عرض مشاركة واحدة
قديم 2015/02/22, 07:00 AM   #1
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي الامام جعفر صادق ع بالتفصيل

فهذا الذهبي(1) في ميزان الاعتدال (1: 192) يقول عند ذكره للامام: «جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين الهاشمي أبو عبد اللّه أحد الأئمة الأعلام برّ صادق كبير الشأن».
وممّا قاله النووي(2) في تهذيب الأسماء واللغات (1: 149 - 150): «روى عنه محمّد بن إسحاق، ويحيى الأنصاري، ومالك، والسفيانيان، وابن جريح، وشعبة، ويحيى القطّان، وآخرون، واتفقوا على إِمامته وجلالته وسيادته، قال عمرو بن أبي المقدام: كنت إِذا نظرت إِلى جعفر بن محمّد علمت أنه من سلالة النبيّين».

_______________

(1) الحافظ المحدّث شمس الدين أبو عبد اللّه محمّد بن أحمد بن عثمان الدمشقي المولود عام 673، والمتوفى عام 748.
(2) الحافظ أبو زكريا محيي الدين بن شرف الدين المتوفى عام 676.




[ 72 ]



وابن خلكان(1) يقول: «أحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الاماميّة، وكان من سادات أهل البيت، ولقّب بالصادق لصدقه في مقالته، وفضله أشهر من أن يذكر». وقال: «وكان تلميذه أبو موسى جابر بن حيّان الصوفي الطرطوسي(2) قد الّف كتاباً يشتمل على ألف ورقة تتضمّن رسائل جعفر الصادق وهي خمسمائة رسالة، وقال: ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر، وجدّه زين العابدين، وعمّ جدّه الحسن بن علي عليهم السّلام، فللّه درُّه من قبر ما أكرمه وأشرفه».
والشبلنجي(3) في نور الأبصار ص 131 يقول: «ومناقبه كثيرة تكاد تفوت حدّ الحاسب، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الكاتب» وقال: وفي حياة الحيوان الكبرى فائدة قال ابن قتيبة في كتاب أدب الكاتب: وكتاب الجفر كتبه الامام جعفر الصادق ابن محمّد الباقر، فيه كلّ ما يحتاجون الى علمه الى يوم القيامة، والى هذا الجفر أشار أبو العلاء بقوله:
لقد عجبوا لآل البيت لما***أتاهم علمهم في جلد جفر
فمرآة المنجم وهي صغرى***تريه كلّ عامرة وقفر
وقال محمّد الصبّان(4) في كتابه إِسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور



_______________

(1) أحمد بن محمّد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان ولد بمدينة اربل قرب الموصل وانتقل إِلى الموصل وسافر إِلى حلب ودخل الديار المصرية وناب في القضاء عن السخاوي، ثم ولّي القضاء بالشام عشر سنين وتوفي بدمشق عام 681، ترجم له في طبقات الشافعيّة: 5/14، وفي فوات الوفيّات: 1/55، والسيوطي في حسن المحاضرة: 1/267، ومعجم المطبوعات: 1/98 وغيرها.
(2) سوف نشير في حياته العلميّة إِلى علم الصادق عليه السّلام بالكيمياء وأخذ جابر عنه وشيء من حياة جابر.
(3) مؤمن بن حسن مؤمن المصري. وشبلنج قرية من قرى مصر، اشتغل في طلب العلوم في الجامع الأزهر ولد في نيف و1250 ولم تذكر وفاته.
(4) محمّد بن علي الصبّان الشافعي الحنفي ولد بمصر، ترجم له في معجم المطبوعات: 2/1194.




[ 74 ]



الأبصار ص 208: «وأمّا جعفر الصادق فكان إِماماً نبيلاً. وقال: وكان مجاب الدعوة إِذا سأل اللّه شيئاً لا يتمّ قوله إِلا وهو بين يديه».
والشعراني(1) في لواقح الأنوار يقول: «وكان سلام اللّه عليه اذا احتاج الى شيء قال: يا ربّاه أنا أحتاج الى كذا، فما يستتمّ دعاؤه إِلا وذلك الشيء بجنبه موضوع».
وسبط ابن الجوزي(2) في تذكرة خواصّ الاُمّة ص 192 يقول: «قال علماء السير: قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرئاسة» وقال: «ومن مكارم أخلاقه ما ذكره الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار عن الشقراني مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: خرج العطاء أيام المنصور ومالي شفيع، فوقفت على الباب متحيّراً وإِذا بجعفر بن محمّد قد أقبل فذكرت له حاجتي، فدخل وخرج واذا بعطائي في كمّه فناولني إِيّاه، وقال: إِن الحسن من كلّ أحد حسن وأنه منك أحسن لمكانك منّا، وأن القبيح من كلّ أحد قبيح وأنه منك أقبح لمكانك منّا، وإِنما قال له جعفر ذلك لأن الشقراني كان يشرب الشراب، فمن مكارم أخلاق جعفر أنه رحّب به وقضى له حاجته مع علمه بحاله، ووعظه على وجه التعريض، وهذا من أخلاق الأنبياء».
ومحمّد بن طلحة(3) في مطالب السؤل ص 81 يقول: «وهو من عظماء أهل البيت وساداتهم ذو علوم جمّة، وعبادة موفرة، وأوراد متواصلة، وزهادة



_______________

(1) أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري الشافعي المصري المعروف بالشعراني دخل القاهرة عام 911 وبها توفى، ترجم له في معجم المطبوعات: 1/1126.
(2) أبو مظفر شمس الدين يوسف بن قزغلي الواعظ الشهير الحنفي المولود عام 582 أو 581 والمتوفى عام 654 في 21 ذي الحجّة.
(3) كمال الدين الشافعي المتوفى عام 654.




[ 74 ]



بيّنة، وتلاوة كثيرة، يتبع معاني القرآن الكريم، ويستخرج من بحره جواهره، ويستنتج عجائبه، ويقسّم أوقاته على أنواع الطاعات، بحيث يحاسب عليها نفسه، رؤيته تذكّر الآخرة، واستماع حديثه يزهد في الدنيا، والاقتداء بهديه يورث الجنّة، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوّة، وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذرّيّة الرسالة. وقال: وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوت عدد الحاصر، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر، حتّى أنه من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى صارت الأحكام التي لا تدرك عللها والعلوم التي تقصر الأفهام عن الاحاطة بحكمها، تضاف اليه، وتروى عنه».
وفي صواعق ابن حجر(1): «ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان».
وفي ينابيع المودّة(2) طبع اسلامبول ص 380 «ومن أئمة أهل البيت أبو عبد اللّه جعفر الصادق» وقال: «وكان من سادات أهل البيت» وقال: «وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السالمي في طبقات المشايخ الصوفيّة: جعفر الصادق فاق جميع أقرانه من أهل البيت، وهو ذو علم غزير، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تامّ في الشهوات، وأدب كامل في الحكمة».
واليك ما يقوله الحافظ أبو نعيم(3) في حلية الأولياء (3: 192): «ومنهم الامام الناطق والزمام السابق، أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق أقبل على العبادة



_______________

(1) المحدّث شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي نزيل مكّة.
(2) هي للشيخ سليمان بن إِبراهيم المعروف بخواجه كلان، وكان فراغه من تأليفها تاسع شهر رمضان عام 1291.
(3) أحمد بن عبد اللّه الاصبهاني المتوفى عام 430.




[ 75 ]



والخضوع: وآثر العزلة والخشوع، ونهى(1) عن الرياسة والجموع» ثم روى عن عمرو بن أبي المقدام كلامه السابق، وروى عن الهياج بن بسطام(2) قوله: «وكان جعفر بن محمّد يطعم حتى لا يبقى لعياله شيء».
ويقول ابن الصبّاغ المالكي(3) في الفصول المهمّة: «كان من بين اخوته خليفة أبيه ووصيّه، والقائم بالامامة من بعده برز على جماعته بالفضل وكان أنبههم ذكراً، وأجلّهم قدراً، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته وذكره في سائر البلدان»، وقال في اُخريات كلامه: «مناقب أبي عبد اللّه جعفر الصادق فاضلة، وصفاته في الشرف كاملة، وشرفه على جهات الأيام سائلة، وأندية المجد والعزّ بمفاخره ومآثره آهلة».
وهذا السويدي(4) في سبائك الذهب ص 72 يقول: «كان من بين اخوته خليفة أبيه ووصيّه، نقل عنه من العلوم ما لم ينقل عن غيره، وكان إِماماً في الحديث» وقال: «ومناقبه كثيرة».
وفي عمدة الطالب(5) ص 184: «ويقال له عمود الشرف، ومناقبه متواترة بين الأنام، مشهورة بين الخاصّ والعامّ، وقصده المنصور الدوانيقي بالقتل مراراً فعصمه اللّه منه».



_______________

(1) هكذا في الأصل وفي كشف الغمّة عن الحلية «ولها» وكلّ منهما يناسب المقام.
(2) التميمي الحنظلي الهروي رحل إِلى العراق وسمع علماء عصره ودخل بغداد وحدّث بها، مات عام 177، ترجم له الخطيب البغدادي: 14/80.
(3) نور الدين علي بن محمّد بن الصبّاغ المالكي المولود عام 784 والمتوفى عام 855، ترجم له السخاوي في الضوء اللامع: 5/283 وذكر مشايخه وكتابه الفصول المهمّة في معرفة الأئمة وهم اثنا عشر.
(4) محمّد أمين البغدادي، وآل السويدي من البيوتات الرفيعة في بغداد حتّى اليوم وهو من رجال القرن الماضي، وفرغ من كتابه في شوّال عام 1229.
(5) للنسّابة الشهير جمال الدين أحمد بن علي الداودي الحسني المتوفى عام 828.




[ 76 ]



والشهرستاني(1) في المِلل والنِّحل: «وهو ذو علم غزير في الدين والأدب، كامل في الحكمة، وزهد بالغ وورع تامّ في الشهوات، وقد أقام بالمدينة مدّة يفيد الشيعة المنتمين اليه، ويفيض على الموالين أسرار العلوم، ثم دخل العراق وأقام بها مدّة ما تعرَّض للامامة قط(2) ولا نازع أحداً في الخلافة، ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط، ومن تعلّى إِلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط، وقيل من آنس باللّه توحّش عن الناس، ومن استأنس بغير اللّه نهبه الوسواس».
واليافعي(3) في مرآن الجنان ( 1: 304) فيمن توفي عام 148، يقول: «وفيها توفي الامام السيد الجليل سلالة النبوّة ومعدن الفتوّة، أبو عبد اللّه جعفر الصادق، ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر، وجدّه زين العابدين وعمّ جده الحسن بن علي رضوان اللّه عليهم أجمعين، وأكرم بذلك القبر وما جمع من الأشراف الكرام اُولي المناقب، وإِنما لقّب بالصادق لصدقه في مقالته، وله كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها، وقد الّف تلميذه جابر بن حيّان الصوفي كتاباً يشتمل على ألف ورقة يتضمّن رسائله وهي خمسمائة رسالة».
والصدوق طاب ثراه(4) يروي في أماليه المجلس ال 42 عن سليمان بن داود



_______________

(1) أبو الفتح محمّد بن أبي القاسم كان فقيهاً متكلّماً على مذهب الأشعري، دخل بغداد عام 510 وأقام بها ثلاث سنين وكانت ولادته بشهرستان وبها توفي عام 548، ترجم له في الوفيّات ومعجم الاُدباء وطبقات السبكي وروضات الجنّات ومفتاح السعادة وغيرها.
(2) يراد من الامامة هنا الامامة التي يعقدها الناس، وإِلا فهو إِمام اجتمع عليه الناس أو تفرّقوا، تعرّض للأمر أو صفح.
(3) أبو محمّد عبد اللّه بن سعد بن علي بن سليمان عفيف الدين اليافعي اليماني نزيل الحرمين المتوفى عام 768.
(4) محمّد بن علي بن بابويه القميّ المحدّث الجليل صاحب التآليف القيمّة الكثيرة البالغة نحواً من 300 مؤلّف، وقد ورد بغداد عام 352 وسمع منه شيوخ الطائفة على حداثة سنّه، ومات بالري عام 381.




[ 77 ]



المنقري(1) عن حفض بن غياث(2) انه كان إِذا حدّثنا عن جعفر بن محمّد عليه السلام قال: «حدّثني خير الجعافرة».
وروى الصدوق أيضاً فيه مسنداً عن علي بن غراب(3) انه كان إِذا حدّثنا عن جعفر بن محمّد قال: «حدّثنا الصادق عن اللّه، جعفر بن محمّد...».
وروى أيضاً في ال 32 مسنداً عن محمّد بن زياد الأزدي(4) قال: سمعت مالك بن أنس(5) يقول: أدخل الى الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام فيقدّم لي مخدّة، ويعرف لي قدراً، وكان لا يخلو من إِحدى ثلاث خصال إمّا صائماً وإِما قائماً وإِما ذاكراً، وكان من عظماء العبّاد واكابر الزهّاد، الذين يخشون اللّه عزّ وجل وكان كثير الحديث، طيّب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اخضرَّ مرَّة، واصفرَّ اُخرى، حتّى ينكره مَن يعرفه، ولقد



_______________

(1) المعروف بابن الشاذكوني وهو ممن روى عن الصادق عليه السلام وعن رواته وكان من ثقات الرواة.
(2) الكوفي القاضي، وسيأتي في الثقات من مشاهير رواة الصادق عليه السّلام، والظاهر أنه من أهل السنّة.
(3) ابن عبد العزيز وهو ممّن روى عن الصادق عليه السلام واستظهر بعض الرجاليين أنه من أهل السنّة إلا أن ابن النديم في الفهرست عدّه من مشايخ الشيعة الذين رووا الفقه عن الأئمة عليهم السلام.
(4) هو المعروف بابن أبي عمير وقد لقي الكاظم والرضا والجواد عليهم السلام، حبسه الرشيد ليلي القضاء، وقيل ليدلّه على مواضع الشيعة وأصحاب الكاظم عليه السّلام، وقيل ضرب أسواطاً ونالت منه فلم يقر، وقد رويت عنه كتب مائة رجل من أصحاب الصادق عليه السلام، وله مصنّفات كثيرة، وهو ممّن لا يروي إلا عن ثقة، وقد أجمع العصابة على قبول مراسيله، وهو من العصابة الذين أجمعوا على تصحيح ما يصحّ عنهم، وقد اتفق الفريقان على وثاقته وعلوّ منزلته، وقيل: إِنما قبلوا مراسيله لأنه دفن كتبه يوم حبس فتلفت فروى ما علق منها في ذهنه، فمن ثمّ قد ينسى الراوي وإِن حفظ الرواية، مات عام 217.
(5) المدني أوّل المذاهب الأربعة، وهو ممّن أخذ عن الصادق عليه السلام كما سيأتي في أصحاب الصادق عليه السلام، وهو مذهب أهل الحجاز والنسبة اليه مالكي.




[ 78 ]



حججت معه سنة فلمّا استوت به راحلته عند الاحرام كان كلّما همَّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد أن يخرّ عن راحلته، فقلت: يابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولابدّ لك من أن تقول، فقال:يابن عامر كيف أجسر أن أقول لبّيك اللّهمّ لبّيك، وأخشى أن يقول عزّ وجل: لا لبّيك ولا سعديك.
وابن شهراشوب(1) في كتابه المناقب في أحوال الصادق عليه السّلام يروي عن مالك بن أنس أيضاً قوله: ما رأت عين ولا سمعت اُذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادةً وورعاً، وزاد الصدوق في أماليه في ال 81 قوله: كان واللّه إِذا قال صدق.
وقال أيضاً: وذكر أبو القاسم البغار في مسند أبي حنيفة(2) قال الحسن بن زياد: سمعت أبا حنيفة وقد سئل: من أفقه من رأيت ؟ قال: جعفر بن محمّد، لمّا أقدمه المنصور بعث إِليّ فقال: يا أبا حنيفة إِن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد فهيّئ له مسائلك الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة، ثم بعث إِليّ أبو جعفر وهو في الحيرة فأتيته فسلّمت عليه، فأورد إِليّ المجلس فجلست ثم التفت اليه فقال: يا أبا عبد اللّه هذا أبو حنيفة، قال: نعم أعرفه، ثمّ التفت إِليّ فقال: القِ على أبي عبد اللّه من مسائلك، فجعلت القي عليه فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعناكم، وربما تابعناهم، وربما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على الأربعين مسألة، فما أخلّ منها



_______________

(1) محمّد بن علي المازندراني رشيد الدين من مشايخ الطائفة وفقهائها وكان شاعراً بليغاً منشأً وله مصنّفات عديدة منها: معالم العلماء، وكتاب أنساب آل أبي طالب، وكتاب مناقب آل أبي طالب، وهو الذي أشرنا اليه في الأصل، وكثيراً ما نروي عنه في هذا الكتاب.
(2) النعمان بن ثابت ثاني المذاهب لأهل السنّة وهو أيضاً ممّن أخذ عن الصادق عليه السلام، والنسبة اليه حنفي، وسيأتي الكلام عليه في أصحاب الصادق عليه السلام.




[ 79 ]



بشيء، ثمّ قال أبو حنيفة: أليس أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.
بل ان المنصور نفسه وهو مَن علمت كيف يحرّق الارم(1) على أبي عبد اللّه عليه السّلام قد ينطق بالحقّ، عند ذكره أو مقابلته، فيقول: هذا الشجى المعترض في حلقي من أعلم الناس في زمانه(2) ويقول اُخرى: وإنه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا(3) ويقول تارة: إنه ليس من أهل بيت نبوّة إِلا وفيه محدّث، وإن جعفر بن محمّد محدّثنا اليوم(4) ويقول مخاطباً للصادق عليه السّلام: لانزال من بحرك نغترف، واليك نزدلف، تبصر من العمى، وتجلو بنورك الطخياء(5) فنحن نعوم في سحاب قدسك، وطامي بحرك(6)، ويقول لحاجبه الربيع: وهؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إِلا جاهل لا حظّ له في الشريعة(7).
ويقول إسماعيل بن علي بن عبد اللّه بن العبّاس: دخلت على أبي جعفر المنصور يوماً وقد اخضلّت لحيته بالدموع، وقال لي: ما علمت ما نزل بأهلك فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين، قال: فإنّ سيّدهم وعالمهم وبقيّة الأخيار منهم توفي، فقلت ومَن هو ؟ قال: جعفر بن محمّد، فقلت: أعظم اللّه أجر أمير المؤمنين وأطال لنا بقاءه، فقال لي: إِن جعفراً كان ممّن قال اللّه فيه «ثمّ اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا» وكان ممّن اصطفى اللّه، وكان من السابقين في



_______________

(1) كركع - الأضراس، ولتولّد الحرارة فيها من حكّ بعضها ببعض يقال يحرقها، وهو مثَل يضرب لمن يبلغ به الغيظ شدّته لأن الحكّ من آثاره.
(2) كتاب الوصيّة للمسعودي.
(3) كشف الغمّة عن تذكرة ابن حمدون: 2 / 209.
(4) الكافي: باب مولده عليه السلام: 1 / 475، وبصائر الدرجات، والمناقب، والخرائج والجرائح.
(5) الليلة المظلمة، ولعلّه كناية عن الاُمور المشكلة التي لا يهتدي الناس إِلى حلّها.
(6) بحار الأنوار: في أحوال الصادق عليه السلام: 47 / 199.
(7) مهج الدعوات لابن طاووس: ص 192، بحار الأنوار: 47/199.




[ 80 ]



الخيرات(1).
هذا وهو المنصور العدوّ الألدّ للصادق، الذي كان مجاهداً في النيل من كرامته والقضاء عليه.
بل أن الملاحدة على كفرهم وعدائهم للاسلام ورجاله كانوا يعظّمونه ويعترفون له بغزارة العلم، والميزة بالصفات الروحيّة والملكات القدسيّة، أمثال ابن المقفّع وابن أبي العوجاء والديصاني وغيرهم، فهذا ابن المقفع يقول: ترون هذا الخلق وأومأ بيده الى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له إسم الانسانيّة إِلا ذلك الشيخ الجالس، يعني الصادق عليه السّلام، وقال ابن أبي العوجاء: ما هذا ببشر، وإِن كان في الدنيا روحاني يتجسّد اذا شاء ويتروّح اذا شاء باطناً فهو هذا، يعني الصادق عليه السّلام.(2)
وكان ابن أبي العوجاء اذا سأل أحد أصحاب الصادق عليه السّلام عن شيء غامض واستمهله، ثمّ أتاه بالجواب بعد حين واستحسنه، قال: هذه نقلت من الحجاز.
وهكذا كان الديصاني مع أصحاب الصادق عليه السّلام، وما يقوله فيم يحملون اليه جوابه.
وهذه قطرة من غيث ممّا نطق به أهل الفضل في شأن الصادق عليه السّلام مع اختلاف الزمن والبلد والذوق والرأي في القائلين، اُقدّمها أمام الدخول في حياته التفصيليّة لتعطيك صورة إجماليّة عن هذه الشخصيّة الفذّة، فإن هذه الكلمات مع وجازتها تعلم القارئ عمّا لأبي عبد اللّه عليه السّلام من فضيلة بل فضائل، وعمّا له من آثار ومآثر.



_______________

(1) تأريخ اليعقوبي: 3/117.
(2) الكافي: كتاب التوحيد منه، باب حدوث العالم وإثبات المحدث: 1/74.


كفى في امتحان أهل الدين هذا التصارع الدائم بين الدين والدنيا وقلّماً ائتلفا في عصر، ولولاه لما كانت التقيّة، ولما كانت تلك الفوادح النازلة بساحة أهل البيت.
ليس الصراع بين أهل البيت وبين اُميّة والعبّاس غريباً مادام أهل البيت مثال الدين، واولئك مثال الدنيا.
يعلم المروانيّون والعبّاسيّون أن الصادق عليه السلام زعيم هذا التصارع ولئن صمت عن مصارعتهم بالحرب فلا يكفيهم أماناً من حربه لهم، ولربما كان الصمت نفسه أداة الصراع أو هو الصراع نفسه، فإن السكوت قد يكون جواباً كما يقولون.
فمن ثمّ تجدهم يوجّهون اليه عوادي المحن كلّ حين، وما كفّهم عن تعاهده بالأذى ذلك الانعزال والانشغال بالعبادة والعلم، فإن هذا الشغل هو سلاح الحرب، لأنه ظاهرة الدين وبه تتّجه الأنظار اليه، وكلّما ارتفع مقام الصادق قويت شوكة الدين، وإِذا قوي الدين انصرع أهل الدنيا.
ولولا تشاغل الاُمويّين بالفتن بينهم لما أبقوا على الصادق عليه السلام، كما لم يبقوا على آبائه، أجل كأنهم تركوا ذلك إلى أبناء عمّه الأقربين،




[ 93 ]



«واولو الأرحام بعضهم أولى ببعض»!(1)
كانت أيام السفّاح أربع سنين، وهذا الزمن لا يكفي لتطهير الأرض من أُميّة، ولبناء اُسّ المُلك وترسيخ دعائمه، فلم يشغله ذلك عن الصادق عليه السّلام، فإنه لم يطمئن بعدُ من أُميّة والروح الموالية لهم، ولم يفرغ من تأسيس ذلك البناء حتّى أرسل على الصادق من المدينة إِلى الحيرة، ليفتك به، ولكن كفى بالأجل حارساً.
ولماذا كان الصادق إِحدى شُعب همّه، وهو ابن عمّهم الذي اشتغل بالعبادة والتعليم والارشاد، والذي أخبرهم بما سيحظون به من المُلك دون بني الحسن، وقد كانوا بأضيق من جحر الضب من بني أُميّة، وأقلق من الريشة في مهبّ الريح خوفاً منهم.
ما كان يدفع السفّاح على ذلك العمل الشائن إِلا ما قلناه من ذلك الصراع حذراً من أن يتّجه الناس إِلى الصادق عليه السّلام، ويعرفوا منزلته، والناس إِلى ذلك العهد كانت ترى أن الخلافة مجمع السلطتين الروحيّة والزمنيّة، ولا تراها سلطاناً خالصاً لا علاقة لها بالدين، فلا يصرف الناس عن الصادق أنه رجل الدين الخالص، بل أن هذا ادعى عند بعض الناس للامامة، ليكونوا منه في أمان على دنياهم، كما هم في أمان على دينهم.
وبذلك الحذر وقف المنصور بمرصد للصادق عليه السّلام، فشاهد عليه السّلام منه ضروب الآلام والمكاره، وما كفّ ولا عفّ عنه حتّى أذاقه السمّ.
ولا عجب ممّا كان يلاقيه أبو عبد اللّه عليه السّلام من تلك المكاره، فإنّ



_______________

(1) الأنفال: 75.




[ 94 ]



محن المرء على قدر ما له من فضيلة وكرامة، وعلى قدر مقامه بين الناس وطموحه إِلى الرتب العالية.
كان بين ولاية المنصور ووفاة الصادق عليه السّلام اثنتا عشرة سنة لم يجد الصادق فيها راحة ولا هدوءً على ما بينهما من البُعد الشاسع، الصادق في الحجاز، والمنصور في العراق، وكان يتعاهده بالأذى، كما يتعاهد المحبّ حبيبه بالطرف والتحف.
يقول ابن طاووس أبو القاسم علي طاب ثراه(1) في كتاب «مهج الدعوات» في باب دعوات الصادق عليه السّلام: إِن المنصور دعا الصادق سبع مرّات كان بعضها في المدينة والربذة حين حجّ المنصور، وبعضها يرسل اليه إِلى الكوفة وبعضها إِلى بغداد، وما كان يرسل عليه مرّة إِلا ويريد فيها قتله، هذا فوق ما يلاقيه فيها من الهوان وسوء القول، ونحن نذكرها بالتفصيل:
الاولى: روى ابن طاووس عن الربيع حاجب المنصور قال: لما حجّ المنصور(2) وصار بالمدينة سهر ليلة فدعاني فقال: يا ربيع انطلق في وقتك هذا على أخفض جناح وألين مسير، وإِن استطعت أن تكون وحدك فافعل حتّى تأتي أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد فقل له: هذا ابن عمّك يقرأ عليك السّلام ويقول



_______________

(1) رضيّ الدين أبو القاسم علي بن موسى الحسني الحلّي من آل طاووس جمع بين العلم والعبادة والزهادة وبين الشعر والأدب والانشاء والبلاغة، تنسب اليه الكرامات العالية، وقيل: إنه كان أعبد أهل زمانه وأزهدهم، وعن العلامة الحلّي في بعض إجازاته وهو ممّن روى عنه، يقول عند ذكره: وكان رضيّ الدين علي صاحب كرامات حكي بعضها وروى لي والدي البعض الآخر، وكان أزهد أهل زمانه.
(2) حجّ المنصور أيّام الصادق عليه السلام ثلاث مرّات عام 140 و144 و147 وبعد وفاة الصادق مرّتين عام 152 وعام 158 فلم يتمّ الحجّ، انظر تاريخ اليعقوبي: 3/122 طبع النجف، والذي يظهر أن المنصور في كلّ مرّة من الثلاث يأمر بجلب الصادق عليه السلام.




[ 95 ]



لك: إِن الدار وإِن نأت والحال وإِن اختلفت فإنّا نرجع إِلى رحم أمسّ من يمين بشمال، ونعل بقبال(1) وهو يسألك المصير اليه في وقتك هذا، فإن سمح بالمصير معك فأوطئه خدّك، وإِن امتنع بعذر أو غيره فاردد الأمر اليه في ذلك، وإِن أمرك بالمصير اليه في تأنّ فيسّر ولا تعسّر، واقبل العفو ولا تعنف في قول ولا فعل، قال الربيع: فصرت إِلى بابه فوجدته في دار خلوته فدخلت عليه من غير استئذان، فوجدته معفّراً خدّيه مبتهلاً بظهر كفّيه قد أثَّر التراب في وجهه وخدّيه، فأكبرت أن أقول شيئاً حتّى فرغ من صلاته ودعائه، ثم انصرف بوجهه فقلت: السّلام عليك يا أبا عبد اللّه فقال: وعليك السّلام يا أخي، ما جاء بك، فقلت: ابن عمّك يقرأ عليك السّلام، حتّى بلغت إِلى آخر الكلام، فقال: ويحك يا ربيع «ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحقّ ولا يكونوا كالذين اوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم»(2) ويحك يا ربيع «أفأمن أهل القرى أن يأتيَهم بأسُنا بياتاً وهم نائمون، أو أمن أهل القرى أن يأتيَهم بأسُنا ضحىً وهم يلعبون، أفأمنوا مكرَ اللّه فلا يأمن مكرَ اللّه إِلا القوم الخاسرون»(3) قرأت على أمير المؤمنين السّلام ورحمة اللّه وبركاته، ثمّ أقبل على صلاته، وانصرف إِلى توجّهه، فقلت: هل بعد السّلام من مستعتب أو اجابة، فقال: نعم، قل له: «أفرأيت الذي تولّى، وأعطى قليلاً واكدى، أعنده علم الغيب فهو يرى، أم لم ينبّأ بما في صحف موسى، وإِبراهيم الذي وفّى، ألا تزر وازرة وزر أُخرى، وأن ليس للانسان إِلا ما سعى، وأنّ سعيَهُ سوف يُرى»(4) إِنّا واللّه



_______________

(1) بالكسر زمام بين الاصبع الوسطى والتي يليها.
(2) الحديد: 15.
(3) الأعراف: 97 - 99.
(4) النجم: 33 - 40، وأن هذه الآيات فيها تذكير ووعظ وتهديد، وأن الانسان مقرون بعمله ولا يؤاخذ بغير وزره.




[ 96 ]



يا أمير المؤمنين قد خفناك وخافت بخوفنا النسوة اللاتي أنت أعلم بهنّ، ولا بدّ لنا من الايضاح به(1) فإن كففت وإِلا أجرينا اسمك على اللّه عزّ وجل في كلّ يوم خمس مرّات(2) وأنت حدّثتنا عن أبيك عن جدّك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: أربع دعوات لا يحجبن عن اللّه تعالى: دعاء الوالد لولده، والأخذ بظهر الغيب لأخيه، والمخلص...
قال الربيع، فما استتمّ الكلام حتّى أتت رسل المنصور تقفو أثري وتعلم خبري فرجعت فأخبرته بما كان فبكى، ثمّ قال: ارجع إِليه وقل له: الأمر في لقائك اليك والجلوس عنّا، وأمّا النسوة اللاتي ذكرتهنّ فعليهنّ السّلام فقد آمن اللّه روعتهنّ وجلى همّهنّ، قال: فرجعت اليه فأخبرته بما قال المنصور فقال: قل له: وصلت رحماً، وجزيت خيراً، ثمّ اغرورقت عيناه حتّى قطر من الدموع في حجره قطرات.
ثمّ قال: يا ربيع إِن هذه الدنيا وان أمتعت ببهجتها، وغرّت بزبرجها(3) فقلت: يا أبا عبد اللّه أسألك بكلّ حقّ بينك وبين اللّه جلّ وعلا إِلا عرفتني ما ابتهلت به إِلى ربّك تعالى، وجعلته حاجزاً بينك وبين حذرك وخوفك فلعلّ اللّه يجبر بدوائك كسيراً، ويغني به فقيراً، واللّه ما اعني غير نفسي، قال الربيع: فرفع يده وأقبل على مسجده كارهاً أن يتلو الدعاء صفحاً، ولا يحضر ذلك بنيّة، فقال: قل: اللّهم إني أسألك يا مدرك الهاربين، ويا ملجأ الخائفين، الدعاء.(4)



_______________

(1) أحسبه يريد أنه لابدّ من الافصاح بحقيقة الحال.
(2) يريد أنه يدعو عليه بعد كلّ صلاة، ويكون من دعاء المظلوم الذي لا يحجب.
(3) سوف نذكرها في المختار من كلامه في باب مواعظه.
(4) ذكرنا هذه الأدعية التي في هذا الفصل كلّها فيما جمعناه من دعاء الصادق عليه السلام فإنّا لمّا رأينا أن أدعيته في هذا الفصل طويلة وكثيرة آثرنا جمعها مع ما ظفرنا به من أدعيته الاُخر وجعلناها كتاباً مفرداً وسمّيناه دعاء الصادق وقد اجتمع لدينا حتّى اليوم ما يناهز 400 صفحة بقطع هذا الكتاب.




[ 97 ]



ليس في استدعاء المنصور للصادق عليه السّلام في هذه الدفعة ظاهرة سوء، فما الذي أقلق أبا عبد اللّه وروع نساءه، وجعله يتوسّل إِلى اللّه تعالى في كفّ شرّ المنصور، إِن أبا عبد اللّه أبصر بقومه وأدرى بنواياهم، ومن الدفعات الآتية تتّضح لك جليّاً مقاصد المنصور مع الصادق عليه السّلام، وأنه ما كان يقصد من هذا الإرسال إِلا السوء.
الثانية: وروى ابن طاووس عن الربيع أيضاً، قال حججت مع أبي جعفر المنصور فلمّا صرت في بعض الطريق قال لي المنصور: يا ربيع إِذا نزلت المدينة فاذكر لي جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السّلام فواللّه العظيم لا يقتله أحد غيري، إحذر أن تدع أن تذكّرني به، قال: فلمّا صرنا إِلى المدينة أنساني اللّه عزّ وجل ذكره، فلما صرنا إِلى مكّة قال لي: يا ربيع ألم آمرك أن تذكّرني بجعفر بن محمّد اذا دخلنا المدينة، قال: فقلت: نسيت يا مولاي يا أمير المؤمنين، فقال لي: فاذا رجعنا إِلى المدينة فذكّرني به فلا بدّ من قتله، فإن لم تفعل لأضربنّ عنقك، قال: فقلت له: نعم يا أمير المؤمنين، ثم قلت لأصحابي وغلماني: ذكّروني بجعفر بن محمّد إِذا دخلنا المدينة إِن شاء اللّه قال: فلم يزل أصحابي وغلماني يذكّروني به في كلّ منزل ندخله وننزل فيه حتّى قدمنا المدينة، فلمّا نزلنا المدينة دخلت الى المنصور فوقفت بين يديه وقلت: يا أمير المؤمنين جعفر بن محمّد، قال: فضحك وقال لي: نعم اذهب يا ربيع فأتني به ولا تأتني به إِلا مسحوباً، قال: فقلت له: يا مولاي حبّاً وكرامة، وأنا أفعل ذلك طاعة




[ 98 ]



لأمرك، قال: ثمّ نهضت وأنا في حال عظيم من ارتكابي ذلك، قال: فأتيت الامام الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام وهو جالس في وسط داره، فقلت له جعلت فداك: إِن أمير المؤمنين يدعوك اليه، فقال: السمع والطاعة، ثمّ نهض وهو معي يمشي، قال: فقلت له: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِنه أمرني ألا آتيه بك إِلا مسحوباً، قال: فقال الصادق عليه السّلام: امتثل يا ربيع ما أمرك به، قال الربيع: فأخذت بطرف كمّه أسوقه، فلمّا أدخلته عليه رأيته وهو جالس على سريره وفي يده عمود من حديد يريد أن يقتله به، ونظرت الى جعفر بن محمّد يحرّك شفتيه فلم أشكّ أنه قاتله، ولم أفهم الكلام الذي كان جعفر بن محمّد يحرّك به شفتيه، فوقفت أنظر اليهما، قال الربيع: فلمّا قرب منه جعفر بن محمّد قال له المنصور: ادن مني يا ابن عمّي، وتهلّل وجهه، وقرَّبه حتّى أجلسه معه على السرير، ثمّ قال: يا غلام ائتني بالحقّة، فأتاه بالحقّة وفيها قدح الغالية فغلفه(1) منها، ثمّ حمله على بغلة وأمر له ببدرة وخلعة ثمّ أمره بالانصراف، قال: فلمّا نهض من عنده خرجت بين يديه حتّى وصل الى منزله، فقلت له: بأبي أنت واُمّي يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِني لم أشكّ فيه ساعة تدخل عليه أنه يقتلك، ورأيتك تحرّك شفتيك في وقت دخولك عليه فما قلت ؟ قال لي: نعم يا ربيع إعلم أني قلت: حسبي الربّ من المربوبين، حسبي الخالق من المخلوقين، الدعاء.
الثالثة: قال ابن طاووس في استدعائه مرّة ثالثة بالربذة(2): يقول مخرمة



_______________

(1) أي غطّاه وغشّاه بها مبالغة في كثرة ما وضع عليه من الغالية.
(2) أرض بين مكّة والمدينة كان فيها مسكن أبي ذر قبل إسلامه واليها منفاه، وفيها موته ومدفنه، رضي اللّه عنه.




[ 99 ]



الكندي: لمّا نزل أبو جعفر المنصور الربذة وجعفر بن محمّد عليه السّلام يومئذٍ بها، قال: من يعذرني من جعفر هذا، يقدّم رِجلاً ويؤخّر اُخرى يقول: انتجى(1) عن محمّد(2) فإن يظفر فإن الأمر لي وإن تكن الاُخرى فكنت قد أحرزت(3) نفسي، أما واللّه لأقتلنّه، ثمّ التفت الى إبراهيم بن جبلة فقال: يا ابن جبلة قم اليه فضع في عنقه ثيابه ثم ائتني به سحباً، قال إِبراهيم: فخرجت حتّى أتيت منزله فلم أصبه، فطلبته في مسجد أبي ذر فوجدته على باب المسجد، قال: فاستحييت أن أفعل ما اُمرت به، فأخذت بكمّه فقلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: إنّا للّه وإِنّا اليه راجعون، دعني حتّى اُصلّي ركعتين ثمّ بكى بكاءً شديداً وأنا خلفه، ثم قال: اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ورجائي في كلّ شدّة. الدعاء، ثمّ قال: اصنع ما اُمرت به، فقلت: واللّه لا أفعل ولو ظننت أني اُقتل، فذهبت به لا واللّه ما أشكّ إِلا أنه يقتله قال: فلمّا انتهيت الى باب الستر قال: يا إِله جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وإِله إبراهيم وإسحق ومحمّد صلّى اللّه عليه وآله تولّ في هذه الغداة عافيتي ولا تسلّط عليّ أحداً من خلقك بشيء لا طاقة لي به، قال إبراهيم: ثمّ أدخلته عليه، قال: فاستوى جالساً، ثمّ أعاد عليه الكلام، فقال: قدّمت رِجلاً وأخّرت اُخرى، أما واللّه لأقتلنّك، فقال: يا أمير المؤمنين ما فعلت فارفق بي لقلّما أصحبك، فقال له أبو جعفر: انصرف، قال: ثمّ التفت الى عيسى بن علي(4) فقال: يا أبا العبّاس إلحقه فاسأله أبيَ أم به، قال: فخرج يشتدّ حتّى لحقه،



_______________

(1) اتخلّص، وفي نسخة أتنحّى وكلاهما يناسب المقام.
(2) ابن عبد اللّه بن الحسن وينبغي أن تكون هذه الحجّة عام 144 قبل خروج محمّد، ولعلّ الاولتين كانتا عام 140 و147، ولا يلزم من ترتيب بيان الشريف ابن طاووس أن يكون على ترتيب السنين، لا سيمّا وهو لم يتعّرض لسنة الحجّ متى كانت.
(3) حفظت.
(4) ابن عبد اللّه بن العبّاس وهو عمّ المنصور.




[ 100 ]



فقال: يا أبا عبد اللّه إِن أمير المؤمنين يقول لك: أبِك أم به؟ فقال: لا بل بي، فقال أبو جعفر: صدق(1).
قال إبراهيم بن جبلة: ثمّ خرجت فوجدته قاعداً ينتظرني يتشكّر لي صنيعي به واذا به يحمد اللّه ويقول: الحمد للّه الذي أدعوه فيجيبني وإِن كنت بطيئاً حين يدعوني، الدعاء.
الرابعة: يقول الشريف ابن طاووس: إِن هذه المرّة الرابعة هي التي استدعاه بها الى الكوفة، قال: يقول الفضل بن الربيع بعد أن ذكر سند الرواية اليه: قال أبي الربيع: بعث المنصور إبراهيم بن جبلة الى المدينة ليشخص جعفر بن محمّد، فحدّثني إبراهيم بعد قدومه بجعفر أنه لمّا دخل اليه فخبّره برسالة المنصور سمعته يقول: اللّهمّ أنت تقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، الدعاء. فلمّا قدّموا راحلته وخرج ليركب سمعته يقول: اللّهمّ بك أستفتح وبك أستنجح، الدعاء، قال: فلمّا دخلنا الكوفة نزل فصلّى ركعتين ثمّ رفع يده الى السماء فقال: اللّهمّ ربّ السموات وما أظلّت وربّ الأرضين السبع وما أقلّت، الدعاء، قال الربيع: فلمّا وافى الى حضرة المنصور دخلت فأخبرته بقدوم جعفر وإبراهيم فدعا المسيّب بن زهير الضبي فدفع اليه سيفاً وقال له: اذا دخل جعفر بن محمّد فخاطبته وأومأت اليه فاضرب عنقه ولا تستأمر(2)، فخرجت اليه وكان صديقاً الاقيه واعاشره اذا حججت فقلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه



_______________

(1) إن هذا الكلام ظاهر في أنه بالقرب من وفاة الصادق عليه السلام فتكون الحجّة عام 147، إِلا أن تصريحه أولاً في أن كلامه كان قبل خروج محمّد يعيّن أن تكون الحجّة عام 144، ومن الغريب أنّ يصدّق المنصور كلام الصادق بعد أن يسأله أن البدأة بمن، وهو يلاقيه بما يلاقيه من سوء ومكروه.
(2) بالبناء للفاعل أي لا تشاور.




[ 101 ]



عليه وآله إن هذا الجبّار قد أمر فيك بأمر اكره أن ألقاك به فإن كان في نفسك شيء تقوله وتوصيني به، فقال: لا يروعك ذلك فلو قد رآني لزال ذلك كلّه، ثمّ أخذ بمجامع الستر فقال: يا إِله جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، وإِله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمّد صلّى اللّه عليه وآله تولّني في هذه الغداة ولا تسلّط عليّ أحداً من خلقك بشيء لا طاقة لي به، ثمّ دخل فحرّك شفتيه بشيء لم أفهمه، فنظرت الى المنصور فما شبّهته إِلا بنار صبّ عليها ماء فخمدت، ثمّ جعل يسكن غضبه حتّى دنا منه جعفر بن محمّد عليهما السّلام وصار مع سريره، فوثب المنصور، وأخذ بيده ورفعه على سريره، ثمّ قال له يا أبا عبد اللّه يعزّ عليّ تعبك، وإنما أحضرتك لأشكو اليك أهلك قطعوا رحمي، وطعنوا في ديني، وألّبوا الناس عليّ، ولو ولّي هذا الأمر غيري ممّن هو أبعد رحماً مني لسمعوا له وأطاعوا، فقال له جعفر عليه السّلام: فأين يعدل بك عن سلفك الصالح أن أيّوب عليه السّلام ابتلي فصبر، وأن يوسف عليه السّلام ظُلم فغفر، وأن سليمان عليه السّلام اُعطي فشكر، فقال المنصور: قد صبرت وغفرت وشكرت.
ثمّ قال: يا أبا عبد اللّه حدّثنا حديثاً كنت سمعته منك في صلة الأرحام قال: نعم سمعت أبي عن جدّي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: البرّ وصلة الأرحام عمارة الديار وزيادة الأعمار، قال: ليس هذا هو، قال: حدّثني أبي عن جدّي، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: من أحبّ أن ينسأ(1) في أجله، ويعافى في بدنه، فليصل رحمه، قال: ليس هذا هو، قال: نعم حدّثني أبي عن جدّي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: رأيت رحماً متعلّقة بالعرش تشكو الى اللّه عزّ وجل قاطعها فقلت: يا جبرئيل وكم بينهم ؟ قال: سبعة آباء،



_______________

(1) يؤخّر.




[ 102 ]



فقال: ليس هذا هو، قال: نعم حدّثني أبي عن جدّي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: احتضر رجل بارّ في جواره رجل عاق، فقال اللّه عزّ وجل لمَلك الموت: يا مَلك الموت كم بقي من أجل العاق ؟ قال: ثلاثون سنة قال: حوّلها الى هذا البار(1) فقال المنصور: يا غلام ائتني بالغالية، فأتاه بها فجعل يغلفه بيده، ثمّ دفع اليه أربعة آلاف دينار، ودعا بدابته فأتى بها فجعل يقول: قدّم قدّم، الى أن اُتي بها عند سريره فركب جعفر بن محمّد عليهما السّلام وغذوت بين يديه، فسمعته يقول: الحمد للّه الذي أدعوه فيجيبني. الدعاء، فقلت: يا ابن رسول اللّه إِن هذا الجبّار يعرضني على السيف كلّ قليل، ولقد دعا المسيّب بن زهير فدفع اليه سيفاً وأمره أن يضرب عنقك وأني رأيتك تحرّك شفتيك حين دخلت بشيء لم أفهمه عنك، فقال: ليس هذا موضعه فرحت اليه عشيّاً، قال: نعم حدّثني أبي عن جدّي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لمّا الّبت عليه اليهود وفزارة وغطفان وهو قوله تبارك وتعالى «إِذ جاؤوكم من فوكم ومن أسفل منكم وإِذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون باللّه الظنونا»(2) وكان ذلك اليوم أغلظ يوم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فجعل يدخل ويخرج وينظر إِلى السماء فيقول: ضيقي تتّسعي، ثمّ خرج في بعض الليل فرأى شخصاً فقال لحذيفة: انظر من هذا، فقال: يا رسول اللّه هذا عليّ بن أبي طالب، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يا أبا الحسن أما خشيت أن تقع عليك عين، قال: وهبت نفسي للّه ولرسوله وخرجت حارساً للمسلمين في هذه الليلة، فما انقضى كلامهما حتّى نزل جبرئيل، قال: يا محمّد إِن اللّه يقرأ عليك السّلام



_______________

(1) لا يخفى على الصادق عليه السلام الحديث الذي أراده المنصور، وإنما كثر عليه أحاديث الرحم، ليعرّفه موقفه من ذوي رحمه.
(2) الأحزاب: 10.




[ 103 ]



ويقول لك: قد رأيت موقف علي منذ الليلة وأهديت اليه من مكنون علمي كلمات لا يتعوّذ بها عند شيطان مارد، ولا سلطان جائر، ولا حرق ولا غرق، ولا هدم ولا ردم، ولا سبع ضار، ولا لصّ، إِلا آمنه اللّه من ذلك، وهو أن يقول: اللّهمّ احرسنا بعينك التي لا تنام... الدعاء.
الخامسة: وقد استدعاه بها المنصور الى بغداد قبل قتل محمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن(1) روى ذلك الشريف رضيّ الدين بسنده عن محمّد بن الربيع الحاجب، قال: قعد المنصور يوماً في قصره بالقبّة الخضراء، وكانت قبل قتل محمّد وإبراهيم تدعى الحمراء، وكان له يوم يقعد فيه ويسمّى ذلك اليوم يوم الذبح، وقد كان أشخص جعفر بن محمّد من المدينة، فلم يزل في الحمراء نهاره كلّه حتى جاءالليل ومضى اكثره قال: ثمّ دعا الربيع فقال له: يا ربيع إِنك تعرف موضعك مني وأنه يكون بي الخير ولا تظهر عليه اُمّهات الأولاد وتكون أنت المعالج له، قال: قلت: يا أمير المؤمنين ذلك فضل اللّه عليّ وفضل أمير المؤمنين وما فوقي في النصح غاية، قال: كذلك أنت صر الساعة الى جعفر بن محمّد بن فاطمة فأتني به على الحال التي تجده فيها لا تغيّر شيئاً ممّا عليه، فقلت: إِنا للّه وإِنا اليه راجعون، هذا واللّه هو العطب، إِن أتيت به على ما أراه من غضبه قتله وذهبت الآخرة، وإِن لم أذهب في أمره قتلني وقتل نسلي وأخذ أموالي، فميّزت بين الدنيا والآخرة فمالت نفسي الى الدنيا، قال محمّد بن الربيع: فدعاني أبي وكنت أفظّ ولده وأغلظهم قلباً، فقال لي: إمض الى



_______________

(1) كان قتلهما عام 145، وانتقال المنصور الى بغداد عام 146، فلا وجه لأن يكون استدعاؤه الى بغداد قبل قتلهما، فإما أن يكون الى الكوفة والغلط من النسّاخ أو الراوي، أو الاستدعاء بعد قتلهما.




[ 104 ]



جعفر بن محمّد فتسلّق عليه حائطه ولا تستفتح عليه بابه فيغيّر بعض ما هو عليه ولكن انزل عليه نزلاً، فأتِ به على الحال التي هو فيها، قال: فأتيته وقد ذهب الليل إِلا أقلّه، فأمرت بنصب السلاليم وتسلّقت عليه الحائط ونزلت داره فوجدته قائماً يصلّي وعليه قميص ومنديل وقد ائترز به، فلما سلّم من صلاته قلت: أجب أمير المؤمنين فقال: دعني أدعو وألبس ثيابي، فقلت: ليس الى ذلك من سبيل، قال لي: فأدخل المغتسل فأتطهّر، قال: قلت: وليس الى ذلك أيضاً سبيل، فلا تشغل نفسك فإني لا أدعك تغيّر شيئاً، قال: فأخرجته حافياً حاسراً في قميصه ومنديله، وكان قد جاوز السبعين(1) فلمّا مضى بعض الطريق ضعف الشيخ فرحمته فقلت له: اركب، فركب بغلَ شاكري(2) كان معنا، ثمّ صرنا الى الربيع فسمعته وهو يقول: ويلك يا ربيع قد أبطأ الرجل ويستحثّه استحثاثاً شديداً، فلمّا أن وقعت عين الربيع على جعفر وهو بتلك الحال بكى، وكان الربيع يتشيّع، فقال له جعفر عليه السّلام: يا ربيع أنا أعلم ميلك الينا فدعني اُصلّي ركعتين وأدعو، قال: شأنك وما تشاء، فصلّى ركعتين خفّفهما ثمّ دعا بعدهما بدعاء لم أفهمه إِلا أنه دعاء طويل، والمنصور في ذلك كلّه يستحثّ الربيع، فلمّا فرغ من دعائه على طوله أخذ الربيع بذراعه فأدخله على المنصور فلمّا صار في صحن الايوان وقف ثمّ حرّك شفتيه بشيء ما أدري ما هو، ثمّ أدخلته فوقف بين يديه، فلمّا نظر اليه قال: وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وفسادك على أهل هذا البيت من بني العبّاس وما يزيدك اللّه بذلك إِلا شدّة حسد ونكد، ما تبلغ به ما تقدره، فقال له: واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئاً من



_______________

(1) لم يتجاوز الصادق السبعين عاماً وإِنما كان حدساً من محمّد، وأحسبه لما كان يشاهده من ضعفه.
(2) أجير ومستخدم.




[ 105 ]



ذلك، هذا ولقد كنت في ولاية بني اُميّة وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم، وأنهم لا حقّ لهم في هذا الأمر فواللّه ما بغيت عليهم، ولا بلغهم عنّي مع جفائهم الذي كان لي، وكيف يا أمير المؤمنين أصنع الآن هذا وأنت ابن عمّي وأمسّ الخلق بي رحماً، واكثرهم عطاءً وبرَّاً، فكيف أفعل هذا، فأطرق المنصور ساعة، وكان على لبد(1) وعن يساره مرفقة خز معانيّة(2) وتحت لبده سيف ذو فقار(3) كان لا يفارقه إِذا قعد في القبّة، فقال: أبطلت وأثمت، ثمّ رفع ثنّي الوسادة فأخرج منها إضبارة كتب فرمى بها اليه، وقال: هذه كتبك الى أهل خراسان تدعوهم الى نقض بيعتي وأن يبايعوك دوني، فقال: واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا أستحلّ ذلك ولا هو من مذهبي، واني ممّن يعتقد طاعتك في كلّ حال، وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته فصيّرني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت فهو منّي قريب، فقال: لا ولا كرامة، ثمّ أطرق وضرب يده على السيف فسلَّ منه مقدار شبر وأخذ بمقبضه، فقلت: انّا للّه ذهب واللّه الرجل، ثمّ ردَّ السّيف وقال: يا جعفر أما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشقّ عصا المسلمين، تريد أن تريق الدماء وتطرح الفتنة بين الرعيّة والأولياء، فقال: لا واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا هذه كتبي ولا خطّي ولا خاتمي، فانتضى من السيف ذراعاً، فقلت: إِنا للّه مضى الرجل وجعلت في نفسي إِن أمرني فيه بأمر أن أعصيه، لأني ظننت أنه يأمرني أن آخذ السيف فأضرب به جعفراً، فقلت إِن أمرني ضربت المنصور وإِن أتى ذلك عليّ وعلى ولدي وتبت إلى اللّه عزّ وجل ممّا كنت نويت فيه أولاً، فما



_______________

(1) لعلّه بساط من صوف.
(2) ظاهر في النسبة الى معان.
(3) الفقار خرزات الظهر، ويسمّى السيف بذي الفقار اذا كان في متنه حزوز تشبه فقار الظهر.




[ 106 ]



زال يعاتبه وجعفر يعتذر اليه، ثمّ انتضى السيف كلّه إِلا شيئاً يسيراً منه، فقلت: إِنا للّه مضى واللّه الرجل، ثمّ أغمد السيف وأطرق ساعة، ثمّ رفع رأسه وقال له: اظنّك صادقاً، يا ربيع هات العيبة من موضع فيه في القبّة، فأتيت بها، فقال: ادخل يدك فيها وكانت مملوءة غالية وضعها في لحيته، وكانت بيضاء فاسودَّت، وقال لي: احمله على فاره من دوابي التي أركبها واعطه عشرة آلاف درهم وشيّعه الى منزله مكرّماً وخيّره إِذا أتيت به المنزل بين المقام عندنا فنكرمه، أو الانصراف إِلى مدينة جدّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فخرجنا من عنده وأنا مسرور فرح لسلامة جعفر عليه السّلام ومتعجّب ممّا أراده المنصور وما صار اليه من كفايته ودفاعه، ولا عجب من أمر اللّه عزّ وجل فلمّا صرنا في الصحن قلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لا عجب ممّا عمل عليه هذا في بابك، وما أصارك اللّه اليه من كفايته ودفاعه، ولا عجب من أمر اللّه عزّ وجل، وقد سمعتك تدعو عقيب الركعتين بدعاء لم أدر ما هو إِلا أنه طويل، ورأيتك حرّكت شفتيك ههنا اعني الصحن بشيء لم أدر ما هو، فقال لي: أمّا الأوّل فدعاء الكرب والشدائد، لم أدعُ به على أحد قبل يومئذٍ، جعلته عوضاً، من دعاء كثير أدعو به إِذا قضيت صلاتي، لأني لم أترك أن أدعو ما كنت أدعو به، وأمّا الذي حرّكت به شفتي فهو دعاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يوم الأحزاب، حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: لمّا كان يوم الأحزاب كانت المدينة كالاكليل من جنود المشركين وكانوا كما قال اللّه عزّ وجل: «إِذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم»(1) ثمّ ذكر الدعاء، ثمّ قال: لولا الخوف من أمير المؤمنين



_______________

(1) الأحزاب: 10.




[ 107 ]



لرفعت اليك هذا المال، ولكن قد كنت طلبت منّي أرضي بالمدينة وأعطيتني بها عشرة آلاف دينار فلم أبعك وقد وهبتها لك، قلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِنما رغبتي في الدعاء الأوّل والثاني، فاذا فعلت هذا فهو البرّ ولا حاجة لي الآن في الأرض، فقال لي: إِنّا أهل بيت لا نرجع في معروفنا، نحن ننسخك الدعاء ونسلم اليك الأرض صر معي إِلى المنزل فصرت معه كما تقدّم المنصور به، وكتب لي بعهد الأرض وأملى عليّ دعاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأملى عليّ الذي دعاه بعد الركعتين ثمّ قال: فقلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لقد كثر استحثاث المنصور واستعجاله إِيّاي وأنت تدعو بهذا الدعاء الطويل متمهّلاً كأنّك لم تخفه، قال: فقال لي: نعم قد كنت أدعو بعد صلاة الفجر بدعاء لا بدّ منه، فأمّا الركعتان فهما صلاة الغداة خفّفتهما ودعوت بذلك الدعاء بعدهما، فقلت له: ما خفت أبا جعفر وقد أعدَّ لك ما أعدّ، قال: ما أعدّ! خيفة اللّه دون خيفته، وكان اللّه عزّ وجل في صدري أعظم منه، قال الربيع: كان في قلبي ما رأيت من المنصور ومن غضبه وحنقه على جعفر ومن الجلالة في اتساعه ما لم أظنّه يكون في بشر، فلمّا وجدت منه خلوة وطيب نفس قلت: يا أمير المؤمنين رأيت منك عجباً، قال: ما هو ؟ قلت: يا أمير المؤمنين رأيت غضبك على جعفر غضباً لم أرك غضبته على أحد قط، ولا على عبد اللّه بن الحسن ولا على غيره من كلّ الناس حتّى بلغ بك الأمر أن تقتله بالسيف وحتّى أنك أخرجت من سيفك شبراً ثمّ أغمدته، ثمّ عاتبته ثمّ أخرجت منه ذراعاً، ثمّ عاتبته ثمّ أخرجته كلّه إِلا شيئاً يسيراً، فلم أشكّ في قتلك له، ثمّ انحلّ ذلك كلّه، فعاد رضى حتّى أمرتني فسّودت لحيته بالغالية التي لا يتغلّف منها إِلا أنت ولا تغلّف منها ولدك المهدي ولا مَن ولّيته عهدك، ولا عمومتك، وأجزته وحملته وأمرتني بتشييعه مكرماً، فقال: ويحَك يا ربيع، ليس هو ممّا ينبغي أن




[ 108 ]



تحدّث به وستره أولى، ولا أحبّ أن يبلغ ولد فاطمة فيفخرون ويتيهون بذلك علينا، حسبنا ما نحن فيه ولكن لا اكتمك شيئاً، انظر الى من في الدار فنحّهم، قال: فنحّيت كلّ مَن في الدار، ثمّ قال لي: ارجع ولا تبق أحداً، ففعلت، ثمّ قال: ليس إِلا أنا وأنت، واللّه لئن سمعت ما ألقيه عليك من أحد لأقتلنّك وولدك وأهلك أجمعين، ولآخذنّ مالك، قال: قلت: يا أمير المؤمنين أعيذك باللّه، قال: يا ربيع كنت مصرّاً على قتل جعفر، ولا أسمع له قولاً، ولا أقبل له عذراً، فلمّا هممت به في المرّة الاُولى تمثّل لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فإذا هو حائل بيني وبينه باسط كفّيه حاسر عن ذراعيه قد عبس وقطب في وجهي، فصرفت وجهي عنه، ثمّ هممت به في المرّة الثانية وانتضيت من السيف اكثر ممّا انتضيت منه في المرّة الاُولى فإذا أنا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد قرب منّي ودنا شديداً وهمّ بي لو فعلت لفعل فأمسكت، ثمّ تجاسرت وقلت: هذا من فعل الربيء(1) ثمّ انتضيت السيف في الثالثة فتمثّل لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله باسطاً ذراعيه قد تشمّر واحمّر وعبس وقطب، حتّى كاد أن يضع يده عليّ فخفت واللّه لو فعلت لفعل، وكان منّي ما رأيت، هؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إِلا جاهل لا حظّ له في الشريعة، فإيّاك أن يسمع هذا منك أحد، قال محمّد بن الربيع: فما حدّثني به حتّى مات المنصور، وما حدّثت به حتّى مات المهدي، وموسى(2) وهارون(3) وقتل محمّد.



_______________

(1) كفعيل التابع للجن.
(2) الهادي.
(3) الرشيد.
(4) الأمين.




[ 109 ]

<h4>السادسة: يقول الشريف رضيّ الدين بن طاووس: وقد استدعاه بها المنصور إِلى بغداد مرّة ثانية بعد قتل محمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن(1) وقد روى ذلك عن صفوان من مهران الجمّال(2) قال: رفع رجل من قريش المدينة من بني مخزوم إِلى أبي جعفر المنصور، وذلك بعد قتله لمحمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن، إن جعفر بن محمّد بعث مولاه المعلّى بن خنيس(3) لجباية الأموال من شيعته، وأنه كان يمدّ بها محمّد بن عبد اللّه، فكاد المنصور أن يأكل كفّه على جعفر بن محمّد غيظاً، وكتب إِلى عمّه داود بن علي، وداود أمير المدينة(4) أن يسيّر اليه جعفر بن محمّد لا يرخص له في التلوم(5) والبقاء فبعث اليه داود بكتاب المنصور، وقال له: اعمل في المسير إِلى أمير المؤمنين في غد ولا تتأخّر، قال صفوان: وكنت بالمدينة يومئذٍ فأنفذ اليّ جعفر عليه السّلام فصرت اليه فقال لي: تعهّد راحلتنا فإنا غادون في غد إِن شاء اللّه إِن العراق، ونهض من وقته وأنا معه إِلى مسجد النبي صلّى اللّه عليه وآله وكان ذلك بين الاُولى والعصر فركع فيه ركعات، ثمّ رفع يديه فحفظت يومئذٍ من دعائه: «يا من ليس له ابتداء ولا انتهاء(6) يا من ليس له أمد ولا نهاية» الدعاء.



_______________
(1) وكان قتلهما عام 145، وقد عرفت من تعليقتنا على المرّة الخامسة أن تلك الدفعة لا تصحّ أن تكون إِلى بغداد إِلا أن تكون بعد قتلهما، وأن بين انتقال المنصور إِلى بغداد وبين وفاة الصادق سنتين وبعيد أن يرسل اليه في هاتين السنتين مرّات عديدة.
(2) سيأتي في المشاهير من ثقات الرواة لأبي عبد اللّه عليه السلام.
(3) سيأتي في ثقات المشاهير أيضاً.
(4) وداود هذا هو الذي قتل المعلّى بن خنيس واستلب أمواله، وهمّ بالصادق عليه السلام، فدعا عليه الصادق فعاجله اللّه بالهلاك، كما سيأتي في باب استجابة دعائه.
(5) التمكّث.
(6) ولا انقضاء في نسخة.


</h4>[ 110 ]



قال صفوان: فلمّا أصبح أبو عبد اللّه عليه السّلام رحلت له الناقة وسار متوجّهاً إِلى العراق حتّى قدم مدينة أبي جعفر(1) وأقبل حتّى استأذن فأذن له، قال صفوان: فأخبرني بعض من شهده عند أبي جعفر، قال: فلما رآه قرَّبه وأدناه، ثمّ استدعى قصّة الرافع على أبي عبد اللّه عليه السّلام، يقول في قصّته: إِن المعلّى بن خنيس مولى جعفر بن محمّد يجبي له الأموال من جميع الآفاق، وإِنه مدَّ بها محمّد بن عبد اللّه، فدفع اليه القصّة فقرأها أبو عبد اللّه فأقبل عليه المنصور فقال: يا جعفر بن محمّد ما هذه الأموال التي يجبيها لك المعلّى بن خنيس ؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: معاذ اللّه من ذلك يا أمير المؤمنين، قال له: ألا تحلف على براءتك من ذلك بالطلاق والعتاق، قال: نعم أحلف باللّه إنه ما كان من ذلك شيء، قال أبو جعفر: لا بل تحلف بالطلاق والعتاق فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أما ترضى بيميني باللّه الذي لا إِله إِلا هو، قال له أبو جعفر: لا تتفقّه عليّ، فقال أبو عبد اللّه: وأين يذهب بالفقه مني يا أمير المؤمنين(2) قال له: دع عنك هذا فإنني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عليك حتى يواجهك، فأتوا بالرجل وسألوه بحضرة جعفر عليه السّلام فقال: نعم هذا صحيح، وهذا جعفر بن محمّد، والذي قلت فيه كما قلت، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: تحلف أيها الرجل إِن هذا الذي رفعته صحيح، قال: نعم، ثمّ ابتدأ الرجل باليمين فقال: واللّه الذي لا إِله إِلا هو الطالب الغالب الحيّ القيوم، فقال



_______________

(1) وهي بغداد، وكانت تسمّى مدينة أبي جعفر لأنه هو الذي بناها وكان انتقاله اليها عام 146، ولعلّه في هذه السنة دعا الصادق اليها.
(2) ما كان ليخفى على المنصور ما عليه أهل البيت في اليمين بالطلاق والعتاق وأنه لا يحنث الحالف كاذباً، أي لا تطلق نساؤه، ولا تعتق مماليكه، ولكنه حاول أن يحطّ من كرامة الصادق وألا يثبت له فقه خاص.




[ 111 ]



له جعفر عليه السّلام: لا تعجل في يمينك، فإنني أستحلفك، قال المنصور: ما أنكرت من هذه اليمين ؟ قال: إن اللّه تعالى حيّ كريم يستحي من عبده إِذا أثنى عليه أن يعاجله بالعقوبة لمدحه له، ولكن قل أيها الرجل: أبرأ الى اللّه من حوله وقوّته وألجأ الى حولي وقوّتي إِني لصادق برّ فيما أقول، فقال المنصور للقرشي: إحلف بما استحلفك به أبو عبد اللّه فحلف الرجل بهذه اليمين فلم يستتمّ الكلام حتّى أجذم وخرّ ميّتاً، فراع أبا جعفر ذلك وارتعدت فرائصه، فقال: يا أبا عبد اللّه: سر من غد الى حرم جدّك إِن اخترت ذلك، وإِن اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك وبرّك، فو اللّه لا قبلت قول أحد بعدها أبداً»(1).
السابعة: ذكر الشريف أبو القاسم في المرّة السابعة رواية عن محمّد بن عبد اللّه الاسكندري(2) وأنه كان من ندماء المنصور وخواصّه، يقول محمّد، دخلت عليه يوماً فرأيته مغتمّاً وهو يتنفّس نفساً بارداً، فقلت: ما هذه الفكرة يا أمير المؤمنين، فقال لي: يا محمّد لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة أو يزيدون(3) وقد بقي سيّدهم وإِمامهم، فقلت له: من ذلك ؟ قال: جعفر بن محمّد الصادق، فقلت: يا أمير المؤمنين إنه رجل أنحلته العبادة واشتغل باللّه عن طلب المُلك والخلافة، فقال: يا محمّد لقد علمت أنك تقول به وبإمامته ولكن المُلك



_______________

(1) وذكر هذه الكرامة لأبي عبد اللّه عليه السلام جملة من علماء أهل السنّة عند استطرادهم لحياة الصادق، منهم الشبلنجي في نور الأبصار، والسبط في التذكرة، وابن طلحة في مطالب السؤل، وابن الصبّاغ في الفصول، وابن حجر في الصواعق وغيرهم.
(2) ليس له ذكر في كتب رجالنا، ولم نعرف عنه رواية غير هذه، وبها ذكره المتأخّرون، والرواية صريحة في تشيّعه.
(3) أحسب أن هذه القصّة كانت بعد مقتل محمّد وإبراهيم لأن الحرب بالمدينة وبباخمرى والسجون في الهاشميّة أهلكت العدد الكثير من العلويّين هذا سوى من قتله صبراً، ولعلّ إرساله عليه كان الى بغداد أيضاً.




[ 112 ]



عقيم، وقد آليت على نفسي ألا امسي عشيّتي هذه أو أفرغ منه، قال محمّد: فواللّه لقد ضاقت عليّ الأرض برحبها، ثمّ دعا سيّافاً وقال له: اذا انا أحضرت أبا عبد اللّه الصادق وشغلته بالحديث ووضعت قلنسوتي عن رأسي فهي العلامة بيني وبينك فاضرب عنقه، ثمّ أحضر أبا عبد اللّه عليه السّلام في تلك الساعة ولحقته في الدار وهو يحرّك شفتيه فلم أدرِ ما الذي قرأ، فرأيت القصر يموج كأنه سفينة في لجج البحار، ورأيت أبا جعفر المنصور وهو يمشي بين يديه حافي القدمين مكشوف الرأس قد اصطكت أسنانه وارتعدت فرائصه، يحمرّ ساعة ويصفرّ اُخرى، وأخذ بعضد أبي عبد اللّه وأجلسه على سرير ملكه وجثا بين يديه كما يجثو العبد بين يدي مولاه، ثمّ قال: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ما الذي جاء بك في هذه الساعة ؟ قال: جئتك يا أمير المؤمنين طاعة للّه ولرسوله صلّى اللّه عليه وآله ولأمير المؤمنين أدام اللّه عزّه(1).
قال: ما دعوتك، والغلط من الرسول، ثمّ قال: سل حاجتك، فقال: أسألك ألا تدعوني لغير شغل، قال: لك ذلك وغير ذلك، ثمّ انصرف أبو عبد اللّه عليه السّلام سريعاً، وحمدت اللّه عزّ وجل كثيراً، ودعا أبو جعفر المنصور بالدواويج(2) ونام ولم ينتبه إِلا في نصف الليل، فلمّا انتبه كنت عند رأسه جالساً فسرَّه ذلك، وقال: لا تخرج حتّى أقضي ما فاتني من صلاتي فاُحدّثك بحديث، فلمّا قضى صلاته أقبل على محمّد وحدّثه بما شاهده من الأهوال التي افزعته عند مجيء الصادق، وكان ذلك سبباً لانصرافه عن قتله وداعياً لاحترامه والاحسان اليه.
يقول محمّد: قلت له: ليس هذا بعجيب يا أمير المؤمنين، فإن أبا عبد اللّه



_______________

(1) لا بدع لو قال له: طاعة للّه ولرسوله ولأمير المؤمنين، وإن لم تكن للمنصور طاعة، لأن الخوف على النفس والنفيس يلزمه بالمجيء، فتكون المحافظة عليهما واجبة والتخلّف إلقاء بالتهلكة.
(2) بالجيم المعجمة جمع دواج كرمان وكغراب: اللحاف الذي يلبس.




[ 113 ]



وارث علم النبي صلّى اللّه عليه وآله وجدّه أمير المؤمنين عليه السّلام وعنده من الأسماء وسائر الدعوات التي لو قرأها على الليل لأنار، ولو قرأها على النهار لأظلم، ولو قرأها على الأمواج في البحور لسكنت(1).
قال محمّد: فقلت له بعد أيام: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أخرج الى زيارة أبي عبد اللّه الصادق ؟ فأجاب ولم يأب، فدخلت عليه وسلّمت وقلت له: أسألك يا مولاي بحقّ جدّك محمّد رسول ربّ العزّة صلّى اللّه عليه وآله أن تعلّمني الدعاء الذي كنت تقرأه عند دخولك على أبي جعفر المنصور، قال: لك ذلك، ثمّ أخذ الصادق يصف لمحمّد شأن الدعاء قبل أن يورده له، ثم ذكر الدعاء وهو طويل(2).
هذه بعض المحن التي شاهدها الصادق عليه السّلام من المنصور وتخلّص فيها ممّا أراده فيه بدعائه، وقد ذكر ابن طاووس طاب ثراه دفعتين اُخريين يهمّ بهما المنصور في قتل الصادق فيدفع اللّه عنه فيهما سوءه.
وذكر بعض هذه المحن وسلامة الصادق من القتل فيها بدعائه جملة من أرباب التأليف عند استطرادهم لأحوال الصادق عليه السّلام، أمثال الشبلنجي في نور الأبصار، والسبط في التذكرة، وابن طلحة في مطالب السؤل، وابن الصبّاغ في الفصول المهمّة، وابن حجر في الصواعق، والشيخ سليمان في الينابيع، والكليني في الكافي في كتاب الدعاء، والمجلسي في البحار ج 11، وابن شهراشوب في المناقب، والشيخ المفيد في الإرشاد، وغيرهم.



_______________

(1) هذا الكلام يدلّنا على معرفة محمّد فوق تشيّعه، والعجب كيف يصارح المنصور بهذا، ولا عجب فإن المنصور أعلم من محمّد بشأن الصادق عليه السلام.
(2) لم يفتنا ذكر هذه الأدعية إِلا لأننا جمعناها في صحائف اُخرى مع ما ظفرنا به من أدعيته الاُخرى فكان ما اجتمع عندنا كما أشرنا اليه ما يناهز 400 صحيفة بقطع هذا الكتاب مع علمنا أنه قد فاتنا الشيء الكثير من دعائه.



رزق أهل البيت فيما رزقوا الحكمة وكفى بها فضيلة، ولربما تعجب من مواقف الصادق مع المنصور ورجاله فإنك تارة تجده يلين بالقول ويجهد في براءته واُخرى يلاقيهم بالشدّة والعنف دون أن يعترف بشيء وإِن أساءهم موقفه.
والصادق أعرف بما يقول ويفعل، فقد يلين أن عرف أن اللين أسلم، وقد يخشن اذا عرف أن الخشونة ألزم، وليس اللين محموداً في جميع الأوقات والحالات، غير أن التمييز بين المواقف يحتاج الى حكمة وعرفان، فبينا تجده يخاطب المنصور بقوله: «واللّه ما فعلت ولا أستحلّ ذلك ولا هو من مذهبي وإني ممّن يعتقد طاعتك في كلّ حال وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته فصيرّني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت فهو منّي قريب» واذا به يقول للمنصور على لسان الرسول: «فإن كففت وإِلا أجريت اسمك على اللّه عزّ وجل في كلّ يوم خمس مرّات» الى كثير من الموقفين، كما عرفت كثيراً من مواقف اللين، وستعرف الآن بعض المواقف من الشدّة.
إِنّا وإِن غبنا عن ذلك العهد لكننا لم نغب عن معرفة نفسيّة الامام الصادق عليه السّلام ونفسيّة الدوانيقي، كما لم نغب عن تأريخ الحوادث في ذلك العهد.
إِن المنصور وإِن مَلك البلاد باسم الخلافة لكنه يعلم أن صاحبها حقاً هو الصادق عليه السّلام، وأنه صاحب كلّ فضيلة وأنه لو أراد الأمر لم يطق المنصور




[ 115 ]



أن يحول دونه، فمن ثمّ تراه أحياناً يصفح عن وخزات الصادق عليه السّلام لا يريد أن تزداد الملاحاة في الكلام فتثير كوامن النفوس فتهيج ما يخافه من وثبة وثورة، غير أن شدّة الحبّ للمُلك والمُلك عقيم، والحبّ يعمي ويصمّ، تبعث المنصور على الاساءة للصادق والسعي لإهلاكه، فاذا عرف الصادق أن الموقف من الأوّل انبعث لإظهار الحقّ، وأن الموقف من الثاني قابله بلين ليكفّ بغيه وعدوانه.
وها نحن أوّلاً نورد بعض ما كان من الصادق مع المنصور وولاته من المواقف التي يعلن فيها بالحقّ غير مكترث بما له من سطوة ولولاته من قسوة.
سأل المنصور الصادق عليه السّلام يوماً عن الذباب وهو يتطايح على وجهه حتّى أضجره فقال له: يا أبا عبد اللّه لِم خلق اللّه الذباب ؟ فقال الصادق عليه السّلام: ليذلّ به الجبابرة(1) فسكت المنصور علماً منه أنّه لو ردّ عليه لوخزه بما هو أمضّ جرحاً، وأنفذ طعناً.
وكتب اليه المنصور مرّة: لِم لا تغشانا كما تغشانا الناس ؟ فأجابه الصادق عليه السّلام: «ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّيك، ولا تراها نقمة فنعزّيك، فما نصنع عندك» فكتب اليه: تصحبنا لتنصحنا، فأجابه: «من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك» فقال المنصور: واللّه لقد ميز عندي منازل من يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة، وانه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا(2).
أقول: إِن المنصور ما أراد النصيحة لما يصلحه، ولو أراد صلاح نفسه



_______________

(1) نور الأبصار للشبلنجي: ص 141.
(2) كشف الغمّة في أحوال الصادق عليه السلام عن تذكرة ابن حمدون: 2/208.




[ 116 ]



لاعتزل الأمر لئلا يبوء بإثم هذه الاُمّة، ولكنه أراد أن يستصفي الصادق ويجعله من أتباعه، فيعلم الناس أنه الامام غير مدافع، وتنقطع الشيعة عن مراجعة الصادق، ويظهر لهم أنه تبع للمنصور، والامام لا يكون تبعاً لأرباب السلطان باختياره، والصادق لا يخفى عليه قصد المنصور.
وكلمته هذه تعطينا درساً بليغاً عن مواقف الناس مع الملوك والاُمراء وعن منازل المتزلّفين اليهم، وكيف يجب أن تكون مواقف رجال الدين معهم.
واستقدمه المنصور مرّة وهو غضبان عليه، فلمّا دخل عليه الصادق عليه السّلام، قال له: يا جعفر قد علمت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال لأبيك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: لولا أن تقول فيك طوائف من اُمّتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك قولاً لا تمرّ بملأ إِلا أخذوا من تراب قدميك يستشفون به، وقال علي عليه السّلام: يهلك فيّ اثنان ولا ذنب لي: محبّ غال ومبغض مفرط، قال ذلك اعتذاراً منه أنه لا يرضى بما يقول فيه الغالي والمفرط، ولعمري أن عيسى بن مريم عليه السّلام لو سكت عمّا قالت النصارى فيه لعذبه اللّه، ولقد تعلم ما يقال فيك من الزور والبهتان، وإمساكك عن ذلك ورضاك به سخط الديّان، زعم أوغاد الحجاز ورعاع الناس أنك حبر الدهر وناموسه، وحجّة المعبود وترجمانه، وعيبة علمه وميزان قسطه، ومصباحه الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة الى ضياء النور، وأن اللّه لا يقبل من عامل جهل حدّك في الدنيا عملاً، ولا يرفع له يوم القيامة وزناً، فنسبوك إِلى غير حدّك، وقالوا فيك ما ليس فيك، فقل فإن أوّل من قال الحقّ جدّك، وأوّل من صدقه عليه أبوك، وأنت حريّ أن تقتصّ آثارهما، وتسلك سبيلهما.
فقال عليه السّلام: أنا فرع من فروع الزيتونة، وقنديل من قناديل بيت




[ 117 ]



النبوّة، وأديب السفرة، وربيب الكرام البررة، ومصباح من مصبايح المشكاة التي فيها نور النور، وصفوة الكلمة الباقية في عقب المصطفين الى يوم الحشر.
فالتفت المنصور الى جلسائه فقال: هذا قد حالني على بحر مواج لا يدرك طرفه ولا يبلغ عمقه، تحار فيه العلماء، ويغرق فيه السبحاء(1) ويضيق بالسابح عرض الفضاء، هذا الشجى المعترض في حلوق الخلفاء، الَّذي لا يجوز نفيه، ولا يحلّ قتله، ولولا ما تجمعني وإِيّاه شجرة طاب أصلها وبسق فرعها، وعذب ثمرها، وبوركت في الذر، وقدّست في الزبر، لكان منّي ما لا يحمد في العواقب، لما يبلغني عنه من شدّة عيبه لنا وسوء القول فينا.
فقال الصادق عليه السّلام: لا تقبل في ذي رحمك وأهل الرعاية من أهل بيتك قول من حرّم اللّه عليه الجنّة، وجعل مأواه النار، فإن النمّام شاهد زور، وشريك إبليس في الإغراء بين الناس فقد قال اللّه تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين»(2) ونحن لك أنصار وأعوان، ولملكك دعائم وأركان، ما أمرت بالمعروف والاحسان، وأمضيت في الرعيّة أحكام القرآن، وأرغمت بطاعتك للّه أنف الشيطان، وإِن كان يجب عليك في سعة فهمك، وكثرة علمك، ومعرفتك بآداب اللّه أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك، فإن المكافي ليس بالواصل، إِنما الواصل من إِذا قطعته رحمه وصلها، فصل رحمك يزد اللّه في عمرك، ويخفّف عنك الحساب يوم حشرك، فقال المنصور: قد صفحت عنك لقدرك، وتجاوزت عنك لصدقك، فحدّثني عن نفسك بحديث



_______________

(1) جمع سابح.
(2) الحجرات: 6.




[ 118 ]



أتعظ به ويكون لي زاجر صدق عن الموبقات، فقال الصادق عليه السّلام:
عليك بالحلم فإنه ركن العلم، واملك نفسك عند أسباب القدرة فإنك إِن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفى غيظاً، أو تداوى حقداً أو يحبّ أن يذكر بالصولة، واعلم بأنك إن عاقبت مستحقّاً لم تكن غاية ماتوصف به إِلا العدل، والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر، فقال المنصور: وعظت فأحسنت، وقلت فأوجزت(1).
أقول: إِن أمثال هذه المواقف تعطيك دروساً وافيه عمّا كان عليه أهل ذلك العصر من سياسة وعلم واعتقادها وغيرها، وهنا نستطيع أن نتعرّف عدّة اُمور:
1 - إِن المنصور يريد ألا يظهر الصادق بمظهر الامامة فحاول أن يخدعه أمام الناس بتلك الكلمات الليّنة، وهنا تعرف دهاء المنصور، لأن العبّاسيّين إِنما تربّعوا على الدست باسم الامامة والخلافة، فلو كان هناك إِمام آخر يرى شطر من الاُمّة أنه صاحب المنبر والتاج لا يتمّ لهم أمر، وهو يريد ألا يعارضه أحد في سلطانهم، فكان المنصور يدفع عن عرشه بالشدّة مرّة وباللين اُخرى فكان من سياسته أن جابه الصادق أمام ملأ من الناس بهذا القول وحسب أنّ الصادق سوف يبطل ما يقوله الناس فيه، وبه يحصل ما يريد، وهو يعلم أنّ الصادق لا يجبهه بالردّ، حذراً من سطوته.
2 - إِن الصادق إِمام بجعل إِلهي كما يرى ذلك ويراه الشيعة فيه، والامامة في أهل البيت وفي الصادق ليست وليدة عصر المنصور، وإِنما هي من عهد صاحب الرسالة، فالامام الصادق عليه السّلام وقع بين لحيي لهذم فإنه إِن



_______________

(1) بحار الأنوار: 47/168 في أحوال الصادق عليه السلام.




[ 119 ]



جارى المنصور فقد أبطل إِمامة إِلهية، وإِن عارضه لا يأمن من شرّه، فمن ثمّ أجابه بكلمات مجملة لا تصرّح بالامامة ولا تبطل قول الناس فيه، ولذا قال المنصور «هذا قد حالني على بحر موّاج لا يدرك طرفه».
3 - إِن قول الشيعة في الامام من ذلك اليوم على ما هو عليه اليوم، وهذا ما تقتضيه اُصول المذهب، وتدلّ عليه أخبار أهل البيت وآثارهم.
4 - إِن سكوت الامام الصادق وعدم إِبطاله لأن يكون كما يقول الناس برهان على أن حقيقة الامامة كما يحكيها المنصور عن الناس، ولو كانت حقيقتها غير هذا لقال الصادق: إِن هذا الرأي والقول باطل، بل لوجب عليه إِعلام الناس ببطلانه وردعهم عن هذا المعتقد.
5 - إِن القائل بإمامة الصادق عليه السّلام خلق كثير من الناس، ممّا جعل المنصور يفكّر فيه ويخشى من اتساعه ومن عقباه، فحاول أن يتذرّع بالصادق لمكافحته.
6 - إِن المرء بأصغريه، فالامام الصادق لو لم تسبق الأخبار والآثار عن منزلته، لكان في مثل كلامه ومثل موقفه هذا دلالة على ما له من مقام، أتراه كيف حاد عن جواب المنصور بما حيّره، دون أن يصرّح بخلاف ما حكاه عن الشيعة، ودون أن يصرّح بصحّة ما يرون، وكيف وعيت ذلك البيان منه عن نفسه، ببليغ من القول، وجليل من المعنى، وكيف وعظ المنصور بما يوافق شأن الملوك، وما يتفق وابتلاءهم كثيراً ؟
وهذا بعض ما يمكن استنباطه من هذا الموقف وفهم حال الناس ذلك اليوم، وكفى به عن سواه.
ودخل على المنصور في إِحدى جيئاته فاستقبله الربيع بالباب وقال له: يا أبا عبد اللّه ما أشدّ تلظّيه عليك لقد سمعته يقول: واللّه لا تركت له نخلاً إِلا




[ 120 ]



عقرته، ولا مالاً إِلا نهبته، ولا ذرّية إِلا سبيتها، فلمّا دخل وسلّم وقعد قال له المنصور: أما واللّه لقد هممت ألا أترك لكم نخلاً إِلا عقرته، ولا مالاً إِلا أخذته، فقال له الصادق عليه السّلام: يا أمير المؤمنين إِن اللّه عزّ وجل ابتلى أيوب فصبر، وأعطى داود فشكر، وقدر(1) يوسف فغفر، وأنت من ذلك النسل ولا يأتي ذلك النسل إِلا بما يشبهه، فقال: صدقت قد عفوت عنكم، فقال الصادق: إِنه لم ينل أحد منّا أهل البيت دماً إِلا سلبه اللّه مُلكه، فغضب لذلك واستشاط، فقال: على رسلك إِن هذا المُلك كان في آل أبي سفيان فلمّا قتل يزيد حسيناً عليه السّلام سلبه اللّه مُلكه، فورثه آل مروان فلمّا قتل هشام زيداً سلبه اللّه ملكه فورثه مروان بن محمّد، فلمّا قتل مروان إبراهيم الامام سلبه اللّه مُلكه وأعطاكموه فقال: صدقت(2).
أقول: إِن الصادق عليه السّلام ما اعتذر عن قوله الأول، وإنما جاء بالشواهد عليه، سوى إنه استعرض ذكر أخيه إِبراهيم ليكفّ بذلك شرّه.
وللصادق عليه السّلام مواقف كثيرة على غرار ما ذكرناه اجتزينا عنها بما أوردناه.
وكانت للصادق عليه السّلام مواقف مع بعض ولاة المنصور ورجاله تشبه مواقفه مع المنصور في الشدّة، جاء إِلى المدينة والياً من قبل المنصور بعد مقتل محمّد وإبراهيم رجل يقال له شيبة بن عفال، يقول عبد اللّه بن سليمان التميمي: فلمّا حضرت الجمعة صار الى مسجد الرسول صلّى اللّه عليه وآله فرقى المنبر وحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد فإن عليّ بن أبي طالب شقّ عصا



_______________

(1) أي جعله قادراً على الانتقام من اخوته.
(2) الكافي: كتاب الدعاء، باب الدعاء للكرب والهمّ والحزن: 2/563.




[ 121 ]



المسلمين وحارب المؤمنين، وأراد الأمر لنفسه، ومنعه أهله، فحرّمه اللّه عليه، وأماته بغصّته، وهؤلاء ولده يتبعون أثره في الفساد وطلب الأمر بغير استحقاق له فهم في نواحي الأرض مقتولون، وبالدماء مضرّجون.
فعظم هذا الكلام منه على الناس، ولم يجسر أحد منهم أن ينطق بحرف فقام اليه رجل فقال: ونحمد اللّه ونصلّي على محمّد خاتم النبيين وسيّد المرسلين وعلى رسل اللّه وأنبيائه أجمعين، أمّا ما قلت من خير فنحن أهله، وأمّا ما قلت من سوء فأنت وصاحبك به أولى، فاختبر يا من ركب غير راحلته واكل غير زاده إِرجع مأزوراً.
ثمّ أقبل على الناس فقال: ألا أنبئكم بأخلى الناس ميزاناً يوم القيامة وأبينهم خسراناً، من باع آخرته بدنيا غيره، وهو هذا الفاسق، فأسكت الناس وخرج الوالي من المسجد لم ينطق بحرف، فسألت عن الرجل، فقيل لي: هذا جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليهم أجمعين.(1)
وعن الصادق عليه السّلام أنه قال: كنت عند زياد بن عبد اللّه وجماعة من أهل بيتي، فقال: يا بني فاطمة ما فضلكم على الناس ؟ فسكتوا، فقلت: إِن من فضلنا على الناس إِنّا لا نحبّ أن نكون من أحد سوانا، وليس أحد من الناس لا يحبّ أن يكون منّا.(2)
أقول: لقد جاءه بالمسكت وهذه الكلمة على اختصارها جمعت الفضائل واغنت عن الدلائل.



_______________

(1) مجالس الشيخ الطوسي طاب ثراه، المجلس الثاني.
(2) بحار الأنوار: 47/166/8 في أحوال الصادق عليه السلام.




[ 122 ]



وكان داود بن علي بن عبد اللّه بن العبّاس والياً على المدينة من قِبل المنصور، فأرسل خلف المعلّى بن خنيس مولى الصادق عليه السّلام، وأراد أن يدلّه على أصحاب الصادق عليه السّلام وخواصّه، فتجاهل عليه المعلّى بمعرفتهم، فألحَّ عليه ثمّ هدّده بالقتل، فقال له المعلّى: أبالقتل تهدّدني واللّه لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم، وإِن أنت قتلتني تسعدني وأشقيتك، فلمّا رأى داود شدّة امتناع المعلّى قتله واستلب أمواله وكانت للصادق عليه السّلام.
فلما بلغ الصادق ذلك قام مغضباً يجرّ رداءه ودخل على داود وقال له: قتلت مولاي وأخذت مالي، أما علمت أن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب.
ثمّ أن الصادق عليه السّلام طلب منه القود، فقدّم له قاتله فقتله به، وهو صاحب شرطته، ولمّا قدّموه ليقتل اقتصاصاً جعل يصيح: يأمروني أن أقتل لهم الناس ثم يقتلونني.
ثمّ أن داود بعد ذلك أرسل خمسة من الحرس خلف الصادق عليه السّلام وقال لهم: ائتوني به فإن أبى فأتوني برأسه، فدخلوا عليه وهو يصلّي فقالوا: أجب داود، قال: فإن لم اجب، قالوا: اُمرنا بأمر، قال: فانصرفوا فإنه خير لكم في دنياكم وآخرتكم، فأبوا إِلا خروجه، فرفع يديه فوضعهما على منكبيه ثمّ بسطهما، ثمّ دعا بسبابته فسمع يقول: الساعة الساعة، حتّى سمع صارخ عال، فقال لهم: إِن صاحبكم قد مات فانصرفوا.
أقول: هذه بعض مواقفه من رجال المنصور دعاه الى الشدّة فيها الغضب للحق، حين وجد أن الكلام أولى من السكوت، وإِن أبدى فيها صفحته للسيف.





hghlhl [utv wh]r u fhgjtwdg



توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس