مع النبي في حروبه
وبالفعل ما كاد الاسلام يتخذ موقعه في المدينة، وبفضل تلك الدينامية التياظهرها في مواجهة القوى المهددة له، حتى كانت مكة، كنظام، تنتقل سريعا الى موقع الدفاع، وتعجز في النهاية عنالخروج من الحصار الذي فرض عليها منذ، وقت مبكر (السرايا).
واذا كان عمار، شان كثيرين من نخب الهجرة، يتوقف اسمه، حينئذ عن التردد في المصنفات التاريخية، فلا يعني ذلك، انهلم يشارك في انشطة المدينة، لا سيما في الصراع ضد، قريش.
وهي مسالة خاضعة لمنهج هذه المصنفات التي، اهتمتعموما بالقادة، سواء الذين يتولون السرايا، او ينتدبون، للقيام مكان الرسول ابان خروجه في احدى غزواته.، ولكن، انطلاقا من وجوب الالتزام بالجهاد عندما يدعى، المسلمون اليه، فان عمارا كان في صميم هذا (الفرض)، متصديا لكافة تحديات المرحلة.
ولعل الواقدي، هو اكثر، الاخباريين الذين نجد لديهم تفاصيل عن عمار، خصوصا وان، طبيعة مصنفه(المغازي) تجعل فيه متسعا لتفاصيل في هذا، المجال، لم تاخذ حيزها في المصنفات الاخرى. فثمة رواية، ذكرها ابن سعد عن الواقدي، بشان المؤاخاة بين عمار وحذيفة، يستنتج منها ان الاول كان ممن شهد (بدرا)، وذلك في، معرضالنفي عن شهود الثاني لهذه الغزوة، على الرغم من قدم، اسلامه(26).
وفي رواية اخرى، يؤكد الواقدي في (مغازيه)، هذه المعلومة، فيذكر عددا من اصحاب الرسول ممن شاركوا، في بدر، كان بينهم عمار بن ياسر(27) كما يذكر ايضا، تفاصيلاخرى عن شجاعة هذا الصحابي بقتله ثلاثة من، المشركين (الحارث بن الحضرمي ويزيد بن تميم وعلي بن امية بنخلف)، واسره واحدا من كبارهم (ابو العاص بن نوفل بن، عبد شمس)(28).
كما شارك عمار في غزوة (احد)، وفي اعقابها ارتبط اسمه بقتل، احد رجالات قريش من بني امية، وهو معاوية بن المغيرةبن، ابي العاص، وكانت اخبار قد وصلت الى الرسول الذي استجاب، لطلب عثمان بالعفو عن معاوية هذا، على ان يعودالى مكة، خلال ايام ثلاثة ان معاوية لا يزال كامنا في (العقيق).
واذ خرج، الرسول في غزوة (حمراء الاسد)، حثالمسلمين على طلبه،، فادركه زيد بن حارثة وعمار وقتلاه(29).
وفي غزوة (ذات الرقاع)، رافق عمار الرسول(30) وكانت، معه راية المهاجرين ابان غزوة المريسيع(31).
واذا، توقفناعند رواية وهب بن جرير، فان هذه تؤكد على مشاركة، عمار في كافة العمليات الحربية، خصوصا الغزوات منها. وقدجاء في الرواية على لسانه: (قاتلت مع رسول اللّه (ص) الانس والجن)(32).
وكان الى ذلك بين مجموعة الذين تولوا، نقلكتب الرسول الى خارج شبه الجزيرة العربية او اطرافها، حاملة الدعوة الى الاسلام، حيث تولى ايصال الكتاب الى، الايهم بن النعمان الغساني في الشام(33).
والواقع ان عمارا، بصدقيته واندفاعه وايمانه الراسخ، يمثل، انموذج الصحابي الحقيقي في زمانه وفي جميع الازمنة.
فهولا، ينفك مع الرسول مقاتلا، وعلى كافة الجبهات كما عبر عن، ذلك بنفسه، وسيرته على ضحالة ما روي عنها، ليستمنفصلة عن سيرة الرسول الذي رعى عن كثب اولئك، النخب وقدر اهمية تضحياتهم في سبيل الاسلام.
وفي، ضوءذلك، فان مصنفات السيرة هي المصدر لاخبار «ابي، اليقظان» اذ كان الرسول يؤثر مخاطبته بذلك من دون ان، يلتبسالموقف يوما بان الحق ليس في المكان الذي يكون فيه، الصحابي الجليل. ولعل آخر المشاهد مما يجسد هذه العلاقةفي، حياة الرسول، عندما وقع خلاف بين عمار وخالد بن الوليد، اثر، سرية الاخير الى بني جذيمة، واخذه كما اتهمهعمر بن، الخطاب بالذي (كان من امر الجاهلية)(34).
ولما شكا، عمار ذلك الى الرسول، غضب من خالد وقال له آحسب رواية، الواقدي: (لا تقع بابي اليقظان، فان من يعاده يعاده اللّه ومن، يبغضه يبغضه اللّه...)(35).
المرحلة الانتقالية وتبدل المواقع، ولكن صورة عمار، في الروايات التاريخية، يلفها بعد الرسول، ضباب كثيف، وتكاد اخباره تنقطع تماما في تلك، المرحلةالانتقالية بتطوراتها الخطيرة.
ولن يجدينا التساؤل هنا، عن دوره في بيعة (السقيفة)، او موقفه منها، لان احدا من، النخبالذين ينتمي الى (طبقتهم)، لم تحمل الروايات شيئا من، اخباره في هذه المسالة.
فالخلافة بمعنى السلطة، وبدءا، منظروف تكونها، هي شان قرشي، وان كان الخطاب المعلن، يحصرها في المهاجرين، بما لهم من (امتيازات) لا يتمتع، بها الاخرون، لا سيما الانصار.
ولكن بناء على تصارع الاتجاهات، على السلطة في ذلك الوقت، يرجح ان عمارا، شان، بعضالنخب، خذلتهم المرحلة الجديدة، فجاء تصنيفهم غير، مبني على موقعهم الاسلامي، وانما كان للموقع الاجتماعي،، انلم نقل القبلي، تاثير اساسي في مواقع النفوذ.
ومن هذا المنظور، ليس من قبيل المصادفة ان ينضم الانصار، الى علي بعد اسقاط محاولتهم لتحقيق موقع ما علىمستوى، السلطة.
ولعل تحولهم السريع، من المطالبة بالخلافة الى تاييد، (حق) علي فيها(36) حيث وحد (الحرمانالمشترك) بين، الطرفين، وفقا لراي احد المستشرقين(37) كان اي، التحول نابعا من قناعة، بان نهج (مرشحهم)، يشكلحصانة، لهم في مواجهة (فوقية) المهاجرين، تلك التي عانوا شيئا منها، خلال عهد الرسول.
كذلك عمار بن ياسرواصحابه، لم يختلف، وضعهم عن الانصار، اذ كانوا بدورهم يؤثرون حكم من، يعتقدون انه الاكثر كفاءة لمتابعة المسيرةوحماية تراثهم، النضالي، فضلا عن مواقعهم التي تراجعت بصورة ملحوظة منذ، وفاة الرسول، وفي ضوء ذلك ينحازعمار مبكرا الى التيار المؤيد، لعلي، ويصبح من المقربين اليه، فكان احد ثلاثة حضروا تشييع، فاطمة (الزهراء)، الىجانب سلمان وابي ذر الغفاري، هؤلاء، الذين امتنعوا مع آخرين عن البيعة لابي بكر، انطلاقا من هذا، الموقف، حسب رؤية اليعقوبي(38).
على ان هذه المسالة تبقى خاضعة للنقاش، على الرغم من، المعطيات التاريخية التي تدعم هذا التفسير، خصوصا، بعداغتيال الخليفة عمر بن الخطاب، وبروز قوى تتقنع، بالاسلام، في وقت اخذت تعيد تركيب مواقعها السياسية، علىاساس قبلي.
فقد بدا حينذاك يتبلور الفرز في هذا الاتجاه،، وبعض النخب، خصوصا غير المتحدر من اصول(ارستقراطية)، حدد مواقعه بشكل ثابت لمصلحة التيار الذي يمثله علي (نذكر، هنا المقداد وعمار بن ياسر وابا ذرالغفاري وعبداللّه بن مسعود، على سبيل المثال) اما النخب (القرشية)، فقد خرجت من، تراثها الى دائرة التطاحن علىالسلطة، او التوافق عليها، او في، احسن الاحوال (الاعتزال) عنها.
ولكن عمار بن ياسر، لم يكن في وسعه الخروج من دوره، سواء، كانت السلطة تمثله بالمطلق ام على مسافة منه، وفيالمقابل، لن يكون في وسع الخلافة تجاهل شخصية صحابي مثله، وان، لم تكن على تطابق معه في النهج والاسلوب.
كان ذلك شانه، مع ابي بكر الذي نفتقد الى معطيات كافية بشان العلاقة بين، الاثنين، لا سيما وان قصر عهد هذا الخليفة، لايتيح للمؤرخ، معرفة الكثير عنه.
ويكاد دوره، اي عمار، يقتصر حينذاك على، ما اورده الواقدي عن تحريضه للمسلمينفي يوم اليمامة، احد، اعظم (ايام) الردة، تلك الحركة التي دفعت الاتجاهات، السياسية في المدينة الى التخلي عن(صراعاتها) والتوحد حول، الخليفة لانقاذ الاسلام من الخطر.
وقد ورد في الرواية ان عمارا اعتلى صخرة (واشرف يصيح:امن الجنة تفرون؟ انا عمار بن، ياسر هلموا الي). وقد قطعت اذنه (وهو يقاتل اشد، القتال)(39).
ــــــــــــــــــــ
الهوامش:
26 - كتاب المغازي، ج1، ص 24.
27 - المصدر نفسه، ج1، ص 139، 147، 150، 151.
28 - المصدر نفسه، ج1، ص 334.
29 - المصدر نفسه، ج1، ص 397.
30 - المصدر نفسه، ج1، ص 407.
31 - ابن سعد، الطبقات، ج3، ص 250.
32 - تاريخ اليعقوبي، ج2، ص 78.
33 - الواقدي، ج3، ص 880.
34 - المصدر نفسه، ج3، ص 882.
35 - راجع احداث السقيفة في تاريخ الطبري.
36 - مقالة المستشرق الالماني عن الانصار ، (1973).
37 - تاريخ اليعقوبي، ج2، ص 115، 124.
38 - ابن سعد، ج3، ص 254.
39 - كان ذلك سنة احدى وعشرين للهجرة. المصدر نفسه، ، ج3 ص 275.