عرض مشاركة واحدة
قديم 2015/02/22, 07:12 AM   #5
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي

عبادته


إِن المفهوم من العبادة عند إِطلاق هذه الكلمة، هو العبادة البدنيّة من الصوم والصلاة والحجّ وما سواها، ممّا يحتاج الى نيّة القربة، وكان الصادق عليه السلام في هذه العبادات زين العبّاد.
وهذا السبط في التذكرة يقول: قال علماء السير: قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرياسة، وابن طلحة في المطالب يقول: ذو علوم جمّة وعبادة موفرة وأوراد متواصلة، ويقول: ويقسّم أوقاته على أنواع الطاعات، وهذا أبو نعيم في الحلّية يقول: أقبل على العبادة والخضوع، وآثر العزلة والخشوع ولها عن الرياسة والجموع، ومالك بن أنس يقول: كان جعفر بن محمّد لا يخلو من إِحدى ثلاث خصال: إِمّا صائماً، وإِمّا قائماً، وإِمّا ذاكراً، وكان من عظماء العبّاد، واكابر الزهّاد، الذين يخشون اللّه عزّ وجل، ولقد حججت معه سنة فلمّا استوت به راحلته عند الإحرام كان كلّما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد أن يخرّ من راحلته، وقال: ما رأت عين ولا سمعت اُذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق عِلماً وعبادةً وورعاً، الى سوى هؤلاء ممّن ذكره بالعبادة، وقد مرّت عليك هذه الكلمات وغيرها من ص 72 الى 80.
ولا بدعَ اذا كان أبو عبد اللّه أفضل الناس عبادةً وزهادةً وورعاً، فإن عبادة المرء على قدر علمه بالخالق تعالى «إِنما يخشى اللّهَ من عباده العلماء» وأنت على يقين بما كان عليه الصادق من العلم والمعرفة.
هذا شأن الصادق عليه السلام في العبادة البدنيّة، وأمّا شأنه في العبادة الفضلى التي هي أزكى أثراً، وأذكى نشراً، وهي عبادة العلم ونشره وتعليمه والإرشاد والإصلاح، فلا يخفى على أحد، وقد عرفت من حياته العلميّة ومن




[ 240 ]



الفصول الماضية من سيرته وأخلاقه قدر جهاده في التعليم والتثقيف وجهوده في البِرّ والعطف والتربية الأخلاقيّة، وستعرف في المختار من كلامه عظيم اهتمامه في حمل الناس على جدد الطريق، والعمل بالشريعة الغرّاء، والاتّصاف بفاضل الأخلاق.


شجاعته


لم تكن في أيام الصادق عليه السلام حروب يحتم الدين عليه الولوج في ميادينها ليعرف الناس عنه تلك الملكة النفسيّة، نعم إِن هناك ظواهر تدلّ على تلك القوى الراسخة، أمثال قوّة القلب واطمئنان الجأش، ومرَّ عليك في مواقفه مع المنصور وولاته من ص 114 - 122، وفي جَلده ما ينبيك عن تلك القوى الغريزيّة، والجُبن إِنما يكون من ضعف القلب وضعة النفس.
ومن ثمّ يجب أن يكون المؤمن شجاعاً غير هيّاب ولا نكل في سبيل الدين والحق، وكلّما كان أقوى إِيماناً كان أبسل وأشجع ولذلك تجد أنصار الحسين عليه السلام وأهل بيته أبهروا العالم في موقفهم يوم الطف، وما كانوا أشجع الناس لولا ذلك الإيمان الثابت واليقين الراسخ والتوطين على معانقة الرماح والسيوف، ولو كان أهل الكوفة على مثل ذلك اليقين والتوطين والإيمان لما استقامت الحرب الى ما بعد الظهر في ذلك اليوم القايض وهم سبعون ألفاً والأنصار سبعون نفراً، ولما كان قتلى أهل الكوفة لا يحصون عدّاً.
ومن ههنا يستبين لنا أن الصادق لا بدّ أن يكون أشجع الناس وأربطهم جأشاً اذا دارت رحى الحرب، الحرب التي يفرضها الدين وتدعو اليها الشريعة.




زهده


إِن الزهد في الشيء الإعراض عنه، وإِنما يكون للزهد شأن يكسب الزاهد فضلاً اذا كان المزهود فيه ذا قيمة وثمن كبير، وأمّا اذا كان المزهود فيه بخساً لا شأن له يحتسب، ولا قدر يعرف فلا فضل في الزهد فيه، أترى أن الزهد في الشابّة النضرة الخلوق التي جمعت ضروب المحاسن والجمال وفنون الآداب والكمال، مثل الزهد في الشوهاء السوداء العجوز؟ ولا سواء.
فإنما يكون الزهد في الدنيا والإعراض عن لذائذها وشهواتها ذا شأن يزيد المرء قدراً ورفعة، ويكشف عن نفس زكيّة نقيّة، إِذا نظرها فوجدها حسناء فاتنة الشمائل، فولاها ظهره معرضاً عن جمالها، صافحاً عن محاسنها طالباً بهذا الإعراض ما هو أفضل عند اللّه وأطيب، وأمّا اذا تجلّت لديه سافرة النقاب مجرَّدة الثياب، واختبرها معاشرة وصحبة، فرآها شوهاء عجفاء، بارزة العيوب، قبيحة المنظر، سيّئة المخبر والمعشر، لا تفي بوعد، ولا تركن الى عهد، ولا تصدق بقول، ولا تدوم على حال، ولا يسلم منها صديق، فكيف لا يقلاها ساخطاً عليها متوحّشاً منها، وكيف لا ينظرها بمؤخّر عينيه نظر المحتقر الملول.
وإِننا على قصر نظرنا، وقرب غورنا، لنعرف حقّاً أن حياتنا هذه وإِن طالت صائرة الى فناء، وعيشنا وإِن طاب آيل الى نكَد، وإِننا سوف ننتقل من هذه الدار البائدة الى تلك الدار الخالدة، ومن هذا العيش الوبيل الى ذلك العيش الرغيد، وإِن كلّ لذَّة في هذه الحياة محفوفة بالمكاره، وكلّ عيش مشوب بالكدر، وإِن هذه الأيام الزائلة مزرعة لهاتيك الأيام الباقية، وهل يحصد المرء غير ما يرزع، ويجازى بغير ما يفعل، وهل يجمل بالعاقل البصير أن يفتن بمثل هذه الحياة واللذائذ ؟.




[ 242 ]



نعم إِنما يحملنا على الافتتان بهذه العاجلة والصفح عن تلك الحياة الآجلة مع فناء هذه وبقاء تلك، اُمور لا يجهلها البصير وإِن لم تكن عذراً عند مناقشة الحساب، ألا وهي حُبّ العاجل، وضعف النفس، ونضارة هذه المناظر والزينة اللتين نصبتهما الدنيا فخاخاً وحبائل، ولو شاء الانسان - وإِن كان أضعف الناس بصراً وبصيرة - أن ينجو من هذه الشباك لكان في مقدوره، فكيف بأقوى الناس عقلاً وأثبتهم يقيناً، وأدراهم بالحقائق، حتّى كأنّ الأشياء لديه مكشوفة الغطاء بل لو كشف لهم الغطاء لما ازدادوا يقيناً.
فإعراض محمّد وآل محمّد عليه وعليهم الصلاة والسلام عن هذه الحياة الدانية ورغائده إِلا بقدر البلغة لتلك الحياة الباقية، إِنما هو لأنهم يرونها أخصّ من حثالة القرظ وأنجس من قراضة الجلم(1) فما كانوا عليه شيء غير الزهد، بل هو أعلى من الزهد، غير أن ضيق المجال في البيان يلجؤنا الى تسميته بالزهد، تنظيراً له بما نعرفه من نفائس هذا الوجود ومن الإعراض عنها.
فلا نستكبر بعد أن نعرف هذا عن محمّد وعترته ما يرويه أهل الحديث والسيرة والتأريخ عن صادقهم أنه كان يلبس الجبّة الغليظة القصيرة من الصوف على جسده والحلّة من الخزّ على ثيابه، ويقول: نلبس الجبّة للّه والخزّ لكم(2).
أو يُرى وعليه قميص غليظ خشن تحت ثيابه، وفوقه جبَّة صوف، وفوقها قميص غليظ.
أو يُطعم ضيفه اللحم ينتفه بيده، وهو يأكل الخلّ والزيت ويقول: إِن هذا



_______________

(1) القرظ: ورق السلم، والجلم: ما يجزّ به.
(2) لواقح الأنوار للشعراني عبد الوهاب بن أحمد الشافعي: 1/28، ومطالب السؤل.




[ 243 ]



طعامنا وطعام الأنبياء(1) الى أمثال ذلك من مظاهر الزهد.
إِن من قبض عنان نفسه بيده وتجرّد عن هذه الفتن الخدّاعة في هذه الحياة، واتجه بكلّ جوارحه لرضى خالقه يستكثر منه اذا روت الثقات عنه هذا وأشباهه.
وما كان غريباً ما يُروى من دخول سفيان الثوري(2) عليه، وكان على الصادق عليه السلام جبَّة من خز، وقول سفيان منكراً عليه: إِنكم من بيت نبوَّة تلبسون هذا، وقول الصادق عليه السلام: ما تدري أدخِل يدك، فاذا تحته مسح من شعر خشن، ثمّ قال عليه السلام: يا ثوري أرني ما تحت جبّتك، فإذا تحتها قميص أرقّ من بياض البيض، فيخجل سفيان ثمّ يقول له الصادق عليه السلام: يا ثوري لا تكثر الدخول علينا تضرّنا ونضرّك(3).
وأمثال هذا ممّا روي عنه جمّ كثير، نحن في غنى عن سرده، فإنَّ سادات أهل البيت أعلى كعباً، وأرفع شأناً، من أن تحسب مثل هذه الشؤون فضائلهم الجليلة.
وأمّا سفيان فجدير بالامام ألا يرغب في دنوّه مادام يخالفه في رأيه وسيره وعمله وعلمه، وأمّا الضرر على الامام وعليه من دخوله على الامام، فلأن السلطان قد وقف للإمام بالمرصاد، لا يريد أن يظهر له شأن ولا أن يكثر عليه التردّد، فالدخول عليه يجعل الإمام معرّضاً للخطر، ويجعل الداخل معرّضاً للأذى، لا سيّما اذا كان الداخل ذا شأن ومقام بين الناس كسفيان الثوري.



_______________

(1) الكافي: 6/328/4.
(2) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الكوفي الشهير وله رواية عن الصادق عليه السلام ولد أيّام عبد الملك، ومات بالبصرة عام 161.
(3) لواقح الأنوار ومطالب السؤل وحلية الأولياء: 3/193 وقد روي إِنكاره على الإمام حسن بزّته من طرق عديدة وفي كيفيّات عديدة، ولعلّها كانت متعدّدة، فلا يمتنع في الثانية بعد جوابه في الاُولى، وممّن روى ذلك أبو نعيم في حلية الأولياء: 3/193 وقد ذكرنا مناظرة الصادق عليه السلام الطويلة في الزهد مع سفيان وجماعته في اُخريات حياته العلميّة.

<h2>إِعلامه عن الحوادث
</h2><h4>كم أعلمَ عليه السلام عن حادثة وقعت بعد حين، وعن أمر حدث كما أخبر عن مُلك بني العبّاس مراراً قبل أن يكون، جاءه أبو مسلم الخراساني وناجاه سرّاً بالدعوة له، وأعلمه أنّ خلقاً كثيراً أجابوه، فقال له الصادق عليه السّلام: إِن ما تؤمي اليه غير كائن لنا حتّى يتلاعب بها الصبيان من وُلد العبّاس، فمضى الى عبد اللّه بن الحسن فدعاه، فجمع عبد اللّه أهل بيته وَهَمَّ بالأمر، ودعا أبا عبد اللّه عليه السلام للمشاورة، فلما حَضر جلس بين السفّاح والمنصور، وحين استُشير ضرب على منكب السفّاح، فقال: لا واللّه أو يملكها هذا أوّلاً، ثمّ ضرب بيده الاُخرى على منكب المنصور وقال: وتتلاعب بها الصبيان من وُلد هذا، ووثب
</h4><h4></h4><h1>[ 257 ]</h1><h4></h4><h4>وخرج من المجلس(1).
ودعاه عبد اللّه بن الحسن مرّة اُخرى للبيعة لابنه محمّد، فقال له: إِنَّ هذا الأمر واللّه ليس لك ولا لابنيك، وإِنمّا هو لهذا - يعني السفّاح - ثمّ لهذا - يعني المنصور - ثمّ لولده من بعده، ولمّا خرج تبعه أبو جعفر فقال: أتدري ما قلت يا أبا عبد اللّه ؟ قال عليه السلام: اي واللّه أدريه وأنّه لكائن(2) وما اكثر ما أنبأ عن مُلك بني العبّاس.
كما أخبر عن مقتل محمّد وإِبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن في مواطن عديدة، فقد قال يوماً: مروان خاتم بني اُميّة، وإِن خرج محمّد بن عبد اللّه قُتل(3).
وقال لمحمّد يوماً وقد فاخره: فكأني أرى رأسك وقد جيء به ووضع على حجر بالزنابير، يسيل منه الدم الى موضع كذا وكذا، فصار محمّد إِلى أبيه فأخبره بمقالة الصادق عليه السلام فقال أبوه: آجرني اللّه فيك، إِن جعفراً أخبرني أنك صاحب الزنابير(4).
وأخبر بذلك يوماً اُمّ الحسين بنت عبد اللّه بن محمّد بن علي بن الحسين عليهم السلام وقد سألته عن أمر محمّد فقال عليه السلام: فتنة يقتل فيها محمّد عند بيت رومي، ويقتل أخوه لاُمّه وأبيه بالعراق، وحوافر فرسه في الماء(5).
</h4>
_______________
<h5>(1) كتاب الوصيّة للمسعودي: ص 141.
(2) مقاتل الطالبيّين في تسمية المهدي: 255 - 256، بحار الأنوار: 47/131.
(3) كتاب الوصيّة.
(4) أعلام الورى للطبرسي طاب ثراه: 269، وهو الفضل بن الحسن بن الفضل من أعيان علماء الاماميّة وهو صاحب مجمع البيان في تفسير القرآن الذي لم يؤلّف مثله، وله مؤلّفات اُخر جليلة، توفي ليلة النحر في سبزوار عام 548.
(5) المقاتل في تسمية المهدي.




[ 258 ]



وقال لعبد اللّه بن جعفر بن المسور(2): أرأيت صاحب الرداء الأصفر - يعني أبا جعفر ؟ - قلت: نعم، قال عليه السلام: فإنّا واللّه نجده يقتل محمّداً، قلت: أوَيقتل محمّد ؟ - قال: نعم، قلت في نفسي: حسده وربّ الكعبة، ثمّ ما خرجت واللّه من الدنيا حتّى رأيته قُتل.
وأخبر بذلك أباهما عبد اللّه بن الحسن وقال له: إِن هذا - يعني المنصور - يقتل محمّداً على أحجار الزيت، ثمّ يقتل أخاه بعده بالطفوف(3) وقوائم فرسه في الماء(4).
فكان كلّ ما أخبر به من أمر العبّاسيّين ومحمّد وإِبراهيم قد وقع لم يفلت منه شيء.
وأخبر شعيب بن ميثم(5) بدنوّ أجله معرضاً به، قال له أبو عبد اللّه عليه السلام: يا شعيب ما أحسن بالرجل يموت وهو لنا ولي ويعادي عدوّنا، فقال له شعيب: واللّه إِني لأعلم أن من مات على هذا أنه لعلى حال حسنة، قال عليه السلام: يا شعيب أحسن الى نفسك، وصِل قرابتك، وتعاهد إِخوانك، ولا تستبدل بالشيء تقول: أدّخر لنفسي وعيالي، إِن الذي خلقهم هو الذي يرزقهم، قال شعيب: قلت في نفسي نعى إِليَّ واللّه نفسي، فما لبث بعد ذلك إِلا شهراً فمات(6).



_______________
(2) الظاهر أنه المخرمي نسبة الى جدّه مخرمة أب المسور، وعدّوه في أصحاب الصادق عليه السلام، الخرائج والجرائح: ص 244.
(3) جمع طف: الشاطي.
(4) المقاتل في تسمية المهدي: 255 - 256.
(5) التمّار: وهو من أصحاب الصادق عليه السلام وقد كتبنا عنه في رسالتنا في ميثم التمّار ص 78.
(6) بحار الأنوار: 47/126، المناقب: 3/350.




[ 259 ]



وأخبر أيضاً إِسحاق بن عمّار الصيرفي الثقة الجليل بأنه سيموت في شهر ربيع، وذلك أن إِسحاق قال للصادق عليه السلام يوماً: إِن لنا أموالاً ونحن نعامل الناس، وأخاف إِن حدث أن تفرّق أموالنا، فقال عليه السلام: إِجمع أموالك في شهر ربيع، فمات إِسحاق في شهر ربيع(1).
وأخبر عن قتل مولاه المعلّى بن خنيس، الذي قتله داود بن علي قبل أن يقتله بسنة وأخبر بجميع ما يجري عليه(2).
وسأل أبا بصير عن أبي حمزة الثمالي فقال: خلفته صالحاً، قال عليه السلام: إِذا رجعت اليه فاقرأه السلام واعلمه أنه يموت كذا من شهر كذا، قال أبو بصير: فرجعت، فما لبث أبو حمزة أن مات في تلك الساعة من ذلك اليوم(3).
ولمّا بلغه خبر قتل زيد وصلبه وهرب ابنه يحيى الى خراسان واجتماع الناس عليه، قال عليه السلام: إِنه يُقتل كما قُتل أبوه ويُصلب كما صُلب أبوه، فقُتل بالجوزجان وصُلب(4).
هذا بعض إِعلامه عن حوادث لم تقع فوقعت كما أعلَم، وأمّا إِعلامه عن حوادث وقعت فما أوفرها، وهاك شيئاً منها:
وقع شجار بين مهزم بن أبي بريدة الأسدي الكوفي - وهو من رواة الامام عليه السلام - وبين اُمّه، وقد جاء بها حاجّاً، وكان كلامه معها في المدينة وقد أغلظ لها فيه، فلمّا أصبح ودخل على الصادق عليه السلام ابتدأه قائلاً: يا مهزم مالَك وللوالدة أغلظت لها البارحة، أوَما علمت أن بطنها منزل سكنته، وأن



_______________
(1) مناقب ابن شهراشوب: 3/368، وأعلام الورى: ص 270.
(2) الكشي، في أحوال المعلّى: ص 239.
(3) كشف الغمّة: 3/190.
(4) ينابيع المودّة: ص 381.




[ 260 ]



حجرها مهد قد مهدته، وأن ثديها وعاء قد شربته، فلا تغلظ لها(1).
ودخل عليه رجل فقال له الصادق عليه السلام: تُب الى اللّه ممّا صنعت البارحة، وكان الرجل نازلاً بالمدينة في دار وفيها وصيفة أعجبته، فلمّا انصرف ليلاً ممسياً واستفتح الباب وفتحت له مدَّ يده الى ثديها وقبض عليه(2).
وقَدِمَ رجل من أهل الكوفة على أهل خراسان يدعوهم الى ولاية الصادق عليه السلام، فاختلفوا في الأمر، فبين مطيع مجيب، وبين جاحد مُنكر، وبين مُتورّع واقف، فأرسلوا من كلّ فِرقة رجلاً الى الصادق عليه السلام لاستيضاح الحال، ولمّا كانوا في بعض الطريق خلا واحد منهم بجارية كانت مع بعض القوم، وعندما وصلوا الى الصادق عليه السلام عرفوه بالذي أقدمهم، فقال للمتكلّم وكان الذي وقع على الجارية: من أيّ الفِرق الثلاث أنت ؟ قال: من الفِرقة التي ورعت، قال عليه السلام: فأين كان ورعك يوم كذا وكذا مع الجارية ؟ فسكت الرجل(3).
وهذه لعمر الحقّ اكبر دلالة على الامامة لو كان القوم طالبين للحقّ وللدلالة على الامامة.
وكان عبد اللّه النجاشي(4) زيديّاً منقطعاً الى عبد اللّه بن الحسن فدخل يوماً



_______________
(1) بصائر الدرجات: 5/263.
(2) بصائر الدرجات: 5/262.
(3) المناقب، وبصائر الدرجات: 5/265، وهو لمحمّد بن الحسن الصفّار القمّي أبي جعفر الأعرج، وكان وجهاً في القمّيين ثقة عظيم القدر، قليل السقط في الرواية، وله كتب كثيرة جليلة، توفي عام 290 وعدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الحسن العسكري عليه السلام، وكتابه بصائر الدرجات جليل كبير النفع.
(4) أبو بجير الأسدي وكان والياً على الأهواز وبعد أن رجع الى القول بإمامة الصادق صار يراسله ويسأله عن أشياء من وظيفته وللامام كتاب كبير أرسله اليه جواب سؤال منه ذكر فيه ما يجب عليه من السيرة والعمل الصالح، وسنذكره في وصاياه.




[ 261 ]



على الصادق عليه السلام فقال له: ما دعاك الى ما صنعت، تذكّر يوم مررت على باب قوم فسال عليك الميزاب من الدار فسألتهم فقالوا: إِنه قذر، فطرحت نفسك في النهر بثيابك فكانت منشغة(1) عليك فاجتمع عليك الصبيان يضحكون منك ويصيحون عليك، فلمّا خرج من عند الصادق عليه السلام قال: هذا صاحبي دون غيره(2).
وجاء من عدَّة طرق دخول أبي بصير على الصادق عليه السلام وهو جُنب، وردع الصادق إِيّاه، ومن ذلك ما قاله أبو بصير، قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام وأنا اُريد أن يعطيني من دلالة الامامة مثلما أعطاني أبو جعفر عليه السلام، فلمّا دخلت وكنت جُنباً قال: يا أبا محمّد تدخل عليّ وأنت جُنب، فقلت: ما عملته إِلا عمداً، قال: أوَلم تؤمن ؟ قلت: بلى ولكن ليطمئن قلبي، فقلت عند ذلك: إِنه إِمام(3).



_______________
(1) تسيل.
(2) المناقب، وبصائر الدرجات: 5/265 وغيرها.
(3) وسائل الشيعة: 1/490/3 وذكر بعض أحاديث أبي بصير الشيخ المفيد في الارشاد، وابن بابويه




إِعلامه عمّا في النفس
إِن نفس المؤمن اذا زكت من درن الرذائل عادت كالمرآة الصافية، ينطبع فيها كلّ ما يكون أمامها، ولذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه، هذا شأن المؤمن فكيف بإمام المؤمنين ؟
<h4>وهذا الخضر عليه السلام أعاب السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام، وما


</h4>[ 262 ]

<h4>كان ذلك منه إِلا علماً منحه به العليم سبحانه.
<h4>فلا عجب إِذن لو أعلم الامام الصادق عليه السلام عن أشياء تتلجلج في النفوس عند إِظهار الكرامة.
<h4>دخل عمر بن يزيد(1) على الصادق وهو وجع وقد ولاه ظهره ووجهه للحائط، وقد قال عمر في نفسه: ما أدري ما يصيبه في مرضه لو سألته عن الامام بعده، فبينا يفكّر في ذلك إِذ حوَّل الصادق اليه وجهه، فقال: الأمر ليس كما تظنّ ليس عليَّ من وجعي هذا بأس(2).
<h4>ودخل عليه الحسن بن موسى الحنّاط(3) وجميل بن درّاج(4) وعائذ الأحمسي(5) وكان عائذ يقول: إِن لي حاجة اُريد أن أسأله عنها، فلمّا سلّموا وجلسوا أقبل بوجهه على عائذ فقال عليه السلام: من أتى اللّه بما افترض عليه لم يسأله عمّا سوى ذلك، فغمزهم فقاموا، فلمّا خرجوا قالوا له: ما كانت حاجتك ؟ قال: الذي سمعتم، لأني رجل لا اُطيق القيام بالليل فخفت أن اكون مأخوذاً به فأهلك(6).
<h4>ودخل عليه شهاب بن عبد ربّه(7) وهو يريد أن يسأله عن الجنب يغرف
(1) هل هما اثنان بيّاع السابري والصيقل أو واحد ؟ وعلى كلّ حال فهما من أصحاب الصادق وثقات رواته.



_______________

(2) بصائر الدرجات: 5/259.
(3) بالحاء المهملة والنون المضاعفة، وقيل بالخاء المعجمة والياء التحتانيّة المضاعفة، هو من أصحاب الصادق، روى عنه بعض الثقات وأصحاب الاُصول ومن لا يروي إِلا عن ثقة كابن أبي عمير.
(4) النخعي وسنذكره في مشاهير الثقات من رواته.
(5) بالذال المعجمة في آخره، روى عنه الثقات مثل جميل بن درّاج، وأن للصدوق طرقاً اليه.
(6) الشيخ في التهذيب والأمالي، والكليني في الكافي، والصدوق في الفقيه، ذكروه في كتاب الصلاة في القيام بالليل، المناقب: 3/226.
(7) الكوفي من أصحاب الصادق ورواته الثقات.


</h4>[ 263 ]

<h4>الماء من الحِبّ فلمّا صار عنده اُنسي المسألة، فنظر اليه أبو عبد اللّه عليه السلام فقال: يا شهاب لا بأس أن يغرف الجنب من الحِبّ(1).
<h4>وكان جعفر بن هارون الزيّات(2) يطوف بالكعبة وأبو عبد اللّه عليه السلام في الطواف، فنظر اليه الزيّات وحدّثته نفسه فقال: هذا حجّة اللّه، وهذا الذي لا يقبل اللّه شيئاً إِلا بمعرفته، فبينا هو في هذا التفكير إِذ جاءه الصادق من خلفه فضرب بيده على منكبه ثمّ قال: «أبشراً واحداً منّا نتبعه إِنّا إِذن لفي ضلال وسعر»(3) ثمّ جازه(4).
<h4>ودخل عليه خالد بن نجيح الجواز(5) وعنده ناس فقنّع رأسه وجلس ناحية وقال في نفسه: ويحَكم ما أغفلكم عند مَن تتكلّمون، عند ربّ العالمين، فناداه الصادق عليه السلام: ويحَك يا خالد إِني واللّه عبد مخلوق ولي ربّ أعبده، إِن لم أعبده واللّه عذبني بالنار، فقال خالد: لا واللّه لا أقول فيك أبداً إِلا قولك في نفسك(6).
<h4>وهذا قليل من كثير ممّا روته الكتب الجليلة من الكرامات والمناقب لأبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام، ولا غرابة لو ذكرت له الكتب أضعاف ما
(1) بصائر الدرجات: 5/63، بحار الأنوار: 47/68/13.



_______________

(2) لم ينصّوا على توثيقه ولكنهم استظهروا أنه من الحسان.
(3) القمر: 24.
(4) بصائر الدرجات: 5/65، بحار الأنوار: 47/70/25.
(5) نجيح بالجيم المعجمة والحاء المهملة، وأمّا الجواز فقيل بالمعجمتين الجيم والزاء مع تضعيف الواو، وقيل بإهمالها، وقيل بإعجام الاولى وإِهمال الثانية، وقيل: الجوان بالجيم والنون، وعلى كلّ حال فقد حسنت عقيدته بعد هذا الردع، وعدّوه في أصحاب الكاظم عليه السلام وهو المشير الى الرضا عليه السلام من بعده.
(6) بصائر الدرجات: 5/261.


</h4>[ 264 ]

<h4>استطردناه بعد أن أوضحنا في صدر البحث أمر الكرامة.
<h4>أجل بعد أن فاتتنا المشاهدة فلا طريق لنا لإثبات الكرامة غير النقل وإِن المشاهدة لا تكون إِلا لأفراد من معاصري النبي أو الامام، فكيف حال الناس مع الكرامة من أهل الأجيال المتأخّرة، هذا سوى الناس من أهل زمانه ممّن لم يحضر الكرامة، فهل طريق إِذن لإثباتها غير النقل، فالنقل إِن صحَّ لاعتبار المؤلّف والراوي فذلك المطلوب، وإِلا فاعتباره اذا بلغ التواتر لقضيّة خاصّة أو لقضايا يحصل من جميعها الاعتقاد بصدور الكرامة من النبي أو الوصي وإِن لم يحصل الاعتقاد بواحدة منها خاصّة.


</h4></h4></h4></h4></h4></h4></h4></h4></h4>
</h5></b></b></b>


توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس