عرض مشاركة واحدة
قديم 2020/06/17, 08:09 AM   #3
ابراهيم علي عوالي العاملي

موالي جديد

معلومات إضافية
رقم العضوية : 5752
تاريخ التسجيل: 2020/05/02
المشاركات: 21
ابراهيم علي عوالي العاملي غير متواجد حالياً
المستوى : ابراهيم علي عوالي العاملي is on a distinguished road




عرض البوم صور ابراهيم علي عوالي العاملي
افتراضي


و"العجب" من أهمّ مصادر هذه الحالة من الانحراف المركب، فإن الإنسان عندما يأخذه العجب بنفسه يرى القبيح الذي يصدر منه حسناً والسيئة التي يرتكبها حسنة، ولا يسمح لأحد أن يراجعه في شيء من ذلك، ولا يسمح لنفسه الشك والتردد في سلامة شيء من مواقفه وأعماله، ويرى لنفسه ما يشبه العصمة، وهذه الحالة كما ذكرنا أخطر حالات الانحراف وإلى هذه الحالة من الانحراف المركب تشير الآية الكريمة:
(قُل هَل نُنَبّئُكم بِالأخسَرِينَ أعمالاً، الذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَيَوةِ الدُّنيَا وَهُم يَحسبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعاً، أُولَئِكَ الذينَ كَفَرُوا بآيَتِ رَبّهِم وَلِقَائِهِ فَحَبطت أعمالُهُم فَلاَ نُقيمُ لهُم يَومَ القِيَمةِ وَزناً) (الكهف:103ـ105).
عندما يبلغ الإنسان هذه الدرجة من الانحراف تحترق عنده الرؤية بشكل كامل، فيتصور قبائح أعماله وسيئاته حسنات، "وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً".
وهذه حالة من حالات عمى العقل والقلب والبصيرة، يفقد فيها الإنسان القدرة على التمييز بين الحق والباطل، كما يفقد المصابون بعمى الألوان القدرة على تمييز بعض الألوان، بل "العمى" في حالة العجب أخطر، حث لا يفقد فيها الإنسان الرؤية فقط، وإنما تنعكس فيها الرؤية فيرى القبيح منه حسناً، ويرى الحسن من غيره قبيحاً. وتسبب هذه الحالة من العمى وفقدان القدرة على التمييز إنقلاب المقاييس عند الإنسان في حالة "العجب".
فإن الإنسان في حالة الرشد والاستواء يجعل من الحق مقياساً لنفسه وأعماله ومواقفه ويطبق نفسه وأخلاقه وسلوكه ومواقفه دائماً على هذا المقياس، فيستقيم ويصحح أعماله ومواقفه كلما تعرض لخطأ أو انحراف.
وكلما يتقدم الإنسان في "العجب" أكثر تتعمق في نفسه هذه الحالة من انقلاب المقاييس أكثر من ذي قبل، حتى ينقلب الإنسان فيكون هو مقياساً كاملاً للحق، فما يعمله هو الحق وما يتركه هو الباطل وما يريده هو الحق، وما يعارضه ويرفضه هو الباطل ويكون "الأنا" هو المقياس للحق، وليس "الحق" هو المقياس للانا.
والقرآن يصف هؤلاء بأوصاف عجيبة، تستوقف الإنسان، وتدعو إلى كثير من التأمل والتفكير.
فهو يقول لهم أولاً: (الذي ضلَّ سعيهم في الحيوة الدنيا)، وهذه حالة تخص الحياة الدنيا، فيضيع سعيهم، وضياع السعي بانتفاء الأثر والفائدة المترتبة على السعي، فإن السعي كالحرث يؤتي ثماره طيبة شهية، إذا أراد الله تعالى لها الخير وبارك فيه، ويكون مبتوراً عقيماً إذا سلب الله تعالى منه الخير والبركة، كذلك "السعي" و"الحركة" إذا سلب الله تعالى منه الخير والبركة كان جهداً ضائعاً وسعياً ضالاً.
ويعبر القرآن عنهم ثانياً بـ: (الأخسرين أعمالاً)، وهذه أيضاً حالة تخص الدنيا، والخسارة هي أن يفقد الإنسان جهده وحياته وحركته دون أن يأتي له ذلك بنتيجة أو ثمرة، وجهد الإنسان وحركته وعمره هو "رأس ماله" الذي يتاجر به ويحوله إلى "مرضاة الله" و"قرب الله" و"ثواب الآخرة". وكل جهد وحركة وساعة من عمر الإنسان لا يتحول إلى هذه النتائج فهو خسارة العمر والجهد، وكان مثل هذا الإنسان مثل التاجر الذي ينفق رأس ماله دون أن يعود عليه بأي شيء، وهذه هي الخسارة الكبيرة التي تشير إليها سورة العصر: (وَالعَصرِ، إِنَّ الإِنسانَ لَفِي خُسرٍ).
ولكن القرآن الكريم لا يقتصر هنا في تصوير مأساة الإنسان على هذا الحد، وإنما يتجاوز ذلك ويصف مأساة الإنسان في هذه الحالة بـ"الأخسرين أعمالاً" بصيغة أفعل التفضيل. وسبب تكريس حالة الخسارة هذه أن جهد الإنسان وسعيه وحركته ليس فقط يضيع، وإنما يتحول إلى ضده، فيتحول جهد الإنسان إلى عذاب الله وعقابه وغضبه عوض أن يتحول إلى رحمة الله وقربه ورضوانه وجنّته. كمن ينفق ماله في ارتكاب جريمة فيعاقب ويغرم، فإن هذا الإنسان ليس فقط يخسر رأس ماله، وإنما ينقلب رأس ماله إلى وبال عليه.
ثم يقول القرآن الكريم عنهم ثالثاً: (فحبطت أعملُهم فلا نُقيم لهم يوم القيمة وزناً)، وهذه الحالة تخص يوم القيامة وهي حالة "الحبط" الكامل في الآخرة وحالة "انعدام الوزن"، (فلا نقيم لهم يوم القيمة وزناً).
وحالة "الحبط" في مقابل أصل لله "البقاء" و"الثبات" للأعمال في يوم القيامة، والذي يشير إليه القرآن في كثير من آياته:
(فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ، وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:7ـ8).
(وَوُضِعَ الكِتَبُ فَتَرَى المُجرِمِينَ مُشفِقِينَ مَمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيلَتَنا مَالِ هَذَا الكِتَاب لا يُغَادرُ صَغِيرَةً وَلاَكَبِيرَةً إلاّ أحصَياهَا وَوَجدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظلمُ رَبُّكَ أحَداً) ( الكهف:48).
وبموجب هذه الحالة لا ينعدم شيء من العمل من خير أو شر يصدر عن الإنسان يوم القيامة. وهذا أصل كوني من الاصول الكونية التي يشرحها القرآن في تبيان سنن الله تعالى.
إلا أن "الكفر" و"الانحراف المركب" النابع من العجب يؤدي إلى حبط الأعمال يوم القيامة: (فحبطت أعمالُهم)، وأصل "الحبط" في مقابل أصل الثبات.
كما يؤدي الكفر والانحراف المركب إلى حالة "إنعدام الوزن" يوم القيامة: (فلا نقيم لهم يوم القيمة وزناً). وبالوزن يوم القيامة يستقر الإنسان في رحمة الله ورضوانه، وإذا فقد الإنسان الوزن يوم القيامة فلا يستطيع أن يستقر في رحمة الله.
أرأيت لو أن الإنسان فقدَ "الوزن الفيزياوي" في الدنيا على وجه الأرض هل يستطيع أن يستقر فيها أو يبني لنفسه حياة فيها؟ كذلك انعدام الوزن يوم القيامة.
علاج العجب
في حياة الإنسان مصدران للابتلاء "الهوى" و"الأنا" وكل منهما سبب لسقوط الإنسان وهلاكه.
فقد يسقط الإنسان على مزلق الاستجابة للهوى فيملك الهوى أمره، ويحكمه في حياته فيجره إلى الهلاك والسقوط. وهو باب واسع من أبواب الفساد والهلاك والسقوط في حياة الإنسان، وقد حذر الإسلام منه كثيراً واعتبره من أخطر المزالق التي تواجه الإنسان.
وهذه الآية الكريمة تجمع طائفة من أمهات الأهواء في حياة الإنسان:
(زُيّنَ للنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِسَاءِ وَالبَنِينَ والقنَاطير المُقَنطرَةِ مِنَ الّذهبِ والفضةِ والخيلِ المُسومَة والأنعَمِ والحَرثِ ذلكَ مَتَعُ الحَيَوةِ الدُّنيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسنُ المَآبِ) (آل عمران:14).
والمصدر الآخر للسقوط والهلاك والفساد في حياة الإنسان هو "الأنا"، وكما كانت الاستجابة غير المحدودة للهوى سبباً في السقوط والهلاك في حياة الإنسان كذلك الاستجابة غير المحدودة للانا يعتبر المصدر الثاني للسقوط في حياة الإنسان. فإن الأنا عندما يستعلي ويستكبر ويتحول إلى محور يستقطب كل اهتمامات ومشاعر وجهد الإنسان يتحول إلى صنم يتخذه الإنسان إلهاً في حياته من دون الله. وهذا باب واسع آخر للسقوط والفساد والهلاك في حياة الإنسان.
وقد أعطى الإسلام في منهاجه التربوي اهتماماً لهذا وذاك معاً. وقد أعطى الإسلام في منهاجه التربوي اهتماماً لهذا وذاك معاً.
والطريقة الصحيحة في معالجة كل من "الهوى" و"الأنا" ليس في استئصاله أو كبته ومحاربته، وإنما في تعديله وتلطيفه والتحكم فيه.
ومن الوسائل التربوية الصحيحة في تعديل كل من "الهوى" و"الأنا" وضبطهما والتحكم فيهما هي العبادات.
ففي العبادات ما يتخذه الإسلام وسيلة لتعديل الهوى وكفه وضبطه وتحديده كالصوم.
ومن العبادات ما يتخذه الإسلام أداة لتعديل الأنا وتحجيمها كالصلاة فإن الصلاة وسيلة فعالة وقوية لإذلال الأنا وتركيعها بين يدي الله تعالى في الأذكار والأفعال معاً. فالتكبير والتهليل، والحمد، والتعبيد، والاستعانة بالله والتوحيد والدعاء في الأذكار يذلل الأنا ويخضعها لله، ويشعرها بهذا الذل والخضوع بإيحاءات متعددة.
والحج عبادة فريدة في الإسلام يجمع بين هذا وذاك، ففي الحج منهاج تربوي واسع لتدريب الإنسان على ضبط الهوى وتحديده، ويمكن الإنسان من أهوائه وشهواته.
ففي محرمات الإحرام منهج عملي لضبط مجموعة من الأهواء القوية والمؤثرة في النفس، كالغريزة الجنسية والنزوع إلى جملة من الطيبات والنزوع إلى الرفاه والراحة.
وفي محرمات الإحرام ما يضبط الأنا ويحدده ويتحكم فيه، كتحريم لبس المخيط على الحجاج الرجال، واللباس من أبرز سمات شخصية الإنسان في انتمائه الطبقي والقومي. وفي الميقات يتجرد الحجاج من كل ملابسهم وأزيائهم الشخصية والقومية ويظهرون بمظهر واحد، دون امتيازات شخصية أو طبقية أو قومية أو فئوية.
ومن محرمات الإحرام "الجدال" وهو من الميول الأنانية العميقة في نفس الإنسان بالظهور والاستعلاء على خصمه. والطواف يرمز إلى تكريس التوحيد ومحورية "الله" تعالى في حياة الإنسان في مقابل تكريس محورية الذات. ولوقوف المسلمين جميعا في عرفات في وقت واحد في واد غير ذي زرع من دون امتيازات وفوارق للبعض على بعض، للتذلل والتضرع بين يدي الله تعالى دور كبير في اذلال الأنا وتعبيدها لله تعالى وتحويلها من طور الألوهية والأنانية إلى طور العبودية لله تعالى.
والذي يمعن النظر في فريضة الحج يجد أن هذه الفريضة العبادية تتضمن منهاجاً تربوياً دقيقاً وعملياً في ضبط "الهوى" و"الأنا" وتعديلهما وتعبيدهما لله تعالى.
ونحن في هذا الحديث لا نريد أن نبحث عن الهوى وأخطاره وأعراضه وعلاجه في حياة الإنسان. فليس في هذا المقال موضع للدخول في هذا البحث، وإنما أشرنا إليه إشارة لنعرف موضع "الأنا" من الأخطار التي تهدد حياة الإنسان، وليكتمل عندنا منهج البحث وإطاره.
فإن "الأنا" هو مصدر "العجب" في حياة الإنسان. ولا محالة بكون علاج العجب بعلاج الأنا. و" الأنا" كما ذكرنا أحد مصدري الخطر والسقوط والفساد في حياة الإنسان.
فلنتأمل إذن في "الأنا" ونترك البحث عن الهوى إلى الموضع المناسب إن شاء الله.
الشيخ محمّد مهدي الآصفي


رد مع اقتباس