلة ، فنادوا لقمان - حيث يسمع ولا يراهم - فقالوا : يا لقمان!.. هل لك أن يجعلك الله خليفة في الارض ، تحكم بين الناس ؟.. فقال لقمان : إن أمرني ربي بذلك فالسمع والطاعة ، لأنه إن فعل بي ذلك أعانني عليه وعلمني وعصمني ، وإن هو خيّرني قبلت العافية ، فقالت الملائكة : يا لقمان لمَ ؟.. قال : لان الحكم بين الناس بأشد المنازل من الدين ، وأكثر فتنا وبلاء ما يُخذل ولا يُعان ، ويغشاه الظلم من كل مكان ، وصاحبه منه بين أمرين :
إن أصاب فيه الحق فبالحريّ أن يسلم ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا وضعيفا ، كان أهون عليه في المعاد من أن يكون فيه حكما سريّا شريفا .. ومن اختار الدنيا على الآخرة يخسرهما كلتيهما ، تزول هذه ولا تدرك تلك .. فتعجبت الملائكة من حكمته ، واستحسن الرحمن منطقه ، فلما أمسى وأخذ مضجعه من الليل ، أنزل الله عليه الحكمة فغشّاه بها من قرنه إلى قدمه وهو نائم ، وغطّاه بالحكمة غطاء ، فاستيقظ وهو أحكم الناس في زمانه ، وخرج على الناس ينطق بالحكمة ويبيّنها فيها .
قال : فلما أوتى الحكم ولم يقبلها ، أمر الله الملائكة فنادت داود بالخلافة فقبها ولم يشترط فيها بشرط لقمان ، فأعطاه الله الخلافة في الارض وابتلي فيها غير مرة ، وكل ذلك يهوي في الخطأ يقيله الله ويغفر له .. وكان لقمان يكثر زيارة داود (ع) ويعظه بمواعظه وحكمته وفضل علمه ، وكان يقول داود له : طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة ، وصُرفت عنك البلية ، وأعطي داود الخلافة ، وابتلي بالخطأ والفتنة .
ثم قال أبوعبدالله (ع) في قول الله : {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } ، قال : فوعظ لقمان ابنه بآثار حتى تفطّر وانشقّ ، وكان فيما وعظه به يا حماد أن قال :
يا بني!.. إنك منذ سقطت إلى الدنيا استدبرتها واستقبلت الآخرة ، فدارٌ أنت إليها تسير أقرب إليك من دار أنت عنها متباعد .
يا بني!.. جالس العلماء وازحمهم بركبتيك ، ولا تجادلهم فيمنعوك ، وخذ من الدنيا بلاغا ، ولا ترفضها فتكون عيالا على الناس ، ولا تدخل فيها دخولا يضرّ بآخرتك ، وصم صوما يقطع شهوتك ، ولا تصم صياما يمنعك من الصلاة فإن الصلاة أحب إلى الله من الصيام .
يا بني!.. إن الدنيا بحر عميق ، قد هلك فيها عالم كثير ، فاجعل سفينتك فيها الإيمان ، واجعل شراعها التوكل ، واجعل زادك فيها تقوى الله ، فإن نجوت فبرحمة الله ، وإن هلكت فبذنوبك .
يا بني !..إن تأدبت صغيرا انتفعت به كبيرا ، ومن عنى بالأدب اهتم به ، ومن اهتم به تكلف علمه ، ومن تكلف علمه اشتدّ له طلبه ، ومن اشتد له طلبه أدرك منفعته فاتخذه عادة ، فإنك تُخلف في سَلَفك ، وتنفع به من خلفك ، ويرتجيك فيه راغب ، ويخشى صولتك راهب .
وإياك والكسل عنه بالطلب لغيره ، فإن غلبت على الدنيا فلا تُغلبنّ على الآخرة ، فإذا فاتك طلب العلم في مظانه فقد غُلبت على الآخرة ، واجعل في أيامك ولياليك وساعاتك لنفسك نصيبا في طلب العلم ، فإنك لم تجد له تضييعا أشد من تركه ، ولا تمارين فيه لجوجا ، ولا تجادلن فقيها ، ولا تعادين سلطانا ، ولا تماشين ظلوما ، ولا تصادقنه ، ولا تؤاخين فاسقا ، ولا تصاحبن متهما ، واخزن علمك كما تحزن ورقك .
يا بني!.. خف الله خوفا لو أتيت يوم القيامة ببر الثقلين خفت أن يعذبك ، وارج الله رجاء لو وافيت القيامة بإثم الثقلين رجوت أن يغفر الله لك .. فقال له ابنه : يا أبه ، وكيف أطيق هذا وإنما لي قلب واحد؟.. فقال له لقمان :
يا بني !..لو استخرج قلب المؤمن فشُقّ لوجد فيه نوران : نور للخوف ، ونور للرجاء ، لو وزنا ما رجح أحدهما على الآخر بمثقال ذرة ، فمن يؤمن بالله يصدق ما قال الله ، ومن يصدّق ما قال الله يفعل ما أمر الله ، ومن لم يفعل ما أمر الله لم يصدّق ما قال الله ، فإن هذه الأخلاق يشهد بعضها لبعض ، فمن يؤمن بالله إيمانا صادقا يعمل لله خالصا ناصحا ، ومن يعمل لله خالصا ناصحا فقد آمن بالله صادقا ، ومن يطع الله خافه ، ومن خافه فقد أحبه ، ومن أحبه اتبع أمره ، ومن اتبع أمره استوجب جنته ومرضاته ، ومن لم يتبع رضوان الله فقد هان عليه سخطه ، نعوذ بالله من سخط الله ..
يا بني!.. لا تركن إلى الدنيا ، ولا تشغل قلبك بها ، فما خلق الله خلقا هو أهون عليه منها ، ألا ترى أنه لم يجعل نعيمها ثوابا للمطيعين ، ولم يجعل بلاءها عقوبة للعاصين
[,hf hghlhl hgwh]r ulk sHgi uk grlhk hgp;dl