ويمثل هذا الإنجاز أيضاًً تحولاً جذرياً في رؤية التاريخ الإسلامي ، تلك الرؤية التي كانت طوال 1400 عام بعين واحدة ، واليوم بات بالإمكان أن تكتمل الرؤية بعينين ، والأهم أنه - أي الإنجاز العلمي هذا - سيكون بحول الله وقوته موضع رضى مولانا رسول الله الأعظم (ص)الذي تجرأ عليه أرباب السير والحديث وأهل التدوين ، فنسبوا إلى سيرته ما ليس منها في شيء ، أملا في إضفاء هالة القداسة على الحكام.
ومن المتوقع أن يكون لهذا الإنجاز شأن عظيم في إثارة الجو العلمي والحماسة العقائدية ، خاصة في حال نشره مفصلاً في الكتاب المرتقب ، فالبحث الذي تنشره (المنبر) في هذا العدد إنما يمثل خلاصة الكتاب بما يورث الإطمئنان إلى الحقيقة التاريخية ، وفي الكتاب إستدلالات وتفصيلات وتشعبات أكثر ، فهو يقع في حوالي 300 صفحة من القطع الكبير ، والمؤمل من جميع المؤمنين والمهتمين المساهمة في طباعة هذا السفر العظيم وتكثيره ليكون له الدور الأكبر في تصحيح الخطأ التاريخي الفادح وتوعية الجماهير الإسلامية بالحقيقة.
وقبل أن نأتي بالقارئ إلى موضوع البحث ، ننتهز هذه الفرصة لتقديم أسمى آيات الشكر والعرفان بإسم رئاسة التحرير إلى سماحة العلامة الشيخ نجاح الطائي الذي خص (المنبر) بهذا البحث القديم رغم سعي عدد من المجلات ودور النشر اللبنانية الزميلة للحصول عليه ، وإذ تعتز (المنبر) بالثقة التي منحها إياها سماحة الشيخ ، فإنها تتوجه إلى الله تعالى سائلة أن يوفقها لأداء هذه المسؤولية العظيمة والدفاع عن الشريعة والآل الميامين الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
ونترك السطور والصفحات التالية لقلم سماحة الشيخ الطائي :
قبل البدء فإنني أهدي رحلتي هذه إلى رسول الله (ص) وإلى كل طلاب الحقيقة الساعين للوصول إلى الوقائع كما هي.
فليفرح المخلصون بشتى أصنافهم في وصولنا جميعاًً إلى قصة
الغار الحقيقية دون زيادة ولا نقصان.
لنطوي سوية 1422 هـ سنة من الكذب والإختلاق الذي لف تلك القضية وأخرجها عن صحتها وسيرتها الأصلية.
والشكر لله تعالى على ما أسداه لنا وهدانا إليه في هذا الموضوع ، فقد مضت 1420 سنة هجرية والمسلمون يقرؤون ما لفقه لهم الحكام وما كتبه لهم وعاظ السلاطين وأعوانهم ، فإعتادت الأجيال الإسلامية على قراءة الأكاذيب المكتوبة عن
الغار والهجرة فأصبح الخطأ فادحاً والأمر مريباً.
ولقد نجح الحكام المستبدون في فرض الظلام على الشعوب فكانت السجون مكتظة بالأحرار والمقابر ملئى بالشهداء ، وفي عالم الفكر أفلحوا في فرض تعتيم ثقافي علي المسلمين في أغلب الحقبات التاريخية التي مرت على الشعوب ، فكتبوا التاريخ كتابة ذاتية في مصلحتهم بعيداًً ، عن الواقع والحقيقة ، وهذا البحث يفند قضية حضور أبي بكر في
الغار بشكل علمي إستناداًً لرواية صحيحة ومتواترة وشواهد وقرائن كثيرة.
ويذكر بأن الأكاذيب كثيرة في موضوع ما يحول الحق إلى باطل ويحول الباطل إلى حق ، فلقد كذب الأحبار على عيسى (ع) فصدق اليهود كلامهم فحاربوا عيسى (ع) وتآمروا على قتله ، وإلى يومنا هذا هم يعتقدون بكذبه ودجله! ، وكذب نمرود على إبراهيم (ع) فحمل معظم الناس الحطب لإحراقه! ، وكذب قارون على بني إسرائيل فأصبحوا في جانبه معارضين لموسى (ع) ووصيه يوشع ، وبلغ الأمر درجة أن حاربت صفيراء بنت شعيب زوجة موسى (ع) وصي زوجها يوشع بن نون (ع)!.
ورجال الحزب القرشي حاولوا جهدهم حشر أبي بكر في قضية
الغار والهجرة متشبثين بكل الوسائل الممكنة في هذا المجال ، فإنتشرت عشرات الأحاديث المختلقة بين الناس ووضعت الدولة عيداًً كبيراًً لهذه المناسبة ، ولأن حبل الكذب قصير فقد تبين أن هذه الأكذوبة وضعت لمعارضة حادثة الغدير الواقعة في 18 ذي الحجة ، فقد جعل رجال السياسة حادثة
الغار في 26 ذي الحجة! في حين كانت واقعة
الغار في شهر صفر!.
ويتعب المرء من كثرة أكاذيب قريش وأذنابها وقدرتهم الفنية العالية في هذا المجال ، ويكفي أن تعلم أن دهاء قريش لا يلحقه دهاء في ذلك الوقت.
وإشتد هذا المكر بتلاحهم قريش واليهود فأصبح كعب الأحبار وهو شيطان اليهود واعظ المسجد النبوي في زمن عمر بن الخطاب وإستمر في منصبه في زمن عثمان بن عفان ، وإذا كان كعب اليهود معلماً للمسلمين يعلمهم دينهم فتصور ما يمكن أن يدخله في الدين من إفتراءات وإسرائيليات لا حصر لها!
وبلغ ذلك الدهاء قمته في تكفير السلطة للمسلم غير المعتقد بحضور أبي بكر في الغار! بينما قال الله تعالى في كتابه الشريف : (
ولا تقولوا لمن القى إليكم السلام لست مؤمناًً ).
هذا في الوقت الذي لم يكفر فيه وعاظ السلاطين هؤلاء قتلة فاطمة بنت محمد (عليهما الصلاة والسلام) ، ولم يكفروا قتلة الحسين (ع) ولم يكفروا المعتقدين بنقص القرآن! ، ولا يعلم إلاّ الله تعالى كم هي أعداد المسلمين الذين قتلوا لعدم إيمانهم بحضور أبي بكر في
الغار ، لأن الحكومات كانت تقتل المسلمين بأعذار شتى وتكتم الأسباب الحقيقية لسفكها الدماء ، فلقد قتل الحجاج بن يوسف الثقفي مئة وعشرين الفاً بحجج غير معروفة ، وسجن ثلاثة وثلاثين الفاً ، وكان من جملة المقتولين على يديه الفقيه الزاهد سعيد بن جبير وتلميذ الإمام علي (ع) كميل بن زياد وعبد الرحمن بن أبي ليلى الذي أخذ القرآن من أمير المؤمنين (ع) ، فهل قُتِل هؤلاء لعدم إيمانهم بحضور أبي بكر في
الغار والهجرة؟.
ومؤمن الطاق وكذلك هشام بن الحكم أعظم تلاميذ الإمام الصادق (ع) أطلقوا عليهما إسم الشيطان وإتهموهما بأنهما يعتقدان بنقص القرآن ، ذلك لأنهما ما كانا يعتقدان بصحبة أبي بكر للنبي محمد (ص) في الغار! ، لهذا يجب أن لا نستغرب إذا إكتشفنا الآن أن كل قضية هجرة وحضور أبي بكر في
الغار ليس لها أساس من الصحة ، وإنها قضية مختلقة ملفقة ، بل أكذوبة ، ذلك لأنها تصطدم بالحقائق الموضوعية والروايات التاريخية ، ونحن سنناقشها ونعرضها نقدياً كي تتضح الصورة للجميع.
إن ما هو منتشر بشكل خاطئ بين المسلمين في شأن هذا الموضوع ، أن
النبي (ص) خرج من بيته ليلة الهجرة وقد أنام علياً (ع) في مكانه ، وقد كان خروجه إعجازياً لأن مشركي قريش الذين كانوا يحوطون داره لم يروه بعدما قرأ الآيات : (
وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ...) فعموا ، عن مشاهدته ، ثم توجه (ص) إلى بيت أبي بكر بن أبي قحافة ، وهناك أنتظر إلى الصباح ثم خرج هو وأبوبكر للهجرة بصحبه أحد أدلاء الطرق ويدعى عبد الله بن أريقط بن بكر ، وبدلاً من أن يسلك إبن بكر بهما طريق الشمال حيث يثرب (المدينة المنورة) فإنه سلك بهما طريق الجنوب ، أي جنوب مكة ، تمويهاً للكفار الذين كانوا يريدون القضاء على خاتم الأنبياء (ص) ورسالته السماوية.
إلا أن الكفار فطنوا إلى ذلك من خلال دليل آخر هو كرز بن علقمة الخزاعي ، الذي تتبع آثار أقدام
النبي (ص) وقارنها بقدم جده إبراهيم (ع) ، فوصلوا أخيراً إلى جبل (ثور) حيث كان
النبي (ص) وأبوبكر في غاره مختبئين ، وعندما وصلوا هناك بدأ
أبوبكر يرتجب وكان حزيناًً وخائفاً ، فنهاه
النبي (ص) ، عن ذلك بقوله له : (
لا تحزن إن الله معنا ) ، وقد جاءت في تلك اللحظات حمامة وباضت بيضة إمام
الغار ، ثم جاء عنكبوت من العناكب فنسج خيوطه على
الغار أيضاًً ، الأمر الذي جعل كفار قريش ينصرفون لإعتقادهم أنه مادامت الخيوط العنكبوتية موجودة وكذلك البيضة فإن أحداًًً لم يدخل في هذا الغار.
وكذبوا بذلك دليلهم كرز بن علقمة رغم تأكيده مراراًًً على أن
النبي موجود في هذا
الغار ، وبقي
النبي (ص) مع أبي بكر في هذا
الغار ثلاثة أيام إنتظاراً لهدوء حملات الملاحقة ضده، وطوال تلك الفترة كانت أسماء بنت أبي بكر هي التي تأتي بالطعام من مكة إلى
الغار لتقديمه إلى رسول الله وإلى أبيها ، بعد ذلك تحرك
النبي (ص) نحو المدينة بصحبة دليله عبد الله بن أريقط بن بكر ، ووصل إليها وإستقبله المسلمون مبتهجين فرحين.
هذه هي محصلة ما يتناقله المسلمون في شأن قضية غار جبل ثور ، وهي محطة لعبت فيها السياسة بألاعيبها ، ونحن هنا سنبرهن إن شاء الله على بطلان كثير من تفاصيل هذه الرواية بناء على مصادر أهل السنة ، كقضية كون أبي بكر مع
النبي في الهجرة وفي
الغار ، وكقضية أن أسماء بنت أبي بكر هي التي كانت تغذي الرسول وتهيئ له الطعام وتوصله إليه ، وكقضية أن الحمامة قد باضت والعنكبوت قد نسج خيوطه وما شاكل ذلك من أمور عارية ، عن الصحة ، والتي شابت هذه الحادثة التاريخية العظيمة عن طريق الإسرائيليات.