عرض مشاركة واحدة
قديم 2018/01/28, 06:36 PM   #1
الشيخ عباس محمد

موالي بلاتيني

معلومات إضافية
رقم العضوية : 3773
تاريخ التسجيل: 2015/04/07
المشاركات: 1,723
الشيخ عباس محمد غير متواجد حالياً
المستوى : الشيخ عباس محمد is on a distinguished road




عرض البوم صور الشيخ عباس محمد
افتراضي الحرية قراءة في مرتكزاتها الاسلامية

مفهوم الحرية في الكتاب والسنة
*بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ امين ترمس العاملي
مقدمة:
إن الكلام عن الحرية يعدّ في هذه العصور من الأمور التي يصعب على الباحث الإحاطة بها؛ لما لها من مساحة واسعة على الساحة الإنسانيّة بشكل عام، خصوصاً وأن هذه الكلمة لها وقعها الخاص على السامع لها والمدرك لمعناها، حتى أضحت من الكلمات التي يأنس بها عامة الناس، وتدغدغ أحاسيسهم، وتتلاعب بمشاعرهم وعواطفهم، ويرفعها شعاراً كلّ من يريد تغييراً أو إصلاحاً في أي مجتمع كان، ويفخر بها كل من تنسب إليه من أصحاب الفكر والمعرفة.
إن الأديان السماوية ـ وخصوصاً الإسلام منها ـ كان هدفها الأول تحقيق السعادة للناس والأخذ بأيديهم نحو بر الأمان، قال تعالى:﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْميزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَديدَ فيهِ بَأْسٌ شَديدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزيزٌ﴾ الحديد: 25
*

* 9

وبما أن الإسلام دين ودولة، كان لا بدّ من وضع الأنظمة وسنّ القوانين لتوصل الإنسان إلى السعادة. وإذا ما أُريد لأي تشريع أن يكون عادلاً، فلا بد وأن يكون منبثقاً عن الحرية، وإلا أخطأ هدفه، وفَقَدَ غايته.
ثم إن الحرية في المفهوم الإسلامي تارة تطلق ويراد بها معنى مقابل العبودية، وأخرى يراد بها الاختيار والقبول والرضا، فيقال: فلان حرٌّ في تصرفاته، أي غير مجبر أو مكره، وقد تطلق ويراد بها غير ما ذُكر. وكيف كان، فإن الإسلام جاء لرفع القيود والأغلال عن الناس التي هي نتاج فعل الظالمين، قال تعالى: ﴿الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتي‏ كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾ الاعراف:157
ومن هنا كانت المجتمعات ترزح تحت نير عادات خرافية وممارسات وهمية أثقلت كاهل البشرية ومنعتها من التقدم والتطور، حتى سطعت شمس الإسلام على البسيطة، فدعا، بل عمل على التحرّر من هذه التقاليد ونبذها وراء ظهورهم، وأمر باتّباع صوت العقل، ونداء الفكر النابعين من الفطرة السليمة، وقد ورد في القرآن الكريم ما يناهز التسعمائة آية تدعو إلى النظر والتأمل وتحكيم العقل.

*10

عودٌ على بدء

إن كلمة الحرية لم ترد في القرآن الكريم، وإنما وردت مرادفاتها ومشتقّاتها كحرّ، وتحرير، ومحرر، وعتق، وما شابه ذلك.

وأمّا الآيات التي وردت في القرآن الكريم، ويمكن الاستدلال بها على الحرية في المفهوم الإسلامي، فيمكن تقسيمها إلى عدة مجموعات.

المجموعة الأولى: الآيات التي تدل على حرية الاعتقاد وأن الناس لا يجبرون على اعتناق أي عقيدة، ولا يُكرهون على اتخاذ الدين، وهي آيات عديدة أبرزها

1ـ ﴿ لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏ لاَ انْفِصامَ لَها وَ اللَّهُ سَميعٌ عَليمٌ ﴾ البقرة ٢٥٦
2- ﴿ وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنين ﴾ ‏يونس ٩٩
3ـ ﴿ قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتاني‏ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُون َ﴾ هود ٢٨
4ـ ﴿ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دينُكُمْ وَ لِيَ دينِ ﴾ الكافرون 1 ـ ٦
5ـ ﴿ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ ديني‏ فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ

* 11

*فالْخاسِرينَ الَّذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْليهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبين﴾ الزمر : 14 ـ ١٥

6ـ ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً﴾ الكهف : ٢٩

المجموعة الثانية: الآيات التي تدلّ على أن الإنسان حرٌّ في اختياره، ثم عليه تقع مسؤولية هذا الاختيار، ويتحمّل جميع تبعات قراراته . والمحاسبة من قبل الله تعالى يوم القيامة للخلْق ستكون على أساس ما منحهم من القدرة على الاختيار بين الفعل والترك، وهذا ما يصطلح عليه بالحرية التشريعية، وبالتالي فإن الناس مسؤولون عن أفعالهم، ومحاسبون عما يصدر عنهم، فتكون الحرية هي الأساس في اختيار الإنسان، والاختيار هو السبب في المسؤولية والجزاء .

وبعبارة أخرى: الحرية في المفهوم الإسلامي لا تنفكّ عن الالتزام ولا تفارقها المسؤولية، بل يصح أن يقال : لا اختيار بلا مسؤولية، ولا مسؤولية بلا اختيار، أي بلا حرية . وهذا يقال أيضاً حتى في الفضائل الأخلاقية، فإنها تحتاج في تحقق فضيلتها إلى إرادة واختيار، فالتقوى، والصدق، والعفّة، والأمانة، وأمثالها لا تعدّ فضيلة إلا إذا اختارها الإنسان بنفسه من غير إجبار أو إكراه .

*12

ومن هنا بحث علماء العقيدة الإسلامية هذا الترابط والالتزام بين الحرية والمسؤولية بحثاً مستفيضاً، وأثبتوا على أساسه رؤيتهم لتفسير العمل والسلوك الإنساني، ومدى ارتباطه بعدل الله تعالى، وخلصوا إلى أن الذي لا يملك اختياراً كالمضطر والمجبر والمكره لا يحاسب أمام الله تبارك وتعالى .

ومن الآيات التي تدل على ذلك أي على أنه حر ومسؤول قوله تعالى :

1ـ ﴿ مَنِ اهْتَدى‏ فَإِنَّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ وَ ما كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ الإسراء : ١٥
2ـ ﴿ وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى‏ فَإِنَّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرين﴾‏ النمل : ٩٢
3ـ ﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى‏ نَفْسي‏ وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحي‏ إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَميعٌ قَريب ﴾ ‏سبأ : ٥٠
4ـ ﴿ قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفيظ ﴾ الأنعام : ١٠٤
5ـ ﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَميعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُون ﴾ المائدة : ١٠٥
6ـ ﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى‏ فَإِنَّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكيلٍ ﴾ يونس : 108
7ـ ﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ في‏ شِقاقٍ فَسَيَكْفيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّميعُ الْعَليم ﴾ ‏البقرة : ١٣٧

* 13

8 ـ ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ بَصيرٌ بِالْعِباد َ﴾ آل عمران: ٢٠
9ـ ﴿قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ ‏البقرة: ١٣٩
10ـ ﴿إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذيراً لِلْبَشَرِ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهينَةَ﴾*المدثر: 35 ـ ٣٨
11ـ ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبيراَ﴾ الإسراء: ٧
12ـ ﴿ قُلْ أَطيعُوا اللَّهَ وَ أَطيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبينَُ﴾*النور: ٥٤
المجموعة الثالثة: الآيات التي أشارت إلى اختلاف الناس في الآراء، وأن الله تعالى لم يخلقهم لكي يجبرهم على رأي واحد، وإنما الاختلاف بين الناس هو في طبيعتهم، والله بعث الأنبياء والرسل وأنزل الكتب حتى يحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه، ومن هذه الآيات:
1ـ ﴿وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفينََ﴾ هود: ١١٨

* 14

2ـ ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفي‏ شَكٍّ مِنْهُ مُريب﴾ هود : ١١٠ والآية نفسها وردت في سورة فصّلت الآية 45 .
3ـ ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُريدُ﴾ البقرة : ٢٥٣
4ـ ﴿كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ وَ مُنْذِرينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فيمَا اخْتَلَفُوا فيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فيهِ إِلاَّ الَّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ﴾البقرة : ٢١٣
5- ﴿وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون﴾ ‏النحل : ٦٤
6ـ ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ في‏ ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَميعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فيهِ تَخْتَلِفُون﴾ ‏المائدة : ٤٨

* 15

7ـ ﴿ وَ لا تَكُونُوا كَالَّتي‏ نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى‏ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فيهِ تَخْتَلِفُونَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدي مَنْ يَشاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُون﴾ ‏النحل : 92 ـ ٩٣

والحرية في المفهوم الإسلامي ووفق المعايير الإسلامية حرية مقيدة بجملة قيود، انطلاقاً من الخلفية العَقَديّة التي يتبناها المسلم :

وأقول : هي حرية مقيدة : : : نعم، مقيدة؛ لأن الحرية المطلقة تعني الفوضى المطلقة والفساد المطلق، ولا يقبل بها عاقل متدبّر.

وفي الوقت الذي دعا الإسلام فيه إلى الحرية والتحرّر أقرّ العبودية لله تعالى وحده لا شريك له، واعتبرها تحرراً واقعياً من كل أنواع الخضوع لغير الله تبارك وتعالى، بل اعتبر الإسلام أن عبادة غير الله تعالى والخضوع له دليل على الجهل وعدم إعمال العقل، فالحرية في نظر الإسلام تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى، لتنتهي إلى التحرر الكامل، بينما في نظر غيره تبدأ بالتحرر لتنتهي إلى العبودية المذلّة، قال تعالى : ﴿قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ﴾ الأنبياء : 66 ـ 67

وانطلاقاً من هنا شرّع الله تعالى الأحكام بواجباتها ومحرّماتها ورغّب المكلفين بالالتزام بقوانين الشريعة والتقيّد بها، قال تعالى :

﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا

* 16

الْأَنْهارُ خالِدينَ فيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظيم﴾‏ النساء :13

وفي حال المخالفة والعصيان ـ والإنسان قادر على ذلك بمقتضى الحرية التكوينية الممنوحة له والمخلوقة فيه ـ فإنه حينئذٍ يتحمل كامل المسؤولية، وعليه تبعات ذلك في الدنيا والآخرة، قال تعالى : ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبيد﴾ِ فصلت :46

وفي آية أخرى : ﴿وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ في‏ عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسيباً مَنِ اهْتَدى‏ فَإِنَّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ وَ ما كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾الإسراء : 13 ـ 14 ـ ١٥

ومن هنا فإن العقل لا يسمح للإنسان بأن يقبل رأياً بخصوص المسائل العَقَديّة، إذا لم يكن هذا الرأي ثابتاً بالدليل والحجّة، وهذا مسلّم به؛ لأن الأصول العَقْديّة لا بد من العلم بها، والتقليد لا يكسبها علماً : وهل يُعقل أن يبني الإنسان كل نشاطاته الفردية والاجتماعية على أساس عقيدة لا يَعرف صحتها من بطلانها، وإلى أيّ حدّ هي مطابقة للواقع؟!

ورأي الإسلام في هذه المسألة ـ أي التقليد في أصول العقائد ـ لا يختلف عن رأي العقل، فإن الإسلام نادى صراحة وبشكل واضح بحرمة التقليد في أصول العقائد، وطالب الناس وشدّد عليهم بأن يحققوا في المسائل العَقْديّة، ولا يقبلوا أي عقيدة إذا لم تكن مبنية على أساس الدليل والبرهان والعلم، ومما ورد في القرآن الكريم حول هذه المسألة

* 17

قوله تعالى:

﴿ وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا في‏ أَصْحابِ السَّعير﴾ الملك: ١٠

بل ذمّ الله تعالى اتّباع غير العلم، يقول تعالى: ﴿ سَيَقُولُ الَّذينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ‏ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُون﴾ ‏الأنعام: ١٤٨

ويقول في آية أخرى: ﴿وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلا﴾الإسراء: ٣٦

وقد ورد في الأحاديث الشريفة منع صريح عن تبعية الفرد للآخرين كيفما كان، ومن دون علم أو حجّة، فعن الإمام الصادق عليه السلام في وصيته لأحد أصحابه قال: "لا تكن إمّعة" ثم أردف موضحاً: " أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس"1 ، أي لا تقلّد الناس وتقول ما يقولون وتفعل ما يفعلون.

ومما روي أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "من دخل في هذا الدين بالرجال أخرجه منه الرجال كما أدخلوه فيه، ومن دخل فيه بالكتاب والسنّة زالت الجبال قبل أن يزول"2.

وهذا نهي صريح من الإمام عليه السلام عن اتّباع الأشخاص والانسياق خلفهم بلا دليل، وفيه دعوةٌ لاتباع الكتاب والسنة لأنهما يشتملان على البرهان والحجّة.

* 18

ثم في هذا الحديث الشريف إشارة مهمة، وهي أنه من أخذ دينه من الرجال كان دينه مرهوناً بهم، فقد يتغيّرون، فيتغيّر دينه تبعاً لهم، وأما إذا بنى دينه على الكتاب والسنة، فإنهما ثابتان لا يتغيّران، وهذا الأمر لا يحتاج إلى مزيد بيان, لأن الوقائع على الأرض أكّدت ذلك قديماً وحديثاً.

وكم كان توصيف أمير المؤمنين عليه السلام رائعاً عندما خاطب كميل بن زياد النخعي بقوله: "الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق"3.

ثم إن هذه الدعوة إلى رفض التقليد واتباع العلم وإعمال العقل، لا تؤتي ثمارها وتظهر فوائدها إلا في أجواء من الحرية والرفق واللين، لأن الذي يُحاصر فكرياً ويُقمع ويُكبّل بقيود الاستبداد لا يمكنه أن يهتدي إلى مدارج الكمال، أو أن يعطي البشرية طاقاته الفكرية الكامنة في داخله.

إن الإسلام أعطى الفرد حرية الفكر بشكل مطلق، حتى يُعْمِلَ هذا العقل ويختار طريقه الصحيح الموصل إلى السعادة، ولم يعطه حرية العقيدة كيفما كان، وهذا القيد ضروري, لأن حرية الفكر تقود الإنسان نحو الاعتقاد القائم على أساس الدليل والبرهان، بينما حرية العقيدة تؤدي ـ بل أدّت إلى ذلك في العديد من المجتمعات القديمة والحديثة ـ إلى اعتقاد باطل وتقليد خاطئ، واتباع عاطفي للهوى والغرائز, فلذا لا
*

* 19

يحق له اختيار العقائد الباطلة والقائمة على أساس الوهم والتعصّب والخرافة، لأن في ذلك مخالفةً صريحةً للعقل .

ومن هنا رفض الإسلام رفضاً قاطعاً كل ما يقوم على أساس التقليد والعادة واتباع الآخرين، قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهيمَ إِذْ قالَ لِأَبيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفينَ قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُون﴾ الشعراء: 69 ـ ٧٤ .

وقال في آية أخرى: ﴿وَ إِذا قيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُون﴾‏ البقرة: ١٧٠ .

وما كل ذلك إلا لأن العقائد التي لا تقوم على أسس فكرية تعد استعباداً وأسراً، ولا تتماشى مع حرية الفكر، فلذا دعا الإسلام إلى محاربتها واجتثاثها، واعتبر ذلك جهاداً على طريق تحرير الإنسان .

وأما من لم تتضح له المحجّة، وإن قرعت سمعه الحجّة، فإنه يتحمّل كامل المسؤولية على اختياره، قال تعالى: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى‏ وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْميعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَميعٌ عَليم﴾ ‏الأنفال: ٤٢

وبناءً على ما تقدّم، فإن الإسلام لم يتخوّف من الحوار الفكري المبتنى على أسس علمية صحيحة، حتى لو كان هذا الحوار يطاول أخطر المسائل وأكثرها حساسية على مستوى العقيدة، بل لقد دعا الإسلام

* 20

بصوت عال إلى طرح المسائل العلمية بالأسلوب الهادئ الرصين بعيداً عن التشنّج والعصبية، قال تعالى :﴿ ادْعُ إِلى‏ سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتي‏ هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدين﴾ ‏النحل : ١٢٥

﴿وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتي‏ هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون﴾ ‏العنكبوت : ٤٦

وعندما تفشل جميع الأساليب من حوار ومجادلة، وكلمة طيبة، وغير ذلك من الطرق المؤدّية إلى اتباع العقل، فلن يقف الإسلام حينئذٍ مكتوف الأيدي يرى الضلال والفساد ينتشر في المجتمعات ولا يتدخّل، بل من الضروري وبمقتضى الحكمة، والعدل، والرحمة، واللطف الإلهي أن يتدخّل الإسلام لرفع الفساد وإزالة أسبابه من المجتمعات، ولو عن طريق استخدام القوة إنْ أمكن كآخر وسيلة لرفع الظلم عن الناس . ولا أعني باستخدام القوة هنا أن الإسلام يفرض رأيه وعقيدته على الناس بالإكراه والإجبار، وإلا يكون الإسلام قد رفع عقيدة بالقوة ليفرض أخرى بالأسلوب نفسه، وإنما أقصد أن الإسلام يرفع الموانع، ويحطّم القيود ويحرر العقل ويجعله طليقاً حتى تتاح له الفرصة للتفكير بحرية لاختيار الطريق الصحيح الذي يوصله إلى السعادة .

ومن هنا يمكننا فهم فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أساس أنهما ضمانتان للمجتمع من أيّ تفسّخ أو انحلال . وكمثال

* 21

على ذلك أذكر حديثاً واحداً ليتبيّن لنا ما أرمي إليه، فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمأنه قال: "مَثَلُ الفاسق في القوم، كمثل قوم ركبوا سفينة فاقتسموها، فصار لكل إنسان منها نصيب، فأخذ رجل منهم فأساً، فجعل ينقر في موضعه، وقال له أصحابه: أي شيء تصنع، تريد أن تغرق وتغرقنا؟

قال: هو مكاني. فإن أخذوا على يده نجوا ونجا، وإن تركوه غرق وغرقوا"4.

ويمكن أن نلمس هذا بشكل واضح مما جرى مع الأنبياء عليهم السلام، فإبراهيم عليه السلام بعد أن استنفد جميع الوسائل السلمية عمد إلى تحطيم الأصنام، ووضع القوم أمام واقع لا يُعذر أحدهم فيه إذا لم يفكر بعقله بعد أن أزال من أمامهم الموانع ورفع الحجب، قال تعالى على لسان النبي إبراهيم عليه السلام وهو يخاطب القوم: ﴿أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ﴾ الأنبياء: 66 ـ ٦٧
وكذلك فعل نبي الله موسى عليه السلام عندما انحرف بعض قومه وعبدوا العجل، فما كان أمام النبي موسى عليه السلام إلا أن ألقى العجل في النار.

ولنا في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير مثال ودليل، فبعد عدة سنوات من بعثته الشريفة، وإقامة دولة الإسلام، لم يتعامل مع أهل الكتاب كما

* 22

تعامل مع المشركين في مكة، ففي الوقت الذي سمح فيه لأهل الكتاب من اليهود والمسيحيين بممارسة عقيدتهم وطقوسهم، لم يسمح للمشركين بإبقاء أصنامهم في مكة؛ لذا أمر بتحطيمها، بل حطّم قسماً منها بنفسه الشريفة في أوّل فرصة سمحت له بذلك.

وهذا الأسلوب الشرعي هو أسلوب عقلي يعمل عليه العقلاء، فإن العقل لا يقبل ببقاء مريض جسماني فيه مرض معدٍ وقاتل ينتشر بين الناس ويقضي على المجتمع من دون أن يحرّك ساكناً، فكيف إذا كان المريض مريضاً روحياً وهو أكثر خطراً وأشدّ فتكاً في المجتمعات من سابقه؟

وبما أن الإنسان يمتلك قوة الفكر التي منحها الله تعالى له، فإنه يستطيع من خلالها دراسة القضايا، ثم الاختيار والانتخاب على أساس الحجة والدليل.

وأما في الأحاديث الشريفة، فقد وردت هذه الكلمة "الحرية" وبعض مشتقاتها، ولكن في عدد قليل نسبة إلى سائر الأحاديث، وأما مرادفاتها فهي كثيرة إلى حدّ ما.

فعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها، فليس فيه كثيرُ مستمتع، أوّلها: الوفاء، والثانية: التدبّر، والثالثة: الحياء، والرابعة: حسن الخلق، والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال الحرية "5.

* 23

وعن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في وصيته لولده الحسن عليه السلام أنه قال: "...ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"6.

وليس المراد بالحرية هنا مقابل الرقية والملكية للآخرين؛ لأن هذا الأمر خارج عن قدرة الفرد في حال كونه عبداً، ولا أن الإمام يدعو العبيد للتمرد على مالكيهم، وإنما المراد: أنك حر في أصل وجودك وخلقتك، وأنك حر في مقابل سائر الخلق، فلا تتنازل عنها للآخرين، ولا تبحث عنها عندهم.

وعنه عليه السلام أنه قال: "إن قوماً عبدوا الله رغبةً، فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً، فتلك عبادة الأحرار"7.

وفي هذا الحديث جمع أمير المؤمنين عليه السلام بشكل واضح بين العبودية والحرية، معتبراً أن العبادة الحقيقية هي التي تُجرّد من المصلحة النفعية من طمع وخوف.

وعنه عليه السلام أنه قال: "الحرية منزّهة من الغل والمكر"8.

وقال أيضاً: "من قضى ما أسلف من الإحسان، فهو كامل الحرية"9.

* 24

وعنه عليه السلام أيضاً: "من ترك الشهوات كان حراً"10.

وعن الإمام الحسين عليه السلام أنه قال يوم العاشر من محرم على أرض كربلاء، وهو يخاطب الذين احتشدوا لحربه: "ويْحَكم يا شيعة آل أبي سفيان، إنْ لم يكن لكم دينٌ، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه"11 .
وهذه دعوة صريحة من الإمام الحسين عليه السلام للمناوئين له إلى أن يكونوا ملتزمين بالقيم الإنسانية والمعايير الأخلاقية حتى لو لم يلتزموا بأي دين.

وعن أبي الحسن الحذّاء، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام، فسألني رجلٌ ما فعل غريمك؟ قلت: ذاك ابن الفاعلة، فنظر إليّ أبو عبد الله عليه السلام نظراً شديداً. قال: قلت: جُعلت فداك إنه مجوسي، أمه أخته، فقال: أوليس ذلك في دينهم نكاحاً؟!12 .
*
والإمام الصادق عليه السلام في هذا الحديث يعترض على صاحبه؛ لأنه لم يحترم ما هو في دين واعتقاد الآخرين وإن كان هذا الدين والاعتقاد لا يُقبل عندنا.

وعن الإمام علي عليه السلام أنه قال: "أيها الناس إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أَمَةً، وإن الناس كلهم أحرار"13

* 25

هذا إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت بهذا المعنى.

ومن أراد المزيد في هذا المجال، فليقف على كلمات الإمام علي عليه السلام، خصوصاً في العهد الذي كتبه إلى مالك الأشتر حين ولاّه مصر، وكذلك وصية الإمام الكاظم عليه السلام إلى هشام بن الحكم حول العقل وأهمية دوره.14

* 26

هوامش
*1- معاني الأخبار للشيخ الصدوق، ص: 266.
2-* كتاب الغيبة للنعماني، ص: 22.
3-* نهج البلاغة، قسم قصار الحكم، رقم 147.
4-* تفسير الثعالبي: ج 3، ص: 123.
5-* كتاب الخصال للشيخ الصدوق، ص: 284، باب الخمس، ح 33.
6-* نهج البلاغة، الكتاب 31.
7- المصدر نفسه، قصار الحكم، رقم 237.
8- *غرر الحكم، رقم 1485.
9-* المصدر نفسه، رقم 8721.
10-* تحف العقول، ص: 99.
11-مقتل الحسين عليه السلامللخوارزمي، ج2، ص: 33، واللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس، ص: 119.
12-* الكافي للشيخ الكليني، ج 7، ص: 240، كتاب الحدود باب 47، ح3.
13-* المصدر نفسه، ج8، ص: 69، ح 26.
14- المصدر نفسه، ج1، ص: 13، كتاب العقل والجهل، الباب الأول، ح12.
*
*
*يتبع


hgpvdm rvhxm td lvj;.hjih hghsghldm hghsghldm hgpvdm



رد مع اقتباس