شهادته
وبلغت معاناته الذروة، وهو يرى تهدم البناء الذي كان له دور بارز في ارتفاع صرحه، على انقاض الشرك والظلم والاستغلال، ولم يعد في، جعبته سوى خيار النهاية، وفقا لتقاليد البيت الذي نشا فيه، واستجابة للمبادىء التي قاتل من اجلها حتى آخر الرمق.
ولعلهاستشرف تلك اللحظة، فخرج الى الناس فيما يرويه ابو، مخنف مستغرقا في مناجاة مع الخالق، وكانه يشكو اليه، ما يحدث من (فتن)، وما يتهدد الاسلام من شر الاخطار: (اللهم انك تعلم اني لو اعلم ان رضاك في ان اقذف بنفسي في، هذا البحر لفعلته، اللهم انك تعلم اني لو اعلم ان رضاكفي ان، اضع ظبية سيفي في صدري ثم انحني عليها حتى تخرج من، ظهري لفعلت، واني لا اعلم اليوم عملا هو ارضىلك من جهاد، هؤلاء الفاسقين، ولو اعلم ان عملا من الاعمال هو ارضى لك، منه لفعلته) (91).
لقد ضاق صدر عمار، ولم يعد في وسعه الانتظار، فتوجه الى، صاحب اللواء(92) ، الجنة تحت ظلال السيوف والموت في اطراف الاسل، وقد، فتحت ابواب السماء...)(93).
وتتابع الرواية فتقول:ان، الاثنين خرجا ولم يرجعا(94).
ولكن مقتل عمار كان له، دوي لم يكن لصاحبه، خصوصا وان حديثا كان لا يزال يروىعن، الرسول، بان عمارا تقتله الفئة الباغية(95) وسواء كان ذلك، فعلا من(الاحاديث)، او مما تردد بالتواتر، فان موتعمار لم، ينفصل عن تلك (المقولة) لما احدثه من صدمة حتى في، صفوف اعدائه(96).
كانت الشمس قد خيمت الى الغروب، كما في رواية الواقدي،، حين خرج عمار الى ساحة القتال، فخاض معركتهالاخيرة، وصوته المتهدج يخترق جلبة السلاح، قبل ان يسقط مخضبا، بدمائه. وكان المتربص به استنادا الى روايةالواقدي رجلا، يدعى(ابا غادية المزني)، وقد طعنه برمح، حتى اذا وقع (اكب عليه رجل آخر فاحتز راسه)(97).
، وفي احدى الروايات ان عمرو بن العاص احتج على قتله لدى، معاوية الذي سوغ ذلك بما نسب له: (انما قتل عمارا منجاء به)(98).
وهو تسويغ لا يختلف عما سبقه بشان مقتل عثمان، ودائما هناك متسع لمثل هذا التلفيق، او محاربةالاخر، بسلاحه. ونتيجة لذلك، فان مقتل عمار لم يحرج معاوية، وربما، كان في حينه يهيء لمقتل صحابي آخر، او ايرجل يعترض، طريقه او يحول دون تحقيق اهدافه.
ولكن مقتل عمار كان له وقعه الاليم جدا لدى الامام الذي، تراءت له صورة اكثر وضوحا للواقع الصعب، والاسلام حينذاك، تتم مصادرته ليصبح مجرد اداة للحكم، بعدما كان الاخير جزءا، من حركة الرسالة ووسيلة تعبير عما يحمله مشروعها من قيم، الحق والعدالة والحرية والتسامح.
وليست سوى شهور حتى، اغتيل قطب آخر كبير من اصحاب علي وهو الاشتر النخعي، وكان معاوية وراء ذلك(99).
لم يكن هذا من الصحابة او من، الرواد في الاسلام، ولكنه انخرط فيه بعمق، وبرزت له مواقف مبكرة تتناقض مع الانحراف منذ مطلع الثلاثينات.
ثم اصبح، متاثرا بافكار علي بعد الثورة علىعثمان، وملازما له حتى مقتله، وهو ذاهب الى تنفيذ مهمة في مصر.
كان معاوية منتظرا خبر الاشتر، الاكثر خطورة آنذاك بين، اصحاب علي، فلما بلغه ذلك، سارع الى القول، وقد اخذت، به نشوة الظفر: (كانت لعلي بن ابي طالب يدان يمينان، قطعت، احداهما يوم صفين يعني عمار بن ياسر وقطعت، الاخرىاليوم يعني الاشتر)(100).
ويوم قتل عمار كان في الواحدة والتسعين، او في الرابعة، والتسعين من عمره(101).
ــــــــــــــــــــ
الهوامش:
91 - الطبري، ج5، ص 38.
92 - المنقري، وقعة صفين، ص 205. الطبري، ج5، ص 38.
93 - هاشم بن عتبة بن ابي وقاص. ، 224 - الطبري، ج5، ص 41.
94 - المكان نفسه.
95 - ابن سعد، الطبقات، ج3، ص 229، الطبري، ج5، ص 91.
96 - الطبري، ج5 ص 91.
97 - قتل في صفر من سنة 37 للهجرة. ابن سعد، ج3، ص ، 258.
98 - الطبري، ج5، ص 41.
99 - ابن الاثير ج3، ص 303.
100 - الطبري، ج5، ص 96.
101 - ابن سعد، ج3، ص 259.