Untitled 2
العودة   منتديات شيعة الحسين العالمية اكبر تجمع اسلامي عربي > منتديات اهل البيت عليهم السلام > سيرة أهـل البيت (عليهم السلام)

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2015/02/22, 08:00 AM   #1
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي الامام جعفر صادق ع بالتفصيل

فهذا الذهبي(1) في ميزان الاعتدال (1: 192) يقول عند ذكره للامام: «جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين الهاشمي أبو عبد اللّه أحد الأئمة الأعلام برّ صادق كبير الشأن».
وممّا قاله النووي(2) في تهذيب الأسماء واللغات (1: 149 - 150): «روى عنه محمّد بن إسحاق، ويحيى الأنصاري، ومالك، والسفيانيان، وابن جريح، وشعبة، ويحيى القطّان، وآخرون، واتفقوا على إِمامته وجلالته وسيادته، قال عمرو بن أبي المقدام: كنت إِذا نظرت إِلى جعفر بن محمّد علمت أنه من سلالة النبيّين».

_______________

(1) الحافظ المحدّث شمس الدين أبو عبد اللّه محمّد بن أحمد بن عثمان الدمشقي المولود عام 673، والمتوفى عام 748.
(2) الحافظ أبو زكريا محيي الدين بن شرف الدين المتوفى عام 676.




[ 72 ]



وابن خلكان(1) يقول: «أحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الاماميّة، وكان من سادات أهل البيت، ولقّب بالصادق لصدقه في مقالته، وفضله أشهر من أن يذكر». وقال: «وكان تلميذه أبو موسى جابر بن حيّان الصوفي الطرطوسي(2) قد الّف كتاباً يشتمل على ألف ورقة تتضمّن رسائل جعفر الصادق وهي خمسمائة رسالة، وقال: ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر، وجدّه زين العابدين، وعمّ جدّه الحسن بن علي عليهم السّلام، فللّه درُّه من قبر ما أكرمه وأشرفه».
والشبلنجي(3) في نور الأبصار ص 131 يقول: «ومناقبه كثيرة تكاد تفوت حدّ الحاسب، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الكاتب» وقال: وفي حياة الحيوان الكبرى فائدة قال ابن قتيبة في كتاب أدب الكاتب: وكتاب الجفر كتبه الامام جعفر الصادق ابن محمّد الباقر، فيه كلّ ما يحتاجون الى علمه الى يوم القيامة، والى هذا الجفر أشار أبو العلاء بقوله:
لقد عجبوا لآل البيت لما***أتاهم علمهم في جلد جفر
فمرآة المنجم وهي صغرى***تريه كلّ عامرة وقفر
وقال محمّد الصبّان(4) في كتابه إِسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور



_______________

(1) أحمد بن محمّد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان ولد بمدينة اربل قرب الموصل وانتقل إِلى الموصل وسافر إِلى حلب ودخل الديار المصرية وناب في القضاء عن السخاوي، ثم ولّي القضاء بالشام عشر سنين وتوفي بدمشق عام 681، ترجم له في طبقات الشافعيّة: 5/14، وفي فوات الوفيّات: 1/55، والسيوطي في حسن المحاضرة: 1/267، ومعجم المطبوعات: 1/98 وغيرها.
(2) سوف نشير في حياته العلميّة إِلى علم الصادق عليه السّلام بالكيمياء وأخذ جابر عنه وشيء من حياة جابر.
(3) مؤمن بن حسن مؤمن المصري. وشبلنج قرية من قرى مصر، اشتغل في طلب العلوم في الجامع الأزهر ولد في نيف و1250 ولم تذكر وفاته.
(4) محمّد بن علي الصبّان الشافعي الحنفي ولد بمصر، ترجم له في معجم المطبوعات: 2/1194.




[ 74 ]



الأبصار ص 208: «وأمّا جعفر الصادق فكان إِماماً نبيلاً. وقال: وكان مجاب الدعوة إِذا سأل اللّه شيئاً لا يتمّ قوله إِلا وهو بين يديه».
والشعراني(1) في لواقح الأنوار يقول: «وكان سلام اللّه عليه اذا احتاج الى شيء قال: يا ربّاه أنا أحتاج الى كذا، فما يستتمّ دعاؤه إِلا وذلك الشيء بجنبه موضوع».
وسبط ابن الجوزي(2) في تذكرة خواصّ الاُمّة ص 192 يقول: «قال علماء السير: قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرئاسة» وقال: «ومن مكارم أخلاقه ما ذكره الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار عن الشقراني مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: خرج العطاء أيام المنصور ومالي شفيع، فوقفت على الباب متحيّراً وإِذا بجعفر بن محمّد قد أقبل فذكرت له حاجتي، فدخل وخرج واذا بعطائي في كمّه فناولني إِيّاه، وقال: إِن الحسن من كلّ أحد حسن وأنه منك أحسن لمكانك منّا، وأن القبيح من كلّ أحد قبيح وأنه منك أقبح لمكانك منّا، وإِنما قال له جعفر ذلك لأن الشقراني كان يشرب الشراب، فمن مكارم أخلاق جعفر أنه رحّب به وقضى له حاجته مع علمه بحاله، ووعظه على وجه التعريض، وهذا من أخلاق الأنبياء».
ومحمّد بن طلحة(3) في مطالب السؤل ص 81 يقول: «وهو من عظماء أهل البيت وساداتهم ذو علوم جمّة، وعبادة موفرة، وأوراد متواصلة، وزهادة



_______________

(1) أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري الشافعي المصري المعروف بالشعراني دخل القاهرة عام 911 وبها توفى، ترجم له في معجم المطبوعات: 1/1126.
(2) أبو مظفر شمس الدين يوسف بن قزغلي الواعظ الشهير الحنفي المولود عام 582 أو 581 والمتوفى عام 654 في 21 ذي الحجّة.
(3) كمال الدين الشافعي المتوفى عام 654.




[ 74 ]



بيّنة، وتلاوة كثيرة، يتبع معاني القرآن الكريم، ويستخرج من بحره جواهره، ويستنتج عجائبه، ويقسّم أوقاته على أنواع الطاعات، بحيث يحاسب عليها نفسه، رؤيته تذكّر الآخرة، واستماع حديثه يزهد في الدنيا، والاقتداء بهديه يورث الجنّة، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوّة، وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذرّيّة الرسالة. وقال: وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوت عدد الحاصر، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر، حتّى أنه من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى صارت الأحكام التي لا تدرك عللها والعلوم التي تقصر الأفهام عن الاحاطة بحكمها، تضاف اليه، وتروى عنه».
وفي صواعق ابن حجر(1): «ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان».
وفي ينابيع المودّة(2) طبع اسلامبول ص 380 «ومن أئمة أهل البيت أبو عبد اللّه جعفر الصادق» وقال: «وكان من سادات أهل البيت» وقال: «وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السالمي في طبقات المشايخ الصوفيّة: جعفر الصادق فاق جميع أقرانه من أهل البيت، وهو ذو علم غزير، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تامّ في الشهوات، وأدب كامل في الحكمة».
واليك ما يقوله الحافظ أبو نعيم(3) في حلية الأولياء (3: 192): «ومنهم الامام الناطق والزمام السابق، أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق أقبل على العبادة



_______________

(1) المحدّث شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي نزيل مكّة.
(2) هي للشيخ سليمان بن إِبراهيم المعروف بخواجه كلان، وكان فراغه من تأليفها تاسع شهر رمضان عام 1291.
(3) أحمد بن عبد اللّه الاصبهاني المتوفى عام 430.




[ 75 ]



والخضوع: وآثر العزلة والخشوع، ونهى(1) عن الرياسة والجموع» ثم روى عن عمرو بن أبي المقدام كلامه السابق، وروى عن الهياج بن بسطام(2) قوله: «وكان جعفر بن محمّد يطعم حتى لا يبقى لعياله شيء».
ويقول ابن الصبّاغ المالكي(3) في الفصول المهمّة: «كان من بين اخوته خليفة أبيه ووصيّه، والقائم بالامامة من بعده برز على جماعته بالفضل وكان أنبههم ذكراً، وأجلّهم قدراً، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته وذكره في سائر البلدان»، وقال في اُخريات كلامه: «مناقب أبي عبد اللّه جعفر الصادق فاضلة، وصفاته في الشرف كاملة، وشرفه على جهات الأيام سائلة، وأندية المجد والعزّ بمفاخره ومآثره آهلة».
وهذا السويدي(4) في سبائك الذهب ص 72 يقول: «كان من بين اخوته خليفة أبيه ووصيّه، نقل عنه من العلوم ما لم ينقل عن غيره، وكان إِماماً في الحديث» وقال: «ومناقبه كثيرة».
وفي عمدة الطالب(5) ص 184: «ويقال له عمود الشرف، ومناقبه متواترة بين الأنام، مشهورة بين الخاصّ والعامّ، وقصده المنصور الدوانيقي بالقتل مراراً فعصمه اللّه منه».



_______________

(1) هكذا في الأصل وفي كشف الغمّة عن الحلية «ولها» وكلّ منهما يناسب المقام.
(2) التميمي الحنظلي الهروي رحل إِلى العراق وسمع علماء عصره ودخل بغداد وحدّث بها، مات عام 177، ترجم له الخطيب البغدادي: 14/80.
(3) نور الدين علي بن محمّد بن الصبّاغ المالكي المولود عام 784 والمتوفى عام 855، ترجم له السخاوي في الضوء اللامع: 5/283 وذكر مشايخه وكتابه الفصول المهمّة في معرفة الأئمة وهم اثنا عشر.
(4) محمّد أمين البغدادي، وآل السويدي من البيوتات الرفيعة في بغداد حتّى اليوم وهو من رجال القرن الماضي، وفرغ من كتابه في شوّال عام 1229.
(5) للنسّابة الشهير جمال الدين أحمد بن علي الداودي الحسني المتوفى عام 828.




[ 76 ]



والشهرستاني(1) في المِلل والنِّحل: «وهو ذو علم غزير في الدين والأدب، كامل في الحكمة، وزهد بالغ وورع تامّ في الشهوات، وقد أقام بالمدينة مدّة يفيد الشيعة المنتمين اليه، ويفيض على الموالين أسرار العلوم، ثم دخل العراق وأقام بها مدّة ما تعرَّض للامامة قط(2) ولا نازع أحداً في الخلافة، ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط، ومن تعلّى إِلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط، وقيل من آنس باللّه توحّش عن الناس، ومن استأنس بغير اللّه نهبه الوسواس».
واليافعي(3) في مرآن الجنان ( 1: 304) فيمن توفي عام 148، يقول: «وفيها توفي الامام السيد الجليل سلالة النبوّة ومعدن الفتوّة، أبو عبد اللّه جعفر الصادق، ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر، وجدّه زين العابدين وعمّ جده الحسن بن علي رضوان اللّه عليهم أجمعين، وأكرم بذلك القبر وما جمع من الأشراف الكرام اُولي المناقب، وإِنما لقّب بالصادق لصدقه في مقالته، وله كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها، وقد الّف تلميذه جابر بن حيّان الصوفي كتاباً يشتمل على ألف ورقة يتضمّن رسائله وهي خمسمائة رسالة».
والصدوق طاب ثراه(4) يروي في أماليه المجلس ال 42 عن سليمان بن داود



_______________

(1) أبو الفتح محمّد بن أبي القاسم كان فقيهاً متكلّماً على مذهب الأشعري، دخل بغداد عام 510 وأقام بها ثلاث سنين وكانت ولادته بشهرستان وبها توفي عام 548، ترجم له في الوفيّات ومعجم الاُدباء وطبقات السبكي وروضات الجنّات ومفتاح السعادة وغيرها.
(2) يراد من الامامة هنا الامامة التي يعقدها الناس، وإِلا فهو إِمام اجتمع عليه الناس أو تفرّقوا، تعرّض للأمر أو صفح.
(3) أبو محمّد عبد اللّه بن سعد بن علي بن سليمان عفيف الدين اليافعي اليماني نزيل الحرمين المتوفى عام 768.
(4) محمّد بن علي بن بابويه القميّ المحدّث الجليل صاحب التآليف القيمّة الكثيرة البالغة نحواً من 300 مؤلّف، وقد ورد بغداد عام 352 وسمع منه شيوخ الطائفة على حداثة سنّه، ومات بالري عام 381.




[ 77 ]



المنقري(1) عن حفض بن غياث(2) انه كان إِذا حدّثنا عن جعفر بن محمّد عليه السلام قال: «حدّثني خير الجعافرة».
وروى الصدوق أيضاً فيه مسنداً عن علي بن غراب(3) انه كان إِذا حدّثنا عن جعفر بن محمّد قال: «حدّثنا الصادق عن اللّه، جعفر بن محمّد...».
وروى أيضاً في ال 32 مسنداً عن محمّد بن زياد الأزدي(4) قال: سمعت مالك بن أنس(5) يقول: أدخل الى الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام فيقدّم لي مخدّة، ويعرف لي قدراً، وكان لا يخلو من إِحدى ثلاث خصال إمّا صائماً وإِما قائماً وإِما ذاكراً، وكان من عظماء العبّاد واكابر الزهّاد، الذين يخشون اللّه عزّ وجل وكان كثير الحديث، طيّب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اخضرَّ مرَّة، واصفرَّ اُخرى، حتّى ينكره مَن يعرفه، ولقد



_______________

(1) المعروف بابن الشاذكوني وهو ممن روى عن الصادق عليه السلام وعن رواته وكان من ثقات الرواة.
(2) الكوفي القاضي، وسيأتي في الثقات من مشاهير رواة الصادق عليه السّلام، والظاهر أنه من أهل السنّة.
(3) ابن عبد العزيز وهو ممّن روى عن الصادق عليه السلام واستظهر بعض الرجاليين أنه من أهل السنّة إلا أن ابن النديم في الفهرست عدّه من مشايخ الشيعة الذين رووا الفقه عن الأئمة عليهم السلام.
(4) هو المعروف بابن أبي عمير وقد لقي الكاظم والرضا والجواد عليهم السلام، حبسه الرشيد ليلي القضاء، وقيل ليدلّه على مواضع الشيعة وأصحاب الكاظم عليه السّلام، وقيل ضرب أسواطاً ونالت منه فلم يقر، وقد رويت عنه كتب مائة رجل من أصحاب الصادق عليه السلام، وله مصنّفات كثيرة، وهو ممّن لا يروي إلا عن ثقة، وقد أجمع العصابة على قبول مراسيله، وهو من العصابة الذين أجمعوا على تصحيح ما يصحّ عنهم، وقد اتفق الفريقان على وثاقته وعلوّ منزلته، وقيل: إِنما قبلوا مراسيله لأنه دفن كتبه يوم حبس فتلفت فروى ما علق منها في ذهنه، فمن ثمّ قد ينسى الراوي وإِن حفظ الرواية، مات عام 217.
(5) المدني أوّل المذاهب الأربعة، وهو ممّن أخذ عن الصادق عليه السلام كما سيأتي في أصحاب الصادق عليه السلام، وهو مذهب أهل الحجاز والنسبة اليه مالكي.




[ 78 ]



حججت معه سنة فلمّا استوت به راحلته عند الاحرام كان كلّما همَّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد أن يخرّ عن راحلته، فقلت: يابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولابدّ لك من أن تقول، فقال:يابن عامر كيف أجسر أن أقول لبّيك اللّهمّ لبّيك، وأخشى أن يقول عزّ وجل: لا لبّيك ولا سعديك.
وابن شهراشوب(1) في كتابه المناقب في أحوال الصادق عليه السّلام يروي عن مالك بن أنس أيضاً قوله: ما رأت عين ولا سمعت اُذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادةً وورعاً، وزاد الصدوق في أماليه في ال 81 قوله: كان واللّه إِذا قال صدق.
وقال أيضاً: وذكر أبو القاسم البغار في مسند أبي حنيفة(2) قال الحسن بن زياد: سمعت أبا حنيفة وقد سئل: من أفقه من رأيت ؟ قال: جعفر بن محمّد، لمّا أقدمه المنصور بعث إِليّ فقال: يا أبا حنيفة إِن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد فهيّئ له مسائلك الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة، ثم بعث إِليّ أبو جعفر وهو في الحيرة فأتيته فسلّمت عليه، فأورد إِليّ المجلس فجلست ثم التفت اليه فقال: يا أبا عبد اللّه هذا أبو حنيفة، قال: نعم أعرفه، ثمّ التفت إِليّ فقال: القِ على أبي عبد اللّه من مسائلك، فجعلت القي عليه فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعناكم، وربما تابعناهم، وربما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على الأربعين مسألة، فما أخلّ منها



_______________

(1) محمّد بن علي المازندراني رشيد الدين من مشايخ الطائفة وفقهائها وكان شاعراً بليغاً منشأً وله مصنّفات عديدة منها: معالم العلماء، وكتاب أنساب آل أبي طالب، وكتاب مناقب آل أبي طالب، وهو الذي أشرنا اليه في الأصل، وكثيراً ما نروي عنه في هذا الكتاب.
(2) النعمان بن ثابت ثاني المذاهب لأهل السنّة وهو أيضاً ممّن أخذ عن الصادق عليه السلام، والنسبة اليه حنفي، وسيأتي الكلام عليه في أصحاب الصادق عليه السلام.




[ 79 ]



بشيء، ثمّ قال أبو حنيفة: أليس أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.
بل ان المنصور نفسه وهو مَن علمت كيف يحرّق الارم(1) على أبي عبد اللّه عليه السّلام قد ينطق بالحقّ، عند ذكره أو مقابلته، فيقول: هذا الشجى المعترض في حلقي من أعلم الناس في زمانه(2) ويقول اُخرى: وإنه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا(3) ويقول تارة: إنه ليس من أهل بيت نبوّة إِلا وفيه محدّث، وإن جعفر بن محمّد محدّثنا اليوم(4) ويقول مخاطباً للصادق عليه السّلام: لانزال من بحرك نغترف، واليك نزدلف، تبصر من العمى، وتجلو بنورك الطخياء(5) فنحن نعوم في سحاب قدسك، وطامي بحرك(6)، ويقول لحاجبه الربيع: وهؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إِلا جاهل لا حظّ له في الشريعة(7).
ويقول إسماعيل بن علي بن عبد اللّه بن العبّاس: دخلت على أبي جعفر المنصور يوماً وقد اخضلّت لحيته بالدموع، وقال لي: ما علمت ما نزل بأهلك فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين، قال: فإنّ سيّدهم وعالمهم وبقيّة الأخيار منهم توفي، فقلت ومَن هو ؟ قال: جعفر بن محمّد، فقلت: أعظم اللّه أجر أمير المؤمنين وأطال لنا بقاءه، فقال لي: إِن جعفراً كان ممّن قال اللّه فيه «ثمّ اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا» وكان ممّن اصطفى اللّه، وكان من السابقين في



_______________

(1) كركع - الأضراس، ولتولّد الحرارة فيها من حكّ بعضها ببعض يقال يحرقها، وهو مثَل يضرب لمن يبلغ به الغيظ شدّته لأن الحكّ من آثاره.
(2) كتاب الوصيّة للمسعودي.
(3) كشف الغمّة عن تذكرة ابن حمدون: 2 / 209.
(4) الكافي: باب مولده عليه السلام: 1 / 475، وبصائر الدرجات، والمناقب، والخرائج والجرائح.
(5) الليلة المظلمة، ولعلّه كناية عن الاُمور المشكلة التي لا يهتدي الناس إِلى حلّها.
(6) بحار الأنوار: في أحوال الصادق عليه السلام: 47 / 199.
(7) مهج الدعوات لابن طاووس: ص 192، بحار الأنوار: 47/199.




[ 80 ]



الخيرات(1).
هذا وهو المنصور العدوّ الألدّ للصادق، الذي كان مجاهداً في النيل من كرامته والقضاء عليه.
بل أن الملاحدة على كفرهم وعدائهم للاسلام ورجاله كانوا يعظّمونه ويعترفون له بغزارة العلم، والميزة بالصفات الروحيّة والملكات القدسيّة، أمثال ابن المقفّع وابن أبي العوجاء والديصاني وغيرهم، فهذا ابن المقفع يقول: ترون هذا الخلق وأومأ بيده الى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له إسم الانسانيّة إِلا ذلك الشيخ الجالس، يعني الصادق عليه السّلام، وقال ابن أبي العوجاء: ما هذا ببشر، وإِن كان في الدنيا روحاني يتجسّد اذا شاء ويتروّح اذا شاء باطناً فهو هذا، يعني الصادق عليه السّلام.(2)
وكان ابن أبي العوجاء اذا سأل أحد أصحاب الصادق عليه السّلام عن شيء غامض واستمهله، ثمّ أتاه بالجواب بعد حين واستحسنه، قال: هذه نقلت من الحجاز.
وهكذا كان الديصاني مع أصحاب الصادق عليه السّلام، وما يقوله فيم يحملون اليه جوابه.
وهذه قطرة من غيث ممّا نطق به أهل الفضل في شأن الصادق عليه السّلام مع اختلاف الزمن والبلد والذوق والرأي في القائلين، اُقدّمها أمام الدخول في حياته التفصيليّة لتعطيك صورة إجماليّة عن هذه الشخصيّة الفذّة، فإن هذه الكلمات مع وجازتها تعلم القارئ عمّا لأبي عبد اللّه عليه السّلام من فضيلة بل فضائل، وعمّا له من آثار ومآثر.



_______________

(1) تأريخ اليعقوبي: 3/117.
(2) الكافي: كتاب التوحيد منه، باب حدوث العالم وإثبات المحدث: 1/74.


كفى في امتحان أهل الدين هذا التصارع الدائم بين الدين والدنيا وقلّماً ائتلفا في عصر، ولولاه لما كانت التقيّة، ولما كانت تلك الفوادح النازلة بساحة أهل البيت.
ليس الصراع بين أهل البيت وبين اُميّة والعبّاس غريباً مادام أهل البيت مثال الدين، واولئك مثال الدنيا.
يعلم المروانيّون والعبّاسيّون أن الصادق عليه السلام زعيم هذا التصارع ولئن صمت عن مصارعتهم بالحرب فلا يكفيهم أماناً من حربه لهم، ولربما كان الصمت نفسه أداة الصراع أو هو الصراع نفسه، فإن السكوت قد يكون جواباً كما يقولون.
فمن ثمّ تجدهم يوجّهون اليه عوادي المحن كلّ حين، وما كفّهم عن تعاهده بالأذى ذلك الانعزال والانشغال بالعبادة والعلم، فإن هذا الشغل هو سلاح الحرب، لأنه ظاهرة الدين وبه تتّجه الأنظار اليه، وكلّما ارتفع مقام الصادق قويت شوكة الدين، وإِذا قوي الدين انصرع أهل الدنيا.
ولولا تشاغل الاُمويّين بالفتن بينهم لما أبقوا على الصادق عليه السلام، كما لم يبقوا على آبائه، أجل كأنهم تركوا ذلك إلى أبناء عمّه الأقربين،




[ 93 ]



«واولو الأرحام بعضهم أولى ببعض»!(1)
كانت أيام السفّاح أربع سنين، وهذا الزمن لا يكفي لتطهير الأرض من أُميّة، ولبناء اُسّ المُلك وترسيخ دعائمه، فلم يشغله ذلك عن الصادق عليه السّلام، فإنه لم يطمئن بعدُ من أُميّة والروح الموالية لهم، ولم يفرغ من تأسيس ذلك البناء حتّى أرسل على الصادق من المدينة إِلى الحيرة، ليفتك به، ولكن كفى بالأجل حارساً.
ولماذا كان الصادق إِحدى شُعب همّه، وهو ابن عمّهم الذي اشتغل بالعبادة والتعليم والارشاد، والذي أخبرهم بما سيحظون به من المُلك دون بني الحسن، وقد كانوا بأضيق من جحر الضب من بني أُميّة، وأقلق من الريشة في مهبّ الريح خوفاً منهم.
ما كان يدفع السفّاح على ذلك العمل الشائن إِلا ما قلناه من ذلك الصراع حذراً من أن يتّجه الناس إِلى الصادق عليه السّلام، ويعرفوا منزلته، والناس إِلى ذلك العهد كانت ترى أن الخلافة مجمع السلطتين الروحيّة والزمنيّة، ولا تراها سلطاناً خالصاً لا علاقة لها بالدين، فلا يصرف الناس عن الصادق أنه رجل الدين الخالص، بل أن هذا ادعى عند بعض الناس للامامة، ليكونوا منه في أمان على دنياهم، كما هم في أمان على دينهم.
وبذلك الحذر وقف المنصور بمرصد للصادق عليه السّلام، فشاهد عليه السّلام منه ضروب الآلام والمكاره، وما كفّ ولا عفّ عنه حتّى أذاقه السمّ.
ولا عجب ممّا كان يلاقيه أبو عبد اللّه عليه السّلام من تلك المكاره، فإنّ



_______________

(1) الأنفال: 75.




[ 94 ]



محن المرء على قدر ما له من فضيلة وكرامة، وعلى قدر مقامه بين الناس وطموحه إِلى الرتب العالية.
كان بين ولاية المنصور ووفاة الصادق عليه السّلام اثنتا عشرة سنة لم يجد الصادق فيها راحة ولا هدوءً على ما بينهما من البُعد الشاسع، الصادق في الحجاز، والمنصور في العراق، وكان يتعاهده بالأذى، كما يتعاهد المحبّ حبيبه بالطرف والتحف.
يقول ابن طاووس أبو القاسم علي طاب ثراه(1) في كتاب «مهج الدعوات» في باب دعوات الصادق عليه السّلام: إِن المنصور دعا الصادق سبع مرّات كان بعضها في المدينة والربذة حين حجّ المنصور، وبعضها يرسل اليه إِلى الكوفة وبعضها إِلى بغداد، وما كان يرسل عليه مرّة إِلا ويريد فيها قتله، هذا فوق ما يلاقيه فيها من الهوان وسوء القول، ونحن نذكرها بالتفصيل:
الاولى: روى ابن طاووس عن الربيع حاجب المنصور قال: لما حجّ المنصور(2) وصار بالمدينة سهر ليلة فدعاني فقال: يا ربيع انطلق في وقتك هذا على أخفض جناح وألين مسير، وإِن استطعت أن تكون وحدك فافعل حتّى تأتي أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد فقل له: هذا ابن عمّك يقرأ عليك السّلام ويقول



_______________

(1) رضيّ الدين أبو القاسم علي بن موسى الحسني الحلّي من آل طاووس جمع بين العلم والعبادة والزهادة وبين الشعر والأدب والانشاء والبلاغة، تنسب اليه الكرامات العالية، وقيل: إنه كان أعبد أهل زمانه وأزهدهم، وعن العلامة الحلّي في بعض إجازاته وهو ممّن روى عنه، يقول عند ذكره: وكان رضيّ الدين علي صاحب كرامات حكي بعضها وروى لي والدي البعض الآخر، وكان أزهد أهل زمانه.
(2) حجّ المنصور أيّام الصادق عليه السلام ثلاث مرّات عام 140 و144 و147 وبعد وفاة الصادق مرّتين عام 152 وعام 158 فلم يتمّ الحجّ، انظر تاريخ اليعقوبي: 3/122 طبع النجف، والذي يظهر أن المنصور في كلّ مرّة من الثلاث يأمر بجلب الصادق عليه السلام.




[ 95 ]



لك: إِن الدار وإِن نأت والحال وإِن اختلفت فإنّا نرجع إِلى رحم أمسّ من يمين بشمال، ونعل بقبال(1) وهو يسألك المصير اليه في وقتك هذا، فإن سمح بالمصير معك فأوطئه خدّك، وإِن امتنع بعذر أو غيره فاردد الأمر اليه في ذلك، وإِن أمرك بالمصير اليه في تأنّ فيسّر ولا تعسّر، واقبل العفو ولا تعنف في قول ولا فعل، قال الربيع: فصرت إِلى بابه فوجدته في دار خلوته فدخلت عليه من غير استئذان، فوجدته معفّراً خدّيه مبتهلاً بظهر كفّيه قد أثَّر التراب في وجهه وخدّيه، فأكبرت أن أقول شيئاً حتّى فرغ من صلاته ودعائه، ثم انصرف بوجهه فقلت: السّلام عليك يا أبا عبد اللّه فقال: وعليك السّلام يا أخي، ما جاء بك، فقلت: ابن عمّك يقرأ عليك السّلام، حتّى بلغت إِلى آخر الكلام، فقال: ويحك يا ربيع «ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحقّ ولا يكونوا كالذين اوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم»(2) ويحك يا ربيع «أفأمن أهل القرى أن يأتيَهم بأسُنا بياتاً وهم نائمون، أو أمن أهل القرى أن يأتيَهم بأسُنا ضحىً وهم يلعبون، أفأمنوا مكرَ اللّه فلا يأمن مكرَ اللّه إِلا القوم الخاسرون»(3) قرأت على أمير المؤمنين السّلام ورحمة اللّه وبركاته، ثمّ أقبل على صلاته، وانصرف إِلى توجّهه، فقلت: هل بعد السّلام من مستعتب أو اجابة، فقال: نعم، قل له: «أفرأيت الذي تولّى، وأعطى قليلاً واكدى، أعنده علم الغيب فهو يرى، أم لم ينبّأ بما في صحف موسى، وإِبراهيم الذي وفّى، ألا تزر وازرة وزر أُخرى، وأن ليس للانسان إِلا ما سعى، وأنّ سعيَهُ سوف يُرى»(4) إِنّا واللّه



_______________

(1) بالكسر زمام بين الاصبع الوسطى والتي يليها.
(2) الحديد: 15.
(3) الأعراف: 97 - 99.
(4) النجم: 33 - 40، وأن هذه الآيات فيها تذكير ووعظ وتهديد، وأن الانسان مقرون بعمله ولا يؤاخذ بغير وزره.




[ 96 ]



يا أمير المؤمنين قد خفناك وخافت بخوفنا النسوة اللاتي أنت أعلم بهنّ، ولا بدّ لنا من الايضاح به(1) فإن كففت وإِلا أجرينا اسمك على اللّه عزّ وجل في كلّ يوم خمس مرّات(2) وأنت حدّثتنا عن أبيك عن جدّك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: أربع دعوات لا يحجبن عن اللّه تعالى: دعاء الوالد لولده، والأخذ بظهر الغيب لأخيه، والمخلص...
قال الربيع، فما استتمّ الكلام حتّى أتت رسل المنصور تقفو أثري وتعلم خبري فرجعت فأخبرته بما كان فبكى، ثمّ قال: ارجع إِليه وقل له: الأمر في لقائك اليك والجلوس عنّا، وأمّا النسوة اللاتي ذكرتهنّ فعليهنّ السّلام فقد آمن اللّه روعتهنّ وجلى همّهنّ، قال: فرجعت اليه فأخبرته بما قال المنصور فقال: قل له: وصلت رحماً، وجزيت خيراً، ثمّ اغرورقت عيناه حتّى قطر من الدموع في حجره قطرات.
ثمّ قال: يا ربيع إِن هذه الدنيا وان أمتعت ببهجتها، وغرّت بزبرجها(3) فقلت: يا أبا عبد اللّه أسألك بكلّ حقّ بينك وبين اللّه جلّ وعلا إِلا عرفتني ما ابتهلت به إِلى ربّك تعالى، وجعلته حاجزاً بينك وبين حذرك وخوفك فلعلّ اللّه يجبر بدوائك كسيراً، ويغني به فقيراً، واللّه ما اعني غير نفسي، قال الربيع: فرفع يده وأقبل على مسجده كارهاً أن يتلو الدعاء صفحاً، ولا يحضر ذلك بنيّة، فقال: قل: اللّهم إني أسألك يا مدرك الهاربين، ويا ملجأ الخائفين، الدعاء.(4)



_______________

(1) أحسبه يريد أنه لابدّ من الافصاح بحقيقة الحال.
(2) يريد أنه يدعو عليه بعد كلّ صلاة، ويكون من دعاء المظلوم الذي لا يحجب.
(3) سوف نذكرها في المختار من كلامه في باب مواعظه.
(4) ذكرنا هذه الأدعية التي في هذا الفصل كلّها فيما جمعناه من دعاء الصادق عليه السلام فإنّا لمّا رأينا أن أدعيته في هذا الفصل طويلة وكثيرة آثرنا جمعها مع ما ظفرنا به من أدعيته الاُخر وجعلناها كتاباً مفرداً وسمّيناه دعاء الصادق وقد اجتمع لدينا حتّى اليوم ما يناهز 400 صفحة بقطع هذا الكتاب.




[ 97 ]



ليس في استدعاء المنصور للصادق عليه السّلام في هذه الدفعة ظاهرة سوء، فما الذي أقلق أبا عبد اللّه وروع نساءه، وجعله يتوسّل إِلى اللّه تعالى في كفّ شرّ المنصور، إِن أبا عبد اللّه أبصر بقومه وأدرى بنواياهم، ومن الدفعات الآتية تتّضح لك جليّاً مقاصد المنصور مع الصادق عليه السّلام، وأنه ما كان يقصد من هذا الإرسال إِلا السوء.
الثانية: وروى ابن طاووس عن الربيع أيضاً، قال حججت مع أبي جعفر المنصور فلمّا صرت في بعض الطريق قال لي المنصور: يا ربيع إِذا نزلت المدينة فاذكر لي جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السّلام فواللّه العظيم لا يقتله أحد غيري، إحذر أن تدع أن تذكّرني به، قال: فلمّا صرنا إِلى المدينة أنساني اللّه عزّ وجل ذكره، فلما صرنا إِلى مكّة قال لي: يا ربيع ألم آمرك أن تذكّرني بجعفر بن محمّد اذا دخلنا المدينة، قال: فقلت: نسيت يا مولاي يا أمير المؤمنين، فقال لي: فاذا رجعنا إِلى المدينة فذكّرني به فلا بدّ من قتله، فإن لم تفعل لأضربنّ عنقك، قال: فقلت له: نعم يا أمير المؤمنين، ثم قلت لأصحابي وغلماني: ذكّروني بجعفر بن محمّد إِذا دخلنا المدينة إِن شاء اللّه قال: فلم يزل أصحابي وغلماني يذكّروني به في كلّ منزل ندخله وننزل فيه حتّى قدمنا المدينة، فلمّا نزلنا المدينة دخلت الى المنصور فوقفت بين يديه وقلت: يا أمير المؤمنين جعفر بن محمّد، قال: فضحك وقال لي: نعم اذهب يا ربيع فأتني به ولا تأتني به إِلا مسحوباً، قال: فقلت له: يا مولاي حبّاً وكرامة، وأنا أفعل ذلك طاعة




[ 98 ]



لأمرك، قال: ثمّ نهضت وأنا في حال عظيم من ارتكابي ذلك، قال: فأتيت الامام الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام وهو جالس في وسط داره، فقلت له جعلت فداك: إِن أمير المؤمنين يدعوك اليه، فقال: السمع والطاعة، ثمّ نهض وهو معي يمشي، قال: فقلت له: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِنه أمرني ألا آتيه بك إِلا مسحوباً، قال: فقال الصادق عليه السّلام: امتثل يا ربيع ما أمرك به، قال الربيع: فأخذت بطرف كمّه أسوقه، فلمّا أدخلته عليه رأيته وهو جالس على سريره وفي يده عمود من حديد يريد أن يقتله به، ونظرت الى جعفر بن محمّد يحرّك شفتيه فلم أشكّ أنه قاتله، ولم أفهم الكلام الذي كان جعفر بن محمّد يحرّك به شفتيه، فوقفت أنظر اليهما، قال الربيع: فلمّا قرب منه جعفر بن محمّد قال له المنصور: ادن مني يا ابن عمّي، وتهلّل وجهه، وقرَّبه حتّى أجلسه معه على السرير، ثمّ قال: يا غلام ائتني بالحقّة، فأتاه بالحقّة وفيها قدح الغالية فغلفه(1) منها، ثمّ حمله على بغلة وأمر له ببدرة وخلعة ثمّ أمره بالانصراف، قال: فلمّا نهض من عنده خرجت بين يديه حتّى وصل الى منزله، فقلت له: بأبي أنت واُمّي يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِني لم أشكّ فيه ساعة تدخل عليه أنه يقتلك، ورأيتك تحرّك شفتيك في وقت دخولك عليه فما قلت ؟ قال لي: نعم يا ربيع إعلم أني قلت: حسبي الربّ من المربوبين، حسبي الخالق من المخلوقين، الدعاء.
الثالثة: قال ابن طاووس في استدعائه مرّة ثالثة بالربذة(2): يقول مخرمة



_______________

(1) أي غطّاه وغشّاه بها مبالغة في كثرة ما وضع عليه من الغالية.
(2) أرض بين مكّة والمدينة كان فيها مسكن أبي ذر قبل إسلامه واليها منفاه، وفيها موته ومدفنه، رضي اللّه عنه.




[ 99 ]



الكندي: لمّا نزل أبو جعفر المنصور الربذة وجعفر بن محمّد عليه السّلام يومئذٍ بها، قال: من يعذرني من جعفر هذا، يقدّم رِجلاً ويؤخّر اُخرى يقول: انتجى(1) عن محمّد(2) فإن يظفر فإن الأمر لي وإن تكن الاُخرى فكنت قد أحرزت(3) نفسي، أما واللّه لأقتلنّه، ثمّ التفت الى إبراهيم بن جبلة فقال: يا ابن جبلة قم اليه فضع في عنقه ثيابه ثم ائتني به سحباً، قال إِبراهيم: فخرجت حتّى أتيت منزله فلم أصبه، فطلبته في مسجد أبي ذر فوجدته على باب المسجد، قال: فاستحييت أن أفعل ما اُمرت به، فأخذت بكمّه فقلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: إنّا للّه وإِنّا اليه راجعون، دعني حتّى اُصلّي ركعتين ثمّ بكى بكاءً شديداً وأنا خلفه، ثم قال: اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ورجائي في كلّ شدّة. الدعاء، ثمّ قال: اصنع ما اُمرت به، فقلت: واللّه لا أفعل ولو ظننت أني اُقتل، فذهبت به لا واللّه ما أشكّ إِلا أنه يقتله قال: فلمّا انتهيت الى باب الستر قال: يا إِله جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وإِله إبراهيم وإسحق ومحمّد صلّى اللّه عليه وآله تولّ في هذه الغداة عافيتي ولا تسلّط عليّ أحداً من خلقك بشيء لا طاقة لي به، قال إبراهيم: ثمّ أدخلته عليه، قال: فاستوى جالساً، ثمّ أعاد عليه الكلام، فقال: قدّمت رِجلاً وأخّرت اُخرى، أما واللّه لأقتلنّك، فقال: يا أمير المؤمنين ما فعلت فارفق بي لقلّما أصحبك، فقال له أبو جعفر: انصرف، قال: ثمّ التفت الى عيسى بن علي(4) فقال: يا أبا العبّاس إلحقه فاسأله أبيَ أم به، قال: فخرج يشتدّ حتّى لحقه،



_______________

(1) اتخلّص، وفي نسخة أتنحّى وكلاهما يناسب المقام.
(2) ابن عبد اللّه بن الحسن وينبغي أن تكون هذه الحجّة عام 144 قبل خروج محمّد، ولعلّ الاولتين كانتا عام 140 و147، ولا يلزم من ترتيب بيان الشريف ابن طاووس أن يكون على ترتيب السنين، لا سيمّا وهو لم يتعّرض لسنة الحجّ متى كانت.
(3) حفظت.
(4) ابن عبد اللّه بن العبّاس وهو عمّ المنصور.




[ 100 ]



فقال: يا أبا عبد اللّه إِن أمير المؤمنين يقول لك: أبِك أم به؟ فقال: لا بل بي، فقال أبو جعفر: صدق(1).
قال إبراهيم بن جبلة: ثمّ خرجت فوجدته قاعداً ينتظرني يتشكّر لي صنيعي به واذا به يحمد اللّه ويقول: الحمد للّه الذي أدعوه فيجيبني وإِن كنت بطيئاً حين يدعوني، الدعاء.
الرابعة: يقول الشريف ابن طاووس: إِن هذه المرّة الرابعة هي التي استدعاه بها الى الكوفة، قال: يقول الفضل بن الربيع بعد أن ذكر سند الرواية اليه: قال أبي الربيع: بعث المنصور إبراهيم بن جبلة الى المدينة ليشخص جعفر بن محمّد، فحدّثني إبراهيم بعد قدومه بجعفر أنه لمّا دخل اليه فخبّره برسالة المنصور سمعته يقول: اللّهمّ أنت تقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، الدعاء. فلمّا قدّموا راحلته وخرج ليركب سمعته يقول: اللّهمّ بك أستفتح وبك أستنجح، الدعاء، قال: فلمّا دخلنا الكوفة نزل فصلّى ركعتين ثمّ رفع يده الى السماء فقال: اللّهمّ ربّ السموات وما أظلّت وربّ الأرضين السبع وما أقلّت، الدعاء، قال الربيع: فلمّا وافى الى حضرة المنصور دخلت فأخبرته بقدوم جعفر وإبراهيم فدعا المسيّب بن زهير الضبي فدفع اليه سيفاً وقال له: اذا دخل جعفر بن محمّد فخاطبته وأومأت اليه فاضرب عنقه ولا تستأمر(2)، فخرجت اليه وكان صديقاً الاقيه واعاشره اذا حججت فقلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه



_______________

(1) إن هذا الكلام ظاهر في أنه بالقرب من وفاة الصادق عليه السلام فتكون الحجّة عام 147، إِلا أن تصريحه أولاً في أن كلامه كان قبل خروج محمّد يعيّن أن تكون الحجّة عام 144، ومن الغريب أنّ يصدّق المنصور كلام الصادق بعد أن يسأله أن البدأة بمن، وهو يلاقيه بما يلاقيه من سوء ومكروه.
(2) بالبناء للفاعل أي لا تشاور.




[ 101 ]



عليه وآله إن هذا الجبّار قد أمر فيك بأمر اكره أن ألقاك به فإن كان في نفسك شيء تقوله وتوصيني به، فقال: لا يروعك ذلك فلو قد رآني لزال ذلك كلّه، ثمّ أخذ بمجامع الستر فقال: يا إِله جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، وإِله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمّد صلّى اللّه عليه وآله تولّني في هذه الغداة ولا تسلّط عليّ أحداً من خلقك بشيء لا طاقة لي به، ثمّ دخل فحرّك شفتيه بشيء لم أفهمه، فنظرت الى المنصور فما شبّهته إِلا بنار صبّ عليها ماء فخمدت، ثمّ جعل يسكن غضبه حتّى دنا منه جعفر بن محمّد عليهما السّلام وصار مع سريره، فوثب المنصور، وأخذ بيده ورفعه على سريره، ثمّ قال له يا أبا عبد اللّه يعزّ عليّ تعبك، وإنما أحضرتك لأشكو اليك أهلك قطعوا رحمي، وطعنوا في ديني، وألّبوا الناس عليّ، ولو ولّي هذا الأمر غيري ممّن هو أبعد رحماً مني لسمعوا له وأطاعوا، فقال له جعفر عليه السّلام: فأين يعدل بك عن سلفك الصالح أن أيّوب عليه السّلام ابتلي فصبر، وأن يوسف عليه السّلام ظُلم فغفر، وأن سليمان عليه السّلام اُعطي فشكر، فقال المنصور: قد صبرت وغفرت وشكرت.
ثمّ قال: يا أبا عبد اللّه حدّثنا حديثاً كنت سمعته منك في صلة الأرحام قال: نعم سمعت أبي عن جدّي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: البرّ وصلة الأرحام عمارة الديار وزيادة الأعمار، قال: ليس هذا هو، قال: حدّثني أبي عن جدّي، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: من أحبّ أن ينسأ(1) في أجله، ويعافى في بدنه، فليصل رحمه، قال: ليس هذا هو، قال: نعم حدّثني أبي عن جدّي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: رأيت رحماً متعلّقة بالعرش تشكو الى اللّه عزّ وجل قاطعها فقلت: يا جبرئيل وكم بينهم ؟ قال: سبعة آباء،



_______________

(1) يؤخّر.




[ 102 ]



فقال: ليس هذا هو، قال: نعم حدّثني أبي عن جدّي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: احتضر رجل بارّ في جواره رجل عاق، فقال اللّه عزّ وجل لمَلك الموت: يا مَلك الموت كم بقي من أجل العاق ؟ قال: ثلاثون سنة قال: حوّلها الى هذا البار(1) فقال المنصور: يا غلام ائتني بالغالية، فأتاه بها فجعل يغلفه بيده، ثمّ دفع اليه أربعة آلاف دينار، ودعا بدابته فأتى بها فجعل يقول: قدّم قدّم، الى أن اُتي بها عند سريره فركب جعفر بن محمّد عليهما السّلام وغذوت بين يديه، فسمعته يقول: الحمد للّه الذي أدعوه فيجيبني. الدعاء، فقلت: يا ابن رسول اللّه إِن هذا الجبّار يعرضني على السيف كلّ قليل، ولقد دعا المسيّب بن زهير فدفع اليه سيفاً وأمره أن يضرب عنقك وأني رأيتك تحرّك شفتيك حين دخلت بشيء لم أفهمه عنك، فقال: ليس هذا موضعه فرحت اليه عشيّاً، قال: نعم حدّثني أبي عن جدّي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لمّا الّبت عليه اليهود وفزارة وغطفان وهو قوله تبارك وتعالى «إِذ جاؤوكم من فوكم ومن أسفل منكم وإِذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون باللّه الظنونا»(2) وكان ذلك اليوم أغلظ يوم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فجعل يدخل ويخرج وينظر إِلى السماء فيقول: ضيقي تتّسعي، ثمّ خرج في بعض الليل فرأى شخصاً فقال لحذيفة: انظر من هذا، فقال: يا رسول اللّه هذا عليّ بن أبي طالب، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يا أبا الحسن أما خشيت أن تقع عليك عين، قال: وهبت نفسي للّه ولرسوله وخرجت حارساً للمسلمين في هذه الليلة، فما انقضى كلامهما حتّى نزل جبرئيل، قال: يا محمّد إِن اللّه يقرأ عليك السّلام



_______________

(1) لا يخفى على الصادق عليه السلام الحديث الذي أراده المنصور، وإنما كثر عليه أحاديث الرحم، ليعرّفه موقفه من ذوي رحمه.
(2) الأحزاب: 10.




[ 103 ]



ويقول لك: قد رأيت موقف علي منذ الليلة وأهديت اليه من مكنون علمي كلمات لا يتعوّذ بها عند شيطان مارد، ولا سلطان جائر، ولا حرق ولا غرق، ولا هدم ولا ردم، ولا سبع ضار، ولا لصّ، إِلا آمنه اللّه من ذلك، وهو أن يقول: اللّهمّ احرسنا بعينك التي لا تنام... الدعاء.
الخامسة: وقد استدعاه بها المنصور الى بغداد قبل قتل محمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن(1) روى ذلك الشريف رضيّ الدين بسنده عن محمّد بن الربيع الحاجب، قال: قعد المنصور يوماً في قصره بالقبّة الخضراء، وكانت قبل قتل محمّد وإبراهيم تدعى الحمراء، وكان له يوم يقعد فيه ويسمّى ذلك اليوم يوم الذبح، وقد كان أشخص جعفر بن محمّد من المدينة، فلم يزل في الحمراء نهاره كلّه حتى جاءالليل ومضى اكثره قال: ثمّ دعا الربيع فقال له: يا ربيع إِنك تعرف موضعك مني وأنه يكون بي الخير ولا تظهر عليه اُمّهات الأولاد وتكون أنت المعالج له، قال: قلت: يا أمير المؤمنين ذلك فضل اللّه عليّ وفضل أمير المؤمنين وما فوقي في النصح غاية، قال: كذلك أنت صر الساعة الى جعفر بن محمّد بن فاطمة فأتني به على الحال التي تجده فيها لا تغيّر شيئاً ممّا عليه، فقلت: إِنا للّه وإِنا اليه راجعون، هذا واللّه هو العطب، إِن أتيت به على ما أراه من غضبه قتله وذهبت الآخرة، وإِن لم أذهب في أمره قتلني وقتل نسلي وأخذ أموالي، فميّزت بين الدنيا والآخرة فمالت نفسي الى الدنيا، قال محمّد بن الربيع: فدعاني أبي وكنت أفظّ ولده وأغلظهم قلباً، فقال لي: إمض الى



_______________

(1) كان قتلهما عام 145، وانتقال المنصور الى بغداد عام 146، فلا وجه لأن يكون استدعاؤه الى بغداد قبل قتلهما، فإما أن يكون الى الكوفة والغلط من النسّاخ أو الراوي، أو الاستدعاء بعد قتلهما.




[ 104 ]



جعفر بن محمّد فتسلّق عليه حائطه ولا تستفتح عليه بابه فيغيّر بعض ما هو عليه ولكن انزل عليه نزلاً، فأتِ به على الحال التي هو فيها، قال: فأتيته وقد ذهب الليل إِلا أقلّه، فأمرت بنصب السلاليم وتسلّقت عليه الحائط ونزلت داره فوجدته قائماً يصلّي وعليه قميص ومنديل وقد ائترز به، فلما سلّم من صلاته قلت: أجب أمير المؤمنين فقال: دعني أدعو وألبس ثيابي، فقلت: ليس الى ذلك من سبيل، قال لي: فأدخل المغتسل فأتطهّر، قال: قلت: وليس الى ذلك أيضاً سبيل، فلا تشغل نفسك فإني لا أدعك تغيّر شيئاً، قال: فأخرجته حافياً حاسراً في قميصه ومنديله، وكان قد جاوز السبعين(1) فلمّا مضى بعض الطريق ضعف الشيخ فرحمته فقلت له: اركب، فركب بغلَ شاكري(2) كان معنا، ثمّ صرنا الى الربيع فسمعته وهو يقول: ويلك يا ربيع قد أبطأ الرجل ويستحثّه استحثاثاً شديداً، فلمّا أن وقعت عين الربيع على جعفر وهو بتلك الحال بكى، وكان الربيع يتشيّع، فقال له جعفر عليه السّلام: يا ربيع أنا أعلم ميلك الينا فدعني اُصلّي ركعتين وأدعو، قال: شأنك وما تشاء، فصلّى ركعتين خفّفهما ثمّ دعا بعدهما بدعاء لم أفهمه إِلا أنه دعاء طويل، والمنصور في ذلك كلّه يستحثّ الربيع، فلمّا فرغ من دعائه على طوله أخذ الربيع بذراعه فأدخله على المنصور فلمّا صار في صحن الايوان وقف ثمّ حرّك شفتيه بشيء ما أدري ما هو، ثمّ أدخلته فوقف بين يديه، فلمّا نظر اليه قال: وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وفسادك على أهل هذا البيت من بني العبّاس وما يزيدك اللّه بذلك إِلا شدّة حسد ونكد، ما تبلغ به ما تقدره، فقال له: واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئاً من



_______________

(1) لم يتجاوز الصادق السبعين عاماً وإِنما كان حدساً من محمّد، وأحسبه لما كان يشاهده من ضعفه.
(2) أجير ومستخدم.




[ 105 ]



ذلك، هذا ولقد كنت في ولاية بني اُميّة وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم، وأنهم لا حقّ لهم في هذا الأمر فواللّه ما بغيت عليهم، ولا بلغهم عنّي مع جفائهم الذي كان لي، وكيف يا أمير المؤمنين أصنع الآن هذا وأنت ابن عمّي وأمسّ الخلق بي رحماً، واكثرهم عطاءً وبرَّاً، فكيف أفعل هذا، فأطرق المنصور ساعة، وكان على لبد(1) وعن يساره مرفقة خز معانيّة(2) وتحت لبده سيف ذو فقار(3) كان لا يفارقه إِذا قعد في القبّة، فقال: أبطلت وأثمت، ثمّ رفع ثنّي الوسادة فأخرج منها إضبارة كتب فرمى بها اليه، وقال: هذه كتبك الى أهل خراسان تدعوهم الى نقض بيعتي وأن يبايعوك دوني، فقال: واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا أستحلّ ذلك ولا هو من مذهبي، واني ممّن يعتقد طاعتك في كلّ حال، وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته فصيّرني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت فهو منّي قريب، فقال: لا ولا كرامة، ثمّ أطرق وضرب يده على السيف فسلَّ منه مقدار شبر وأخذ بمقبضه، فقلت: انّا للّه ذهب واللّه الرجل، ثمّ ردَّ السّيف وقال: يا جعفر أما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشقّ عصا المسلمين، تريد أن تريق الدماء وتطرح الفتنة بين الرعيّة والأولياء، فقال: لا واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا هذه كتبي ولا خطّي ولا خاتمي، فانتضى من السيف ذراعاً، فقلت: إِنا للّه مضى الرجل وجعلت في نفسي إِن أمرني فيه بأمر أن أعصيه، لأني ظننت أنه يأمرني أن آخذ السيف فأضرب به جعفراً، فقلت إِن أمرني ضربت المنصور وإِن أتى ذلك عليّ وعلى ولدي وتبت إلى اللّه عزّ وجل ممّا كنت نويت فيه أولاً، فما



_______________

(1) لعلّه بساط من صوف.
(2) ظاهر في النسبة الى معان.
(3) الفقار خرزات الظهر، ويسمّى السيف بذي الفقار اذا كان في متنه حزوز تشبه فقار الظهر.




[ 106 ]



زال يعاتبه وجعفر يعتذر اليه، ثمّ انتضى السيف كلّه إِلا شيئاً يسيراً منه، فقلت: إِنا للّه مضى واللّه الرجل، ثمّ أغمد السيف وأطرق ساعة، ثمّ رفع رأسه وقال له: اظنّك صادقاً، يا ربيع هات العيبة من موضع فيه في القبّة، فأتيت بها، فقال: ادخل يدك فيها وكانت مملوءة غالية وضعها في لحيته، وكانت بيضاء فاسودَّت، وقال لي: احمله على فاره من دوابي التي أركبها واعطه عشرة آلاف درهم وشيّعه الى منزله مكرّماً وخيّره إِذا أتيت به المنزل بين المقام عندنا فنكرمه، أو الانصراف إِلى مدينة جدّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فخرجنا من عنده وأنا مسرور فرح لسلامة جعفر عليه السّلام ومتعجّب ممّا أراده المنصور وما صار اليه من كفايته ودفاعه، ولا عجب من أمر اللّه عزّ وجل فلمّا صرنا في الصحن قلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لا عجب ممّا عمل عليه هذا في بابك، وما أصارك اللّه اليه من كفايته ودفاعه، ولا عجب من أمر اللّه عزّ وجل، وقد سمعتك تدعو عقيب الركعتين بدعاء لم أدر ما هو إِلا أنه طويل، ورأيتك حرّكت شفتيك ههنا اعني الصحن بشيء لم أدر ما هو، فقال لي: أمّا الأوّل فدعاء الكرب والشدائد، لم أدعُ به على أحد قبل يومئذٍ، جعلته عوضاً، من دعاء كثير أدعو به إِذا قضيت صلاتي، لأني لم أترك أن أدعو ما كنت أدعو به، وأمّا الذي حرّكت به شفتي فهو دعاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يوم الأحزاب، حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: لمّا كان يوم الأحزاب كانت المدينة كالاكليل من جنود المشركين وكانوا كما قال اللّه عزّ وجل: «إِذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم»(1) ثمّ ذكر الدعاء، ثمّ قال: لولا الخوف من أمير المؤمنين



_______________

(1) الأحزاب: 10.




[ 107 ]



لرفعت اليك هذا المال، ولكن قد كنت طلبت منّي أرضي بالمدينة وأعطيتني بها عشرة آلاف دينار فلم أبعك وقد وهبتها لك، قلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِنما رغبتي في الدعاء الأوّل والثاني، فاذا فعلت هذا فهو البرّ ولا حاجة لي الآن في الأرض، فقال لي: إِنّا أهل بيت لا نرجع في معروفنا، نحن ننسخك الدعاء ونسلم اليك الأرض صر معي إِلى المنزل فصرت معه كما تقدّم المنصور به، وكتب لي بعهد الأرض وأملى عليّ دعاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأملى عليّ الذي دعاه بعد الركعتين ثمّ قال: فقلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لقد كثر استحثاث المنصور واستعجاله إِيّاي وأنت تدعو بهذا الدعاء الطويل متمهّلاً كأنّك لم تخفه، قال: فقال لي: نعم قد كنت أدعو بعد صلاة الفجر بدعاء لا بدّ منه، فأمّا الركعتان فهما صلاة الغداة خفّفتهما ودعوت بذلك الدعاء بعدهما، فقلت له: ما خفت أبا جعفر وقد أعدَّ لك ما أعدّ، قال: ما أعدّ! خيفة اللّه دون خيفته، وكان اللّه عزّ وجل في صدري أعظم منه، قال الربيع: كان في قلبي ما رأيت من المنصور ومن غضبه وحنقه على جعفر ومن الجلالة في اتساعه ما لم أظنّه يكون في بشر، فلمّا وجدت منه خلوة وطيب نفس قلت: يا أمير المؤمنين رأيت منك عجباً، قال: ما هو ؟ قلت: يا أمير المؤمنين رأيت غضبك على جعفر غضباً لم أرك غضبته على أحد قط، ولا على عبد اللّه بن الحسن ولا على غيره من كلّ الناس حتّى بلغ بك الأمر أن تقتله بالسيف وحتّى أنك أخرجت من سيفك شبراً ثمّ أغمدته، ثمّ عاتبته ثمّ أخرجت منه ذراعاً، ثمّ عاتبته ثمّ أخرجته كلّه إِلا شيئاً يسيراً، فلم أشكّ في قتلك له، ثمّ انحلّ ذلك كلّه، فعاد رضى حتّى أمرتني فسّودت لحيته بالغالية التي لا يتغلّف منها إِلا أنت ولا تغلّف منها ولدك المهدي ولا مَن ولّيته عهدك، ولا عمومتك، وأجزته وحملته وأمرتني بتشييعه مكرماً، فقال: ويحَك يا ربيع، ليس هو ممّا ينبغي أن




[ 108 ]



تحدّث به وستره أولى، ولا أحبّ أن يبلغ ولد فاطمة فيفخرون ويتيهون بذلك علينا، حسبنا ما نحن فيه ولكن لا اكتمك شيئاً، انظر الى من في الدار فنحّهم، قال: فنحّيت كلّ مَن في الدار، ثمّ قال لي: ارجع ولا تبق أحداً، ففعلت، ثمّ قال: ليس إِلا أنا وأنت، واللّه لئن سمعت ما ألقيه عليك من أحد لأقتلنّك وولدك وأهلك أجمعين، ولآخذنّ مالك، قال: قلت: يا أمير المؤمنين أعيذك باللّه، قال: يا ربيع كنت مصرّاً على قتل جعفر، ولا أسمع له قولاً، ولا أقبل له عذراً، فلمّا هممت به في المرّة الاُولى تمثّل لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فإذا هو حائل بيني وبينه باسط كفّيه حاسر عن ذراعيه قد عبس وقطب في وجهي، فصرفت وجهي عنه، ثمّ هممت به في المرّة الثانية وانتضيت من السيف اكثر ممّا انتضيت منه في المرّة الاُولى فإذا أنا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد قرب منّي ودنا شديداً وهمّ بي لو فعلت لفعل فأمسكت، ثمّ تجاسرت وقلت: هذا من فعل الربيء(1) ثمّ انتضيت السيف في الثالثة فتمثّل لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله باسطاً ذراعيه قد تشمّر واحمّر وعبس وقطب، حتّى كاد أن يضع يده عليّ فخفت واللّه لو فعلت لفعل، وكان منّي ما رأيت، هؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إِلا جاهل لا حظّ له في الشريعة، فإيّاك أن يسمع هذا منك أحد، قال محمّد بن الربيع: فما حدّثني به حتّى مات المنصور، وما حدّثت به حتّى مات المهدي، وموسى(2) وهارون(3) وقتل محمّد.



_______________

(1) كفعيل التابع للجن.
(2) الهادي.
(3) الرشيد.
(4) الأمين.




[ 109 ]

<h4>السادسة: يقول الشريف رضيّ الدين بن طاووس: وقد استدعاه بها المنصور إِلى بغداد مرّة ثانية بعد قتل محمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن(1) وقد روى ذلك عن صفوان من مهران الجمّال(2) قال: رفع رجل من قريش المدينة من بني مخزوم إِلى أبي جعفر المنصور، وذلك بعد قتله لمحمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن، إن جعفر بن محمّد بعث مولاه المعلّى بن خنيس(3) لجباية الأموال من شيعته، وأنه كان يمدّ بها محمّد بن عبد اللّه، فكاد المنصور أن يأكل كفّه على جعفر بن محمّد غيظاً، وكتب إِلى عمّه داود بن علي، وداود أمير المدينة(4) أن يسيّر اليه جعفر بن محمّد لا يرخص له في التلوم(5) والبقاء فبعث اليه داود بكتاب المنصور، وقال له: اعمل في المسير إِلى أمير المؤمنين في غد ولا تتأخّر، قال صفوان: وكنت بالمدينة يومئذٍ فأنفذ اليّ جعفر عليه السّلام فصرت اليه فقال لي: تعهّد راحلتنا فإنا غادون في غد إِن شاء اللّه إِن العراق، ونهض من وقته وأنا معه إِلى مسجد النبي صلّى اللّه عليه وآله وكان ذلك بين الاُولى والعصر فركع فيه ركعات، ثمّ رفع يديه فحفظت يومئذٍ من دعائه: «يا من ليس له ابتداء ولا انتهاء(6) يا من ليس له أمد ولا نهاية» الدعاء.



_______________
(1) وكان قتلهما عام 145، وقد عرفت من تعليقتنا على المرّة الخامسة أن تلك الدفعة لا تصحّ أن تكون إِلى بغداد إِلا أن تكون بعد قتلهما، وأن بين انتقال المنصور إِلى بغداد وبين وفاة الصادق سنتين وبعيد أن يرسل اليه في هاتين السنتين مرّات عديدة.
(2) سيأتي في المشاهير من ثقات الرواة لأبي عبد اللّه عليه السلام.
(3) سيأتي في ثقات المشاهير أيضاً.
(4) وداود هذا هو الذي قتل المعلّى بن خنيس واستلب أمواله، وهمّ بالصادق عليه السلام، فدعا عليه الصادق فعاجله اللّه بالهلاك، كما سيأتي في باب استجابة دعائه.
(5) التمكّث.
(6) ولا انقضاء في نسخة.


</h4>[ 110 ]



قال صفوان: فلمّا أصبح أبو عبد اللّه عليه السّلام رحلت له الناقة وسار متوجّهاً إِلى العراق حتّى قدم مدينة أبي جعفر(1) وأقبل حتّى استأذن فأذن له، قال صفوان: فأخبرني بعض من شهده عند أبي جعفر، قال: فلما رآه قرَّبه وأدناه، ثمّ استدعى قصّة الرافع على أبي عبد اللّه عليه السّلام، يقول في قصّته: إِن المعلّى بن خنيس مولى جعفر بن محمّد يجبي له الأموال من جميع الآفاق، وإِنه مدَّ بها محمّد بن عبد اللّه، فدفع اليه القصّة فقرأها أبو عبد اللّه فأقبل عليه المنصور فقال: يا جعفر بن محمّد ما هذه الأموال التي يجبيها لك المعلّى بن خنيس ؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: معاذ اللّه من ذلك يا أمير المؤمنين، قال له: ألا تحلف على براءتك من ذلك بالطلاق والعتاق، قال: نعم أحلف باللّه إنه ما كان من ذلك شيء، قال أبو جعفر: لا بل تحلف بالطلاق والعتاق فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أما ترضى بيميني باللّه الذي لا إِله إِلا هو، قال له أبو جعفر: لا تتفقّه عليّ، فقال أبو عبد اللّه: وأين يذهب بالفقه مني يا أمير المؤمنين(2) قال له: دع عنك هذا فإنني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عليك حتى يواجهك، فأتوا بالرجل وسألوه بحضرة جعفر عليه السّلام فقال: نعم هذا صحيح، وهذا جعفر بن محمّد، والذي قلت فيه كما قلت، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: تحلف أيها الرجل إِن هذا الذي رفعته صحيح، قال: نعم، ثمّ ابتدأ الرجل باليمين فقال: واللّه الذي لا إِله إِلا هو الطالب الغالب الحيّ القيوم، فقال



_______________

(1) وهي بغداد، وكانت تسمّى مدينة أبي جعفر لأنه هو الذي بناها وكان انتقاله اليها عام 146، ولعلّه في هذه السنة دعا الصادق اليها.
(2) ما كان ليخفى على المنصور ما عليه أهل البيت في اليمين بالطلاق والعتاق وأنه لا يحنث الحالف كاذباً، أي لا تطلق نساؤه، ولا تعتق مماليكه، ولكنه حاول أن يحطّ من كرامة الصادق وألا يثبت له فقه خاص.




[ 111 ]



له جعفر عليه السّلام: لا تعجل في يمينك، فإنني أستحلفك، قال المنصور: ما أنكرت من هذه اليمين ؟ قال: إن اللّه تعالى حيّ كريم يستحي من عبده إِذا أثنى عليه أن يعاجله بالعقوبة لمدحه له، ولكن قل أيها الرجل: أبرأ الى اللّه من حوله وقوّته وألجأ الى حولي وقوّتي إِني لصادق برّ فيما أقول، فقال المنصور للقرشي: إحلف بما استحلفك به أبو عبد اللّه فحلف الرجل بهذه اليمين فلم يستتمّ الكلام حتّى أجذم وخرّ ميّتاً، فراع أبا جعفر ذلك وارتعدت فرائصه، فقال: يا أبا عبد اللّه: سر من غد الى حرم جدّك إِن اخترت ذلك، وإِن اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك وبرّك، فو اللّه لا قبلت قول أحد بعدها أبداً»(1).
السابعة: ذكر الشريف أبو القاسم في المرّة السابعة رواية عن محمّد بن عبد اللّه الاسكندري(2) وأنه كان من ندماء المنصور وخواصّه، يقول محمّد، دخلت عليه يوماً فرأيته مغتمّاً وهو يتنفّس نفساً بارداً، فقلت: ما هذه الفكرة يا أمير المؤمنين، فقال لي: يا محمّد لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة أو يزيدون(3) وقد بقي سيّدهم وإِمامهم، فقلت له: من ذلك ؟ قال: جعفر بن محمّد الصادق، فقلت: يا أمير المؤمنين إنه رجل أنحلته العبادة واشتغل باللّه عن طلب المُلك والخلافة، فقال: يا محمّد لقد علمت أنك تقول به وبإمامته ولكن المُلك



_______________

(1) وذكر هذه الكرامة لأبي عبد اللّه عليه السلام جملة من علماء أهل السنّة عند استطرادهم لحياة الصادق، منهم الشبلنجي في نور الأبصار، والسبط في التذكرة، وابن طلحة في مطالب السؤل، وابن الصبّاغ في الفصول، وابن حجر في الصواعق وغيرهم.
(2) ليس له ذكر في كتب رجالنا، ولم نعرف عنه رواية غير هذه، وبها ذكره المتأخّرون، والرواية صريحة في تشيّعه.
(3) أحسب أن هذه القصّة كانت بعد مقتل محمّد وإبراهيم لأن الحرب بالمدينة وبباخمرى والسجون في الهاشميّة أهلكت العدد الكثير من العلويّين هذا سوى من قتله صبراً، ولعلّ إرساله عليه كان الى بغداد أيضاً.




[ 112 ]



عقيم، وقد آليت على نفسي ألا امسي عشيّتي هذه أو أفرغ منه، قال محمّد: فواللّه لقد ضاقت عليّ الأرض برحبها، ثمّ دعا سيّافاً وقال له: اذا انا أحضرت أبا عبد اللّه الصادق وشغلته بالحديث ووضعت قلنسوتي عن رأسي فهي العلامة بيني وبينك فاضرب عنقه، ثمّ أحضر أبا عبد اللّه عليه السّلام في تلك الساعة ولحقته في الدار وهو يحرّك شفتيه فلم أدرِ ما الذي قرأ، فرأيت القصر يموج كأنه سفينة في لجج البحار، ورأيت أبا جعفر المنصور وهو يمشي بين يديه حافي القدمين مكشوف الرأس قد اصطكت أسنانه وارتعدت فرائصه، يحمرّ ساعة ويصفرّ اُخرى، وأخذ بعضد أبي عبد اللّه وأجلسه على سرير ملكه وجثا بين يديه كما يجثو العبد بين يدي مولاه، ثمّ قال: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ما الذي جاء بك في هذه الساعة ؟ قال: جئتك يا أمير المؤمنين طاعة للّه ولرسوله صلّى اللّه عليه وآله ولأمير المؤمنين أدام اللّه عزّه(1).
قال: ما دعوتك، والغلط من الرسول، ثمّ قال: سل حاجتك، فقال: أسألك ألا تدعوني لغير شغل، قال: لك ذلك وغير ذلك، ثمّ انصرف أبو عبد اللّه عليه السّلام سريعاً، وحمدت اللّه عزّ وجل كثيراً، ودعا أبو جعفر المنصور بالدواويج(2) ونام ولم ينتبه إِلا في نصف الليل، فلمّا انتبه كنت عند رأسه جالساً فسرَّه ذلك، وقال: لا تخرج حتّى أقضي ما فاتني من صلاتي فاُحدّثك بحديث، فلمّا قضى صلاته أقبل على محمّد وحدّثه بما شاهده من الأهوال التي افزعته عند مجيء الصادق، وكان ذلك سبباً لانصرافه عن قتله وداعياً لاحترامه والاحسان اليه.
يقول محمّد: قلت له: ليس هذا بعجيب يا أمير المؤمنين، فإن أبا عبد اللّه



_______________

(1) لا بدع لو قال له: طاعة للّه ولرسوله ولأمير المؤمنين، وإن لم تكن للمنصور طاعة، لأن الخوف على النفس والنفيس يلزمه بالمجيء، فتكون المحافظة عليهما واجبة والتخلّف إلقاء بالتهلكة.
(2) بالجيم المعجمة جمع دواج كرمان وكغراب: اللحاف الذي يلبس.




[ 113 ]



وارث علم النبي صلّى اللّه عليه وآله وجدّه أمير المؤمنين عليه السّلام وعنده من الأسماء وسائر الدعوات التي لو قرأها على الليل لأنار، ولو قرأها على النهار لأظلم، ولو قرأها على الأمواج في البحور لسكنت(1).
قال محمّد: فقلت له بعد أيام: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أخرج الى زيارة أبي عبد اللّه الصادق ؟ فأجاب ولم يأب، فدخلت عليه وسلّمت وقلت له: أسألك يا مولاي بحقّ جدّك محمّد رسول ربّ العزّة صلّى اللّه عليه وآله أن تعلّمني الدعاء الذي كنت تقرأه عند دخولك على أبي جعفر المنصور، قال: لك ذلك، ثمّ أخذ الصادق يصف لمحمّد شأن الدعاء قبل أن يورده له، ثم ذكر الدعاء وهو طويل(2).
هذه بعض المحن التي شاهدها الصادق عليه السّلام من المنصور وتخلّص فيها ممّا أراده فيه بدعائه، وقد ذكر ابن طاووس طاب ثراه دفعتين اُخريين يهمّ بهما المنصور في قتل الصادق فيدفع اللّه عنه فيهما سوءه.
وذكر بعض هذه المحن وسلامة الصادق من القتل فيها بدعائه جملة من أرباب التأليف عند استطرادهم لأحوال الصادق عليه السّلام، أمثال الشبلنجي في نور الأبصار، والسبط في التذكرة، وابن طلحة في مطالب السؤل، وابن الصبّاغ في الفصول المهمّة، وابن حجر في الصواعق، والشيخ سليمان في الينابيع، والكليني في الكافي في كتاب الدعاء، والمجلسي في البحار ج 11، وابن شهراشوب في المناقب، والشيخ المفيد في الإرشاد، وغيرهم.



_______________

(1) هذا الكلام يدلّنا على معرفة محمّد فوق تشيّعه، والعجب كيف يصارح المنصور بهذا، ولا عجب فإن المنصور أعلم من محمّد بشأن الصادق عليه السلام.
(2) لم يفتنا ذكر هذه الأدعية إِلا لأننا جمعناها في صحائف اُخرى مع ما ظفرنا به من أدعيته الاُخرى فكان ما اجتمع عندنا كما أشرنا اليه ما يناهز 400 صحيفة بقطع هذا الكتاب مع علمنا أنه قد فاتنا الشيء الكثير من دعائه.



رزق أهل البيت فيما رزقوا الحكمة وكفى بها فضيلة، ولربما تعجب من مواقف الصادق مع المنصور ورجاله فإنك تارة تجده يلين بالقول ويجهد في براءته واُخرى يلاقيهم بالشدّة والعنف دون أن يعترف بشيء وإِن أساءهم موقفه.
والصادق أعرف بما يقول ويفعل، فقد يلين أن عرف أن اللين أسلم، وقد يخشن اذا عرف أن الخشونة ألزم، وليس اللين محموداً في جميع الأوقات والحالات، غير أن التمييز بين المواقف يحتاج الى حكمة وعرفان، فبينا تجده يخاطب المنصور بقوله: «واللّه ما فعلت ولا أستحلّ ذلك ولا هو من مذهبي وإني ممّن يعتقد طاعتك في كلّ حال وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته فصيرّني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت فهو منّي قريب» واذا به يقول للمنصور على لسان الرسول: «فإن كففت وإِلا أجريت اسمك على اللّه عزّ وجل في كلّ يوم خمس مرّات» الى كثير من الموقفين، كما عرفت كثيراً من مواقف اللين، وستعرف الآن بعض المواقف من الشدّة.
إِنّا وإِن غبنا عن ذلك العهد لكننا لم نغب عن معرفة نفسيّة الامام الصادق عليه السّلام ونفسيّة الدوانيقي، كما لم نغب عن تأريخ الحوادث في ذلك العهد.
إِن المنصور وإِن مَلك البلاد باسم الخلافة لكنه يعلم أن صاحبها حقاً هو الصادق عليه السّلام، وأنه صاحب كلّ فضيلة وأنه لو أراد الأمر لم يطق المنصور




[ 115 ]



أن يحول دونه، فمن ثمّ تراه أحياناً يصفح عن وخزات الصادق عليه السّلام لا يريد أن تزداد الملاحاة في الكلام فتثير كوامن النفوس فتهيج ما يخافه من وثبة وثورة، غير أن شدّة الحبّ للمُلك والمُلك عقيم، والحبّ يعمي ويصمّ، تبعث المنصور على الاساءة للصادق والسعي لإهلاكه، فاذا عرف الصادق أن الموقف من الأوّل انبعث لإظهار الحقّ، وأن الموقف من الثاني قابله بلين ليكفّ بغيه وعدوانه.
وها نحن أوّلاً نورد بعض ما كان من الصادق مع المنصور وولاته من المواقف التي يعلن فيها بالحقّ غير مكترث بما له من سطوة ولولاته من قسوة.
سأل المنصور الصادق عليه السّلام يوماً عن الذباب وهو يتطايح على وجهه حتّى أضجره فقال له: يا أبا عبد اللّه لِم خلق اللّه الذباب ؟ فقال الصادق عليه السّلام: ليذلّ به الجبابرة(1) فسكت المنصور علماً منه أنّه لو ردّ عليه لوخزه بما هو أمضّ جرحاً، وأنفذ طعناً.
وكتب اليه المنصور مرّة: لِم لا تغشانا كما تغشانا الناس ؟ فأجابه الصادق عليه السّلام: «ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّيك، ولا تراها نقمة فنعزّيك، فما نصنع عندك» فكتب اليه: تصحبنا لتنصحنا، فأجابه: «من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك» فقال المنصور: واللّه لقد ميز عندي منازل من يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة، وانه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا(2).
أقول: إِن المنصور ما أراد النصيحة لما يصلحه، ولو أراد صلاح نفسه



_______________

(1) نور الأبصار للشبلنجي: ص 141.
(2) كشف الغمّة في أحوال الصادق عليه السلام عن تذكرة ابن حمدون: 2/208.




[ 116 ]



لاعتزل الأمر لئلا يبوء بإثم هذه الاُمّة، ولكنه أراد أن يستصفي الصادق ويجعله من أتباعه، فيعلم الناس أنه الامام غير مدافع، وتنقطع الشيعة عن مراجعة الصادق، ويظهر لهم أنه تبع للمنصور، والامام لا يكون تبعاً لأرباب السلطان باختياره، والصادق لا يخفى عليه قصد المنصور.
وكلمته هذه تعطينا درساً بليغاً عن مواقف الناس مع الملوك والاُمراء وعن منازل المتزلّفين اليهم، وكيف يجب أن تكون مواقف رجال الدين معهم.
واستقدمه المنصور مرّة وهو غضبان عليه، فلمّا دخل عليه الصادق عليه السّلام، قال له: يا جعفر قد علمت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال لأبيك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: لولا أن تقول فيك طوائف من اُمّتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك قولاً لا تمرّ بملأ إِلا أخذوا من تراب قدميك يستشفون به، وقال علي عليه السّلام: يهلك فيّ اثنان ولا ذنب لي: محبّ غال ومبغض مفرط، قال ذلك اعتذاراً منه أنه لا يرضى بما يقول فيه الغالي والمفرط، ولعمري أن عيسى بن مريم عليه السّلام لو سكت عمّا قالت النصارى فيه لعذبه اللّه، ولقد تعلم ما يقال فيك من الزور والبهتان، وإمساكك عن ذلك ورضاك به سخط الديّان، زعم أوغاد الحجاز ورعاع الناس أنك حبر الدهر وناموسه، وحجّة المعبود وترجمانه، وعيبة علمه وميزان قسطه، ومصباحه الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة الى ضياء النور، وأن اللّه لا يقبل من عامل جهل حدّك في الدنيا عملاً، ولا يرفع له يوم القيامة وزناً، فنسبوك إِلى غير حدّك، وقالوا فيك ما ليس فيك، فقل فإن أوّل من قال الحقّ جدّك، وأوّل من صدقه عليه أبوك، وأنت حريّ أن تقتصّ آثارهما، وتسلك سبيلهما.
فقال عليه السّلام: أنا فرع من فروع الزيتونة، وقنديل من قناديل بيت




[ 117 ]



النبوّة، وأديب السفرة، وربيب الكرام البررة، ومصباح من مصبايح المشكاة التي فيها نور النور، وصفوة الكلمة الباقية في عقب المصطفين الى يوم الحشر.
فالتفت المنصور الى جلسائه فقال: هذا قد حالني على بحر مواج لا يدرك طرفه ولا يبلغ عمقه، تحار فيه العلماء، ويغرق فيه السبحاء(1) ويضيق بالسابح عرض الفضاء، هذا الشجى المعترض في حلوق الخلفاء، الَّذي لا يجوز نفيه، ولا يحلّ قتله، ولولا ما تجمعني وإِيّاه شجرة طاب أصلها وبسق فرعها، وعذب ثمرها، وبوركت في الذر، وقدّست في الزبر، لكان منّي ما لا يحمد في العواقب، لما يبلغني عنه من شدّة عيبه لنا وسوء القول فينا.
فقال الصادق عليه السّلام: لا تقبل في ذي رحمك وأهل الرعاية من أهل بيتك قول من حرّم اللّه عليه الجنّة، وجعل مأواه النار، فإن النمّام شاهد زور، وشريك إبليس في الإغراء بين الناس فقد قال اللّه تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين»(2) ونحن لك أنصار وأعوان، ولملكك دعائم وأركان، ما أمرت بالمعروف والاحسان، وأمضيت في الرعيّة أحكام القرآن، وأرغمت بطاعتك للّه أنف الشيطان، وإِن كان يجب عليك في سعة فهمك، وكثرة علمك، ومعرفتك بآداب اللّه أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك، فإن المكافي ليس بالواصل، إِنما الواصل من إِذا قطعته رحمه وصلها، فصل رحمك يزد اللّه في عمرك، ويخفّف عنك الحساب يوم حشرك، فقال المنصور: قد صفحت عنك لقدرك، وتجاوزت عنك لصدقك، فحدّثني عن نفسك بحديث



_______________

(1) جمع سابح.
(2) الحجرات: 6.




[ 118 ]



أتعظ به ويكون لي زاجر صدق عن الموبقات، فقال الصادق عليه السّلام:
عليك بالحلم فإنه ركن العلم، واملك نفسك عند أسباب القدرة فإنك إِن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفى غيظاً، أو تداوى حقداً أو يحبّ أن يذكر بالصولة، واعلم بأنك إن عاقبت مستحقّاً لم تكن غاية ماتوصف به إِلا العدل، والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر، فقال المنصور: وعظت فأحسنت، وقلت فأوجزت(1).
أقول: إِن أمثال هذه المواقف تعطيك دروساً وافيه عمّا كان عليه أهل ذلك العصر من سياسة وعلم واعتقادها وغيرها، وهنا نستطيع أن نتعرّف عدّة اُمور:
1 - إِن المنصور يريد ألا يظهر الصادق بمظهر الامامة فحاول أن يخدعه أمام الناس بتلك الكلمات الليّنة، وهنا تعرف دهاء المنصور، لأن العبّاسيّين إِنما تربّعوا على الدست باسم الامامة والخلافة، فلو كان هناك إِمام آخر يرى شطر من الاُمّة أنه صاحب المنبر والتاج لا يتمّ لهم أمر، وهو يريد ألا يعارضه أحد في سلطانهم، فكان المنصور يدفع عن عرشه بالشدّة مرّة وباللين اُخرى فكان من سياسته أن جابه الصادق أمام ملأ من الناس بهذا القول وحسب أنّ الصادق سوف يبطل ما يقوله الناس فيه، وبه يحصل ما يريد، وهو يعلم أنّ الصادق لا يجبهه بالردّ، حذراً من سطوته.
2 - إِن الصادق إِمام بجعل إِلهي كما يرى ذلك ويراه الشيعة فيه، والامامة في أهل البيت وفي الصادق ليست وليدة عصر المنصور، وإِنما هي من عهد صاحب الرسالة، فالامام الصادق عليه السّلام وقع بين لحيي لهذم فإنه إِن



_______________

(1) بحار الأنوار: 47/168 في أحوال الصادق عليه السلام.




[ 119 ]



جارى المنصور فقد أبطل إِمامة إِلهية، وإِن عارضه لا يأمن من شرّه، فمن ثمّ أجابه بكلمات مجملة لا تصرّح بالامامة ولا تبطل قول الناس فيه، ولذا قال المنصور «هذا قد حالني على بحر موّاج لا يدرك طرفه».
3 - إِن قول الشيعة في الامام من ذلك اليوم على ما هو عليه اليوم، وهذا ما تقتضيه اُصول المذهب، وتدلّ عليه أخبار أهل البيت وآثارهم.
4 - إِن سكوت الامام الصادق وعدم إِبطاله لأن يكون كما يقول الناس برهان على أن حقيقة الامامة كما يحكيها المنصور عن الناس، ولو كانت حقيقتها غير هذا لقال الصادق: إِن هذا الرأي والقول باطل، بل لوجب عليه إِعلام الناس ببطلانه وردعهم عن هذا المعتقد.
5 - إِن القائل بإمامة الصادق عليه السّلام خلق كثير من الناس، ممّا جعل المنصور يفكّر فيه ويخشى من اتساعه ومن عقباه، فحاول أن يتذرّع بالصادق لمكافحته.
6 - إِن المرء بأصغريه، فالامام الصادق لو لم تسبق الأخبار والآثار عن منزلته، لكان في مثل كلامه ومثل موقفه هذا دلالة على ما له من مقام، أتراه كيف حاد عن جواب المنصور بما حيّره، دون أن يصرّح بخلاف ما حكاه عن الشيعة، ودون أن يصرّح بصحّة ما يرون، وكيف وعيت ذلك البيان منه عن نفسه، ببليغ من القول، وجليل من المعنى، وكيف وعظ المنصور بما يوافق شأن الملوك، وما يتفق وابتلاءهم كثيراً ؟
وهذا بعض ما يمكن استنباطه من هذا الموقف وفهم حال الناس ذلك اليوم، وكفى به عن سواه.
ودخل على المنصور في إِحدى جيئاته فاستقبله الربيع بالباب وقال له: يا أبا عبد اللّه ما أشدّ تلظّيه عليك لقد سمعته يقول: واللّه لا تركت له نخلاً إِلا




[ 120 ]



عقرته، ولا مالاً إِلا نهبته، ولا ذرّية إِلا سبيتها، فلمّا دخل وسلّم وقعد قال له المنصور: أما واللّه لقد هممت ألا أترك لكم نخلاً إِلا عقرته، ولا مالاً إِلا أخذته، فقال له الصادق عليه السّلام: يا أمير المؤمنين إِن اللّه عزّ وجل ابتلى أيوب فصبر، وأعطى داود فشكر، وقدر(1) يوسف فغفر، وأنت من ذلك النسل ولا يأتي ذلك النسل إِلا بما يشبهه، فقال: صدقت قد عفوت عنكم، فقال الصادق: إِنه لم ينل أحد منّا أهل البيت دماً إِلا سلبه اللّه مُلكه، فغضب لذلك واستشاط، فقال: على رسلك إِن هذا المُلك كان في آل أبي سفيان فلمّا قتل يزيد حسيناً عليه السّلام سلبه اللّه مُلكه، فورثه آل مروان فلمّا قتل هشام زيداً سلبه اللّه ملكه فورثه مروان بن محمّد، فلمّا قتل مروان إبراهيم الامام سلبه اللّه مُلكه وأعطاكموه فقال: صدقت(2).
أقول: إِن الصادق عليه السّلام ما اعتذر عن قوله الأول، وإنما جاء بالشواهد عليه، سوى إنه استعرض ذكر أخيه إِبراهيم ليكفّ بذلك شرّه.
وللصادق عليه السّلام مواقف كثيرة على غرار ما ذكرناه اجتزينا عنها بما أوردناه.
وكانت للصادق عليه السّلام مواقف مع بعض ولاة المنصور ورجاله تشبه مواقفه مع المنصور في الشدّة، جاء إِلى المدينة والياً من قبل المنصور بعد مقتل محمّد وإبراهيم رجل يقال له شيبة بن عفال، يقول عبد اللّه بن سليمان التميمي: فلمّا حضرت الجمعة صار الى مسجد الرسول صلّى اللّه عليه وآله فرقى المنبر وحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد فإن عليّ بن أبي طالب شقّ عصا



_______________

(1) أي جعله قادراً على الانتقام من اخوته.
(2) الكافي: كتاب الدعاء، باب الدعاء للكرب والهمّ والحزن: 2/563.




[ 121 ]



المسلمين وحارب المؤمنين، وأراد الأمر لنفسه، ومنعه أهله، فحرّمه اللّه عليه، وأماته بغصّته، وهؤلاء ولده يتبعون أثره في الفساد وطلب الأمر بغير استحقاق له فهم في نواحي الأرض مقتولون، وبالدماء مضرّجون.
فعظم هذا الكلام منه على الناس، ولم يجسر أحد منهم أن ينطق بحرف فقام اليه رجل فقال: ونحمد اللّه ونصلّي على محمّد خاتم النبيين وسيّد المرسلين وعلى رسل اللّه وأنبيائه أجمعين، أمّا ما قلت من خير فنحن أهله، وأمّا ما قلت من سوء فأنت وصاحبك به أولى، فاختبر يا من ركب غير راحلته واكل غير زاده إِرجع مأزوراً.
ثمّ أقبل على الناس فقال: ألا أنبئكم بأخلى الناس ميزاناً يوم القيامة وأبينهم خسراناً، من باع آخرته بدنيا غيره، وهو هذا الفاسق، فأسكت الناس وخرج الوالي من المسجد لم ينطق بحرف، فسألت عن الرجل، فقيل لي: هذا جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليهم أجمعين.(1)
وعن الصادق عليه السّلام أنه قال: كنت عند زياد بن عبد اللّه وجماعة من أهل بيتي، فقال: يا بني فاطمة ما فضلكم على الناس ؟ فسكتوا، فقلت: إِن من فضلنا على الناس إِنّا لا نحبّ أن نكون من أحد سوانا، وليس أحد من الناس لا يحبّ أن يكون منّا.(2)
أقول: لقد جاءه بالمسكت وهذه الكلمة على اختصارها جمعت الفضائل واغنت عن الدلائل.



_______________

(1) مجالس الشيخ الطوسي طاب ثراه، المجلس الثاني.
(2) بحار الأنوار: 47/166/8 في أحوال الصادق عليه السلام.




[ 122 ]



وكان داود بن علي بن عبد اللّه بن العبّاس والياً على المدينة من قِبل المنصور، فأرسل خلف المعلّى بن خنيس مولى الصادق عليه السّلام، وأراد أن يدلّه على أصحاب الصادق عليه السّلام وخواصّه، فتجاهل عليه المعلّى بمعرفتهم، فألحَّ عليه ثمّ هدّده بالقتل، فقال له المعلّى: أبالقتل تهدّدني واللّه لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم، وإِن أنت قتلتني تسعدني وأشقيتك، فلمّا رأى داود شدّة امتناع المعلّى قتله واستلب أمواله وكانت للصادق عليه السّلام.
فلما بلغ الصادق ذلك قام مغضباً يجرّ رداءه ودخل على داود وقال له: قتلت مولاي وأخذت مالي، أما علمت أن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب.
ثمّ أن الصادق عليه السّلام طلب منه القود، فقدّم له قاتله فقتله به، وهو صاحب شرطته، ولمّا قدّموه ليقتل اقتصاصاً جعل يصيح: يأمروني أن أقتل لهم الناس ثم يقتلونني.
ثمّ أن داود بعد ذلك أرسل خمسة من الحرس خلف الصادق عليه السّلام وقال لهم: ائتوني به فإن أبى فأتوني برأسه، فدخلوا عليه وهو يصلّي فقالوا: أجب داود، قال: فإن لم اجب، قالوا: اُمرنا بأمر، قال: فانصرفوا فإنه خير لكم في دنياكم وآخرتكم، فأبوا إِلا خروجه، فرفع يديه فوضعهما على منكبيه ثمّ بسطهما، ثمّ دعا بسبابته فسمع يقول: الساعة الساعة، حتّى سمع صارخ عال، فقال لهم: إِن صاحبكم قد مات فانصرفوا.
أقول: هذه بعض مواقفه من رجال المنصور دعاه الى الشدّة فيها الغضب للحق، حين وجد أن الكلام أولى من السكوت، وإِن أبدى فيها صفحته للسيف.





hghlhl [utv wh]r u fhgjtwdg



توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس
قديم 2015/02/22, 08:01 AM   #2
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي

يتبع ****

الصادق في العراق


قضت السياسة العبّاسيّة وحذق رجالها العاملين - والقدر من ورائهم - بتقويض مُلك بني مروان، والحيلولة دون نجاح الحسنيين، وانتشار روح الامامة في الناس للحسينيين، بيد أنهم أخطأوا في سياسة الإرهاق والإرهاب مع الصادق عليه السّلام، وحملهم إِيّاه إِلى العراق عدّة مرّات، لأنهم بهذا خدموا الإمامة وأظهروا أمر أهل البيت اكثر ممّا لو تركوه وادعاً في مكانه.
مازجت تربة العراق مودّة أهل البيت من بدء دخول الاسلام فيه، لا سيّما وقد صار برهة عاصمة سلطانهم، وبه مدفن عدّة من أعاظم رجالهم، وبه حوادث لهم لا ينساها الناس والتأريخ مادام بشر على وجه الأرض، ومادام تأريخ مسطور، كحادثة الطفّ وحادثة زيد.
وإِن للنظر والمشاهدة أثراً لا يبلغه السماع، فإن الجمال اذا اجتذب الأرواح الشفّافة، والعواطف الرقيقة، فبالعيان لا بالآذان، نعم ربّ شيء يكون لسماعه أثر - والاذن تعشق قبل العين أحياناً - إِلا أنّ السماع لا يماثل المشاهدة مهما بلغ تصويره مبلغاً يجذب القلوب والمشاعر.
كما أن للمظلوميّة عاطفة في القلوب، ورحمة في النفوس، لا سيّما اذا كان المظلوم من أماثل الناس، وأعاظم العلماء.
فإذا غلب على القلوب حبّ الصادق عليه السّلام بالسماع، واعتقد الناس




[ 124 ]



إِمامته بالبرهان، فأين ذلك من مبلغ العيان، ومشاهدة البرهان، وسماع البيان، فكان لقدوم الصادق العراق بلاد الولاء للعترة، ولمشاهدة شمائله وفضائله، ولسماع عظاته ونوادر آياته أثر بليغ في ميل النفوس اليه، وانعطافهم عليه، فوق ما يجدونه من السماع عنه، وما كان الناس كلّهم يذهب للحجّ فيجتمع به، فكانت جملة من الأحاديث أخذوها عنه في جيئاته إِلى العراق.
وربت على هذا كلّه مظلوميّته، فإن الناس كلّهم أو جلّهم يعلمون بأن الصادق مظلوم مقهور على هذا المجيء، ويعلمون بما ينالون منه من سوء أذى في مجيئه، هذا فوق ما يعتقدونه من غضب مقامه والتضييق عليه، والحيلولة دون نشر علومه ومعرفه.
وما كان حتّى الشيعة يعرفون عن الإمام من الشأن والقدر والعلم والكرامة مثلما عرفوه عنه بعد مجيئه، لأن التقيّة وعداء السلطة حواجز دون نشر فضائله والصادق عليه السّلام كما يقول عمرو بن أبي المقدام: كنت إِذا نظرت اليه علمت أنه من سلالة النبيين، وكما يقول ابن طلحة في مطالب السؤل: رؤيته تذكّر الآخرة، واستماع حديثه يزهد في الدنيا، والاقتداء بهديه يورث الجنّة، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوّة، وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذوي الرسالة.
ومن ثمّ تجد هشام بن الحكم وكان جهمياً يعدل إِلى القول بالإمامة لمحاورة الصادق له ونظره اليه، ذلك النظر الذي امتلأت نفسه منه جلالاً وهيبةً فأحسّ أن ذلك لشأن لا يكون إِلا للأنبياء والأوصياء، فكان من آثار مجيئه إِلى العراق هداية هشام، وأنت تعرف مَن هشام، وما آثاره في خدمة أهل البيت، وخدمة الدين(1).



_______________

(1) كتبت رسالة عن هشام بن الحكم استقصيت فيها قدر الامكان أخباره وآثاره.




[ 125 ]



ومن آثار مجيئه إِلى العراق إِشادته لموضع قبر أمير المؤمنين عليه السّلام ودلالته خواصّ الشيعة عليه، وكان اكثرهم لا يعلمون موضعه على اليقين، سوى أنه على ظهر الكوفة في النجف لأن أولاده جهدوا في إخفائه خوفاً من أعدائه فصارت الشيعة تقصده زائرين، وكان الصادق عليه السّلام يصحب في كلّ زيارة بعض خواصّ أصحابه، وهو الذي أمر صفوان بن مهران الجمّال بالبناء عليه.
وقد ذكر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي في كتاب التهذيب، في كتاب المزار منه، في باب فصل الكوفة عدّة زيارات للصادق عليه السّلام.
كما ذكر مثل ذلك الشيخ الكليني طاب ثراه في الكافي، والسيد ابن طاووس في فرحة الغري، والمجلسي في مزار البحار وهو الجزء الثاني والعشرون، والشيخ الحرّ العاملي في وسائل الشيعة في كتاب المزار الجزء الثاني الى كثير غيرهم.
ونحن نورد لك بعض تلك الزيارات والدلالات منه، قال الشيخ أبو جعفر الطوسي: إِن الصادق عليه السّلام زار قبر أمير المؤمنين عليه السّلام عدّة مرات، منها يوم أقدمه السفّاح الحيرة، ومنها ما يرويه عبد اللّه بن طلحة النهدي(1) يقول: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام - ثمّ قال - فمضينا معه حتّى انتهينا إِلى الغري فأتى موضعاً فصلّى فيه.
وذكر أيضاً مجيئه مرّة اُخرى من الحيرة ومعه يونس بن ظبيان(2) ودعا عند القبر وصلّى وأعلم يونس أنه قبر أمير المؤمنين عليه السّلام بعد أن كان يونس لا يدري أين هو سوى أنه في الصحراء.



_______________

(1) عربي كوفي روى عن الصادق عليه السلام، وروى عنه جماعة من الثقات مثل علي بن إسماعيل الميثمي ومحمّد بن سنان وابن محبوب.
(2) الكوفي ممّن روى عن الصادق عليه السلام وجاءت فيه روايات قادحة واُخرى مادحة، ولكن روى عنه جماعة كثيرة من الثقات، وبعضهم من أصحاب الاجماع.




[ 126 ]



وروى الكليني طاب ثراه عن يزيد بن عمرو بن طلحة(1) قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام وهو بالحيرة: أما تريد ما وعدتك، قلت: بلى، يعني الذهاب إِلى قبر أمير المؤمنين عليه السلام، قال: فركب وركب إِسماعيل وركبت معهما حتّى اذا جاء الثوية وكان بين الحيرة والنجف عن ذكوات بيض(2) نزل ونزل إِسماعيل ونزلت معهما فصلّى وصلّى إسماعيل وصلّيت.
وروى عن أبان بن تغلب(3) قال: كنت مع أبي عبد اللّه عليه السّلام فمرّ بظهر الكوفة فنزل فصلّى ركعتين، ثمّ تقدّم قليلاً فصلّى ركعتين، ثمّ سار قليلاً فنزل فصلّى ركعتين، ثمّ أخبر أبان أن الصّلاة الاُولى عند قبر أمير المؤمنين عليه السّلام، والثانية عند موضع رأس الحسين عليه السّلام، والثالثة عند منزل القائم.
وذكر الشيخ الحرّ أن الصادق عليه السّلام زار قبر أمير المؤمنين نوباً عديدة منها ما عن الصدوق رحمه اللّه عن صفوان بن مهران الجمّال قال: سار الصادق عليه السّلام وأنا معه في القادسيّة حتّى أشرف على النجف فلم يزل سائراً حتّى أتى الغري فوقف به حتّى أتى القبر، فساق السّلام من آدم على كلّ نبي وأنا أسوق معه السّلام حتّى وصل السّلام الى النبي صلّى اللّه عليه وآله ثمّ خرّ على القبر فسلّم عليه وعلا نحيبه، فقلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: ما هذا القبر، فقال: قبر جدّي عليّ بن أبي طالب.
وذكر المجلسي زيادة على ما سبق زيارات أُخر، وذكر زيارة صفوان معه بصورة أُخرى، وفيها أن الصادق شمّ تربة أمير المؤمنين فشهق شهقة ظننت أنه



_______________

(1) الكوفي، ولم تعرف عنه غير هذه الرواية، وكفى في شأنه رواية الكليني عنه.
(2) جمع ذكوة، وهي الجمرة الملتهبة، والمأسدة، ولا يناسبان المقام ولعلّه أراد منها الربوات التي تحوط القبر، وشبّهها بالذكوات لبريقها، لأن أرض الغري ذات رمل وحصى فيكون لها بريق ولمعان.
(3) سوف نذكره في المشاهير من ثقات الأصحاب للصادق عليه السلام.




[ 127 ]



فارق الدنيا، فلمّا أفاق قال: ههنا واللّه مشهد أمير المؤمنين، ثمّ خطّ تخطيطاً، فقلت يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: ما منع الأبرار من أهل البيت من إِظهار مشهده ؟ قال: حذراً من بني مروان والخوارج أن تحتال في أذاه.
وروى عن عمر بن يزيد(1) انّه أتى عبد اللّه بن سنان(2) فركب معه فمضيا حتّى أتيا منزل حفص الكناسي(3) فاستخرجه وركب معهما فمضوا حتّى أتوا الغري، فانتهوا إِلى قبر، فقال: انزلوا هذا قبر أمير المؤمنين، فقال له عبد اللّه: من أين علمت هذا ؟ قال: أتيته مع أبي عبد اللّه عليه السّلام حيث كان بالحيرة غير مرّة، وخبّرني أنه قبره.
وروى عن يونس بن ظبيان أنه كان عند الصادق عليه السّلام بالحيرة أيام مقدمه على أبي جعفر في ليلة صحيانة مقمرة، إِلى أن قال: فركب وركبت معه وسار حتّى انتهينا إِلى الذكوات الحمر، قال: ثمّ دنا من اكمة فصلّى عندها ثمّ مال عليها وبكى، إِلى أن قال: قال: هو قبر أمير المؤمنين عليه السّلام ولعلّ هذه الرواية رواية يونس الاُولى.
وروى عن أبي الفرج السندي(4) أنه جاء من الحيرة مع الصادق عليه السّلام الى الغري وزار قبر أمير المؤمنين عليه السّلام.
وروى مثل ذلك عن عبد اللّه بن عبيد بن زيد(5) وذكر انّ عبد اللّه بن



_______________

(1) ذكر أرباب الرجال أن عمر بن يزيد اثنان: أحدهما بيّاع السابري والآخر الصيقل، وقد رويا معاً عن الصادق عليه السلام ولا يبعد أن يكونا معاً ثقتين.
(2) سنذكره في ثقات المشاهير.
(3) هو ابن عبد ربّه الكوفي وعداده في أصحاب الصادق واستظهر الرجاليّون أنه إِمامي.
(4) واسمه عيسى وعداده في أصحاب الصادق ورواته.
(5) لم يأت له ذكر في كتب الرجال بهذا العنوان نعم جاء في أصحاب الصادق رجال كثيرون اسمهم عبد اللّه بن عبيد.




[ 128 ]



الحسن كان معه، وأن عبد اللّه أذّن وأقام وصلّى مع الصادق عليه السّلام.
وظاهر هذا أن الزيارة كانت في عهد السفّاح، لأنه استقدم عبد اللّه بن الحسن كما استقدم الصادق عليه السّلام.
وروى أيضاً عن أبي العلاء الطائي(1) حديثاً طويلاً يذكر فيه مجيء الصادق الى الحيرة، وذيوع الخبر بالكوفة، وقعوده لانتظاره، وسؤاله عن القبر الذي في الظهر عندهم وأنه قبر أمير المؤمنين عليه السّلام وقول الصادق: اي واللّه يا شيخ حقّاً.
وروى عن صفوان أنه كان يأتي القبر بعد ما عرّفه به الصادق عليه السّلام ويصلّي عنده مدّة عشرين سنة.
وقد ذكر السيّد الجليل عبد الكريم بن طاووس في فرحة الغري ما تقدم ذكره من الزيارات وغيرها شيئاً كثيراً، وليس القصد أن نوافيك بكلّ زيارة رويت له، وإِنما كان القصد أن نوقفك على تلك السياسة الخرقاء التي صنعها العبّاسيّون مع أبي عبد اللّه عليه السّلام وما كان لتلك الجيئات من آثار أظهرت أمر أهل البيت.
كان الصادق عليه السّلام يصحب في كلّ زيارة واحداً أو اكثر من أصحابه ليدلّهم على القبر، ويصحب غيرهم في الزيارة الاُخرى ليكثر عارفوه وزائروه، فروى كثير من رجاله هذه الزيارات منهم صفوان الجمّال ومحمّد بن مسلم الثقفي، وأبو بصير، وعبد اللّه بن عبيد بن زيد، وأبو الفرج السندي، وأبان بن تغلب، ومبارك الخبّاز(2) ومحمّد بن معروف الهلالي(3) وأبو العلاء الطائي،



_______________

(1) لم أقف على حاله.
(2) لم تُعرف عنه غير هذه الرواية.
(3) له روايات عن الصادق عليه السلام.




[ 129 ]



والمعلّى بن خنيس، وزيد بن طلحة، وعمر بن يزيد، ويزيد بن عمرو، وعبد اللّه بن طلحة النهدي، ويونس بن ظبيان، الى غير هؤلاء.
وقد أعطى الصادق عليه السّلام صفوان الجمّال دراهم لتجديد بنائه وكان قد جرفه السيل، فمن هذا تعرف أن القبر كان ظاهراً وإِنما كانوا يتكتّمون في زيارته والاشارة اليه ليبقى مخفيّاً على الخوارج وبني مروان، ومن ههنا يسأله أبو العلاء عن القبر الذي عندهم بالظهر أهو قبر أمير المؤمنين عليه السّلام ؟ فلو لم يكن عندهم قبر ظاهر لما كان وجه لسؤاله، ويسأله صفوان حين خرّ على القبر، قائلاً: يا ابن رسول اللّه ما هذا القبر ؟
وفي عهد الصادق عليه السّلام عرف الناس القبر ودلّوه من تلك الزيارات وصاروا لا يسألونه عنه وإِنما يسألون عن الآداب في زيارته، كما سأله محمّد بن مسلم وصفوان ويونس بن ظبيان وغيرهم.
ومن آثار الصادق عليه السّلام في العراق من تلك الجيئات محرابه في مسجد الكوفة، ويقع شرقيّ المسجد قريباً من سوره، بالقرب من قبر مسلم عليه السّلام وهو بيّن معروف في المسجد ليس في جواره محراب سواه وله صلاة ودعاء ومحرابه في مسجد سهيل (السهلة) ويقع في وسط المسجد وله صلاة ودعاء والسبب في ذلك معروف، وهو أن الصادق عليه السّلام كان في الكوفة ودخل عليه بشّار المكاري(1) فأعلم الصادق أن جلوازاً(2) يضرب رأس امرأة يسوقها الى الحبس وهي تنادي بأعلى صوتها: المستغاث باللّه ورسوله، ولا يغيثها أحد، وقال: ولِم فعل بها ذلك ؟ قال: سمعت الناس يقولون: إِنها عثرت فقالت: لعن اللّه ظالميكِ يا فاطمة، فارتكب منها ما ارتكب، فقطع الصادق الأكل،



_______________

(1) لم أقف على ترجمته.
(2) الجلواز - بالكسر - الشرطي.




[ 130 ]



وكان بين يديه رطب طبرزد(1) ولم يزل يبكي حتّى ابتلّ منديله ولحيته وصدره بالدموع، ثمّ ذهب الصادق من فوره ومعه بشّار الى مسجد السهلة، فصلّى ركعتين ودعا(2) فلمّا خرج جاء الرسول فأعلمه أنها اُطلق سراحها، فاسترّ لذلك، وبعث لها بصلة، وكانت قد أبت أن تقبل من الوالي شيئاً وقد أعطاها مائتي درهم وكانت محتاجة(3) ومازال الناس يقصدون المسجد والمحراب ويدعون بذلك الدعاء في طلب الحوائج.
وعلى ضفة نهر الحسينيّة في كربلاء محراب وعليه بنية ينسب إِلى الصادق ولعلّه صلّى في هذا المكان يوم زار الحسين عليه السّلام وقد ذكر زيارته للحسين عليه السّلام الحسين بن أبي العلاء الطائي، في خبره الطويل الذي أشرنا اليه وقد ذكره ابن طاووس في الفرحة، والمجلسي في البحار في مزاره، وفي الحديث، فقلت له: جعلت فداك بأبي وامّي هذا القبر الذي أقبلت منه قبر الحسين ؟ قال: اي واللّه يا شيخ حقّاً.
وفي الجانب الغربي من بغداد على ضفة النهر شمال جسره الغربي اليوم المعروف بالجسر القديم مكان يعرفه الناس بمدرسة الصادق وليس فيه اليوم أثر بيّن ولعلّه أفاد بعض الناس فيه عند مجيئه الى بغداد على عهد المنصور.
ومن الغريب أن الخطيب في تأريخه لم يذكر الصادق عليه السّلام فيمن قدم بغداد، مع أنه ذكر ابنه الكاظم وحفيده الجواد عليهما السّلام.
وكفى ما ذكرناه من آثار الصادق في مجيئه الى العراق عند إِرسال السفّاح والمنصور عليه وازدياد شأن أهل البيت به، والعور يذكور بالاحراق.



_______________

(1) قال في القاموس: السكر معرّب، وقال الأصمعي: طبرزن وطبرزل.
أقول: ولعلّ هذا الرطب سمّي بالطبرزد لشدّة حلاوته أو لتشابه الطعم بالسكر، ولعلّه ما يسمى اليوم عندنا بالطبرزل وهو من جيد الرطب.
(2) ذكرنا هذا الدعاء فيما جمعناه من دعائه.
(3) بحار الأنوار: 100 / 440 /21، مزار البحار: 22/103.



حياته العلميّة .. (علمه إِلهامي)


لا فضيلة كالعلم، فإن به حياة الاُمم وسعادتها، ورقيّها وخلودها، وبه نباهة المرء وعلوّ مقامه وشرف نفسه.
ولا غرابة لو كان العلم أفضل من العبادة أضعافاً مضاعفه، لأنّ العابد صالح على طريق نجاة قد استخلص نفسه فحسب، ولكن العالم مصلح يستطيع أن يستخرج عوالم كبيرة من غياهب الضلال، وصالح في نفسه أيضاً، وقد فتح عينيه في طريقه، ومن فتح عينه أبصر الطريق.
وليس في الفضائل ما يصلح الناس وينفعهم ويبقى أثره في الوجود مثل العلم، فإن العبادة والشجاعة والكرم وغيرها اذا نفعت الناس فإنما نفعها مادام صاحبها في الوجود، وليس له بعد الموت إِلا حسن الاحدوثة، ولكن العالم يبقى نفعه مادام علمه باقياً، وأثره خالداً.
وقد جاء في السنّة الثناء العاطر على العلم وأهله، كما جاء في الكتاب آيات جمّة في مدحه ومدح ذويه، وهذا أمر مفروغ عنه، لا يحتاج الى استشهاد واستدلال.
نعم إِنما الشأن في أن هذا الثناء خاصّ بالعلم الديني وعلمائه، أو عامّ لكلّ علم وعالم ؟ إِخال أن الاختصاص بعلم الدين وعلمائه لا ينبغي الريب فيه




[ 132 ]



فإن الأحاديث صرّحت به، وكفى من الكتاب قوله تعالى: «إِنما يخشى اللّه من عباده العلماء»(1) وقد لا تجد خشية عند علماء الصنعة وما سواهم غير علماء الدين، بل إِن بعضهم قد لا تجده يعترف بالوجود أو بالوحدانيّة.
وما استحق علماء الدين هذا الثناء إِلا لأنهم يريدون الخير للناس ويسعون له ما وجدوا سبيلاً ومتى كانوا وجدتهم أدلاء مرشدين هداة منقذين.
وعلم الدين إِلهامي وكسبي، والكسبي يقع فيه الخطأ والصواب والصحّة والغلط، وغلط العالم وخطأه يعود على العالم كلّه بالخطأ والغلط، لأن النّاس أتباع العلماء في الأحكام والحلال والحرام، واللّه جلّ شأنه لا يريد للناس إِلا العمل بالشريعة التي أنزلها، والأحكام التي شرّعها، فلا بدّ إِذن من أن يكون في الناس عالم لا يخطأ ولا يغلط، ولا يسهو ولا ينسى، ليرشد الناس الى تلك الشريعة المنزلة منه جلّ شأنه، والأحكام المشرّعة من لدنه سبحانه، فلا تقع الاُمّة في أشراك الأخطاء وحبائل الأغلاط، ولا يكون ذلك إِلا اذا كان علم العالم وحياً أو إِلهاماً.
فمن هنا كان حتماً أن يكون علم الأنبياء وأوصيائهم من العلم الإِيحائي أو الإِلهامي صوناً لهم وللاُمم من الوقوع في المخالفة خطأً.
واللّه تعالى قد أنزل شريعة واحدة لا شرائع، وفي كلّ قضيّة حكماً لا أحكاماً، ونصب للاُمّة في كلّ عهد مرشداً لا مرشدين، ونجدها اليوم شرائع ولها مشرّعون لا شريعة واحدة ومشرّعاً واحداً، ونرى في كلّ قضيّة أحكاماً لا حكماً واحداً، وفي كلّ زمن مرشدين متخالفين متنابذين بل يكفر بعضهم بعضاً، ويبرأ بعضهم من بعض لا مرشداً واحداً، وليس هذا ما جاء به المصلح



_______________

(1) فاطر: 28.




[ 133 ]



الأكبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولا ما أراده لاُمّته.
فلا غرابة لو حكم العقل بأن الواجب عليه سبحانه أن ينصب في كلّ عهد عالماً يدلّ الناس على الشريعة كما جاءت، ويأتيهم بالأحكام كما نزلت، وهل يجوز ذلك على أحد سوى عليّ وبنيه ؟ وهذه آثارهم العلميّة بين يديك فاستقرئها، لعلّك تجد على النور هدى، ولو لم يكن لدنيا أثر أو دليل إِلا قوله صلّى اللّه عليه وآله: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها(1)»، وقوله: «إِني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيت»(2)، لكفى في كون أهل البيت علماء الشريعة والكتاب، الذين أخذوا العلم من معدنه، واستقوه من ينبوعه، ولو كان علمهم بالاكتساب لما جعلهم الرسول علماء الكتاب عمر الدهر دون الناس، وما الذي ميّزهم على الناس اذا كانوا والناس في العلم سواء.
وممّا يسترعي الانتباه أن الناس كانوا محتاجين الى علمهم أبداً، وكلّما رجعوا اليهم في أمر وجدوا علمه عندهم، وما احتاجوا إِلى علم الناس أبداً.
ولا نريد أن نلمسك هذه الحقيقة بالأخبار دون الآثار، فإن في الآثار ما به غنى للبصر، وهذه آثارهم شاهدة على صدق ما ادّعوه وادعي فيهم، وأمر حقيق بأن تنتبه اليه، وهو أن الجواد عليه السّلام انتهت اليه الامامة وهو ابن سبع، ونهض بأعبائها، وقام بما قام به آباؤه من التعليم والإرشاد، وأخذ منه العلماء خاضعين مستفيدين، وما وجدت فيه نقصاً عن علوم آياته وهذا عليّ بن جعفر شيخ العلويّين في عهده سنّاً وفضلاً اذا أقبل الجواد يقوم فيقبّل يده، وإِذا خرج يسوّي له نعله، وسئل عن الناطق بعد الرضا عليه السّلام فقال: أبو جعفر ابنه



_______________

(1) تاريخ بغداد: 2/377، وكنز العمال: 6/156.
(2) مسند أحمد بن حنبل: 4/366، وصحيح الترمذي: 2/308.




[ 134 ]



فقيل له: أنت في سنّك وقدرك وأبوك جعفر بن محمّد تقول هذا القول في هذا الغلام، فقال ما أراك إِلا شيطاناً ثمّ أخذ بلحيته وقال: فما حيلتي إِن كان اللّه رآه أهلاً لهذا ولم ير هذه الشيبة لها أهلاً(1) هذا وعليّ بن جعفر أخ الكاظم عليه السّلام والكاظم جدّ الجواد، فماذا ترى بينهما من السن، وعلي أخذ العلم من أبيه الصادق وأخيه الكاظم وابن أخيه الرضا، فلو كان علمهم بالتحصيل لكان علي اكثر تحصيلاً، أو الإمامة بالسنّ لكان علي اكبر العلويّين سنّاً.
على أن الجواد قد فارقه أبوه يوم سافر الى خراسان وهو ابن خمس، فمن الذي كان يؤدّبه ويثقّفه بعد أبيه حتّى جعله بتلك المنزلة العليّة لو كان ما عندهم عن تعلّم وتأدّب ؟ ولم لا يكون المعلّم والمثقف هو صاحب المنزلة دونه.
ومات الجواد وهو ابن خمس وعشرين سنة وأنت تعلم أن ابن هذا السنّ لم يبلغ شيئاً من العلم لو أنفق عمره هذا كلّه في الطلب فكيف يكون عالم الاُمّة ومرشدها، ومعلّم العلماء ومثقّفهم، وقد رجعت إِليه الشيعة وعلماؤها من يوم وفاة أبيه الرضا عليه السلام ؟
وهكذا الشأن في ابنه عليّ الهادي عليه السّلام، فقد قضى الجواد وابنه الهادي ابن ست أو ثمان، فمن الذي ثقّفه وجعله بذلك المحلّ الأرفع ؟ وكيف رجعت اليه العلماء والشيعة وهو ابن هذا السن ؟ وماذا يحسن من كان هذا عمره لو كان علمه بالكسب ؟
فالصادق كسائر الأئمة لم يكن علمه كسيباً وأخذاً من أفواه الرجال ومدارستهم، ولو كان فممّن أخذ وعلى مَن تخرّج ؟ وليس في تأريخ واحد من الأئمة عليهم السّلام أنه تلمذ أو قرأ على واحد من الناس حتّى في سنّ الطفولة فلم



_______________

(1) رجال الكشي 269 و270.




[ 135 ]



يذكر في تأريخ طفولتهم أنه دخلوا الكتاتيب أو تعلّموا القرآن على المقرئين كسائر الأطفال من الناس، فما عِلمُ الامام إِلا وراثة عن أبيه عن جدّه عن الرسول عن جبرئيل عن الجليل تعالى، وسوف نشير الى بعض آثاره العلميّة والى تعليمه لتلامذته، وما سواها ممّا هو دخيل في حياته العلميّة.






توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس
قديم 2015/02/22, 08:05 AM   #3
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي

يتبع****

مدرسته العلميّة


ما كان أخذ العلم عنه على الطراز الذي تجده اليوم من الحوزات العلميّة والنقاش في الدليل والمأخذ، بل كان تلامذته يرون إِمامته عدا قليل منهم، والاماميّة كما تقدّم ترى أن علم الامام لا يدخل فيه الرأي والاجتهاد فيحاسب الامام على المصدر والمستند، وإِنما علمه إِلهي موروث، نعم ربّما يسأله السائل عن علّة الحكم سؤال تعلّم واستفاده لا سؤال ردّ وجدل.
على أن من أخذوا عنه العلم من غير الاماميّة كانوا يرون جلالته وسيادته وإِمامته(1) وقد عدّوا أخذهم عنه منقبة شرفوا بها وفضيلة اكتسبوها(2).
وهذا ابن أبي الحديد قد أرجع علم المذاهب الأربعة اليه في الفقه(3).
فكان السائل يأتي اليه ويستعلمه عمّا أشكل عليه، وكان الكثير منهم قد استحضر الدواة والقرطاس ليكتب ما يمليه عليه الامام ليرويه عنه عن تثبّت.
وإِذا أردت أن تعرف مبلغ علمه فانظر إِلى كثرة من استقى منه العلم فقد بلغ من عرفوه منهم أربعة آلاف أو يزيدون، ولماذا روى هؤلاء كلّهم عنه ولم يرووا عن غيره، مع وفرة العلماء في عصره، ولماذا إِذا روى أحد منهم عنه وقف



_______________

(1) تهذيب الأسماء واللغات وينابيع المودّة.
(2) مطالب السؤل.
(3) شرح النهج: 1/6.




[ 136 ]



عليه، ولا يسأل عمّن يروي ما أملاه، إِلا أن يخبر هو أن ما أملاه عن آبائه عن جدّه الرسول صلّى اللّه عليه وآله.
وما كانت تلك المدرسة التي خرّجت ذلك العدد الجم مدرسة تريد أن تعلّم العلوم للذكر والصيت والفخر والشرف، وما كانت غاية تلامذتها إِلا أن يتعلّموا العلم للعلم وخدمة الدين والشريعة، ومن خالف هذه السيرة أبعده الامام عن حوزته، فكم طرد اُناساً ولعن قوماً خالفوه في سيرته وسريرته وما زالت عظاته وارشاداته تسبق تعاليمه، أو تطّرد مع بيانه.


تعاليمه لتلاميذه


ما اكثر تعاليمه واكثر عظاته ونصائحه، وستأتي لها فصول خاصّة، وإِنما نذكر منها ههنا ما يخصّ طلب العلم.
قال عمرو بن أبي المقدام(1): قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام في أوّل مرّة دخلت عليه: تعلّموا الصدق قبل الحديث(2).
أقول: ما أثمنها نصيحة، وما زال يوصي كلّ من دخل عليه من أوليائه بالصدق وأداء الأمانة، ولا بدع فإن بهما سعادة المرء في هذه الحياة، ووفرة المال والجاه، والطمأنينة اليه، والرضى به للحكومة بين الناس.
وأما إِرشاده الى طلب العلم فما اكثر قوله فيه، فتارةً يقول عليه السّلام: لست أحبّ أن أرى الشاب منكم إِلا غادياً في حالين، إِما عالماً أو متعلّماً، فان لم يفعل فرط، وإِن فرط ضيّع، وإِن ضيّع أثم(3).




كيف صار مذهباً ؟


إِن المذهب في عرف أهل الاسلام هو المرجع في أحكام الدين، وهذا لا يقتضي أن يكون الصادق عليه السّلام دون الأئمة الأثني عشر مذهباً، لأن الشيعة الإماميّة ترى أن كلّ إِمام من اولئك الأئمة من عليّ أمير المؤمنين الى الغائب المنتظر يجب الأخذ بقوله والعمل برأيه، لأن علمهم - كما يرون - علم واحد موروث من الرسول صلّى اللّه عليه وآله لا يختلفون في أخذه ولا يروون عن غيره، وعلمهم سلسلة واحدة يرثه الإبن عن أبيه من دون اجتهاد فيه ولا تحريف في أخذه ونقله.
بيدَ أن الفرص لم تسنح لواحد منهم في إِظهار ما استودعهم الرسول صلّى اللّه عليه وآله وإِبلاغ ما استحفظهم عليه، كما سنحت للصادق جعفر عليه السّلام فإن الذي ساعد على بثّه للمعارف ونشره للعلوم الموروثة لهم من سيّد الرسل صلّى اللّه عليه وآله إِجتماع عدّة اُمور:
1 - إن زمن استقلاله بالإمامة قد طال حتّى جاوز الثلاثين عاماً، ولئن كان جدّه زين العابدين وابنه موسى الكاظم وحفيده عليّ الهادي عليهم السّلام قد شاركوه في طول الزمن، وكانت أيام إِمامتهم تجاوزت الثلاثين عاماً أيضاً فإنه لم يتّفق لهم ما اتّفق له ممّا يأتي.




[ 185 ]



2 - إن أيامه كانت أيام علم وفقه، وكلام ومناظرة، وحديث ورواية، وبدع وضلالة، وآراء ومذاهب، وهذه فرصة جديرة بأن يبدي العالم فيها علمه، ليقمع بذلك الأضاليل والأباطيل، ويبطل الآراء والأهواء، ويصدع بالحقّ، وينشر الحقيقة.
3 - إِنّه مرّت عليه فترة من الرفاهيّة على بني هاشم لم تمرّ على غيره من الأئمة، فلم يتّفق له على الأكثر ما كان يحول دون آبائه وأبنائه من الجهر بمعارفهم بالتضييق عليهم ومنع الناس عنهم ومنعهم عن الناس من ملوك أيامهم.
ولم يملك من الأئمة زمام الأمر سوى أمير المؤمنين عليه السّلام، ولكن كانت أيامه على قصرها بين حرب وكفاح وبين مناهضة للبدع والضلالات فحمّلوه على السير في محجّة لا يجد مناصاً من السلوك فيها، على أنه لم تكن في أيامه ما كان في عهد الصادق من انتشار العلم بين طبقات الناس وظهور الأهواء والآراء والنِّحل والمذاهب.
أمّا الصادق فقد عاصر الدولتين المروانيّة والعبّاسيّة ووجد فترة لا يخشى فيها سطوة ظالم ولا وعيد جبّار، وتلك الفترة امتزجت من اُخريات دولة بني مروان واوليات دولة بني العبّاس، لأن الاُمويين وأهل الشام لمّا أجهزوا على الوليد بن يزيد وقتلوه انتقضت عليهم أطراف البلاد وتضعضعت أركان سلطانهم، وكانت الدعوة لبني هاشم قد انتشرت في جهات البلاد فكانت تلك الاُمور كلّها صوارف لبني مروان عمّا عليه الصادق عليه السّلام من الحياة العلميّة، ولمّا انكفأ بهم الزمن وسالم بني العبّاس اشتغل بنو العبّاس بتطهير الأرض من اُميّة وبتأسيس الدولة الجديدة، وأنت تعلم بما يحتاجه المُلك الغضّ من الزمن لتأسيسه ورسوخه، فكان انصرافهم لبناء المُلك وإِحاطته شاغلاً لهم برهة من




[ 186 ]



الزمن عن شأن الصادق في بثّه العلوم والمعارف وإِن لم يتناسه السفّاح ولكن لم يجد عنده ما يخشاه، ولمّا جاء دور المنصور وصفا المُلك له ناصب العداء للصادق فكان يضيّق عليه مرّة ويتغاضى عنه اُخرى.
روى العلامة ابن شهراشوب(1) في كتابه المناقب في أحوال الصادق عن المفضّل بن عمر: «أن المنصور قد همّ بقتل أبي عبد اللّه عليه السّلام غير مرّة، فكان اذا بعث اليه ودعاه ليقتله فاذا نظر اليه هابه ولم يقتله، غير أنه منع الناس عنه ومنعه عن القعود للناس واستقصى عليه أشدّ الاستقصاء حتّى أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه في نكاح أو طلاق أو غير ذلك، فلا يكون علم ذلك عندهم ولا يصلون اليه فيعتزل الرجل أهله، فشقّ ذلك على شيعته وصعب عليهم، وحتّى ألقى اللّه عزّ وجل في روع المنصور أن يسأل الصادق عليه السّلام ليتحفه بشيء من عنده لا يكون لأحد مثله، فبعث اليه بمخصرة(2) كانت للنبي صلّى اللّه عليه وآله طولها ذراع، ففرح بها فرحاً شديداً وأمر أن تشقّ أربعة أرباع، وقسّمها في أربعة مواضع، ثمّ قال له: ما جزاؤك عندي إِلا أن اطلق لك وتفشي علمك لشيعتك، ولا أتعرّض لك ولا لهم فاقعد غير محتشم(3) وافتِ الناس ولا تكن في بلد أنا فيه، ففشى العلم عن الصادق، وأجاز في المنتهى».
فلهذا وغيره قد فشى عن الصادق عليه السّلام من العلوم ما لم تسمح الظروف به لسواه من الأئمة، وهذه كتب الحديث والفقه والأخلاق والاحتجاج وغيرها من كتب المعارف والعلوم ترشدك الى ما كان منه، وكفت كثرة رواته والرواية عنه، ولقد كتب عن رواته جملة من المؤلّفين وذكروا أن



_______________

(1) أشرنا الى شيء من حاله في تعليقة ص 78.
(2) بالكسر والسكون فالفتح ما يتوكّأ عليه كالعصا ونحوها وما يأخذه الملك بيده يشير به إِذا خاطب.
(3) على زنة اسم الفاعل، أي غير هائب ومنقبض.




[ 187 ]



عددهم أربعة آلاف أو يزيدون، ومن المؤلّفين ابن عقدة(1)، فإذا كانت الرواة عنه أربعة آلاف فكم كانت الرواية ؟ واذا كان راوٍ واحد يروي عنه ثلاثين ألف حديث فكم تكون رواية الباقين ؟ وكم هي العلوم والمعارف التي اُسندت اليه؟
وجملة القول أن الصادق عليه السّلام إِنما عرف بأنه مذهب تنتسب اليه الاماميّة والجعفريّة، لما انتشر عنه من العلم وحفظ منه من الحديث حتّى أن اكثر ما في كتب الحديث الشيعيّة مرويّ عنه.
وما كانت الرواية عنه مقصورة على الشيعة بل أخذ عنه اكابر معاصريه من أهل السنّة، ومنهم مالك وأبو حنيفة والسفيانان وأيوب وابن جريح وشُعبة وغيرهم، بل أرجع ابن أبي الحديد فقه المذاهب الأربعة اليه، كما في شرح النهج: (1/6).
وكان انتساب الشيعة اليه من عهده، وهو القائل في وصاياه لأصحابه: فإن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفريّ ويسرّني ذلك، وإِذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره وقيل: هذا أدب جعفر(2).
وكانت هذه النسبة معروفة في ذلك العهد حتّى أن شريكاً القاضي شهد



_______________

(1) هو أحمد بن محمّد بن سعيد الكوفي، وكان زيديّاً جاروديّاً، وشأنه في الجلالة والوثاقة وكثرة الحفظ معروف مشهور، وقد حكي عنه أنه قال: أحفظ مائة وعشرين ألف حديث بأسانيدها واُذاكر بثلثمائة ألف حديث، وله كتب كثيرة منها كتاب أسماء الرجال الذين رووا عن الصادق عليه السلام وهم أربعة آلاف رجل، وأخرج فيه لكلّ رجل الحديث الذي رواه، ولم يُعرف اليوم كتابه في الوجود، مات بالكوفة عام 233.
(2) الكافي: 2/636/5.




[ 188 ]



عنده شيعيّان وهما محمّد بن مسلم الثقة الشهير المعروف بصحبته للصادق وأبو كريبة الأزدي، فنظر شريك في وجهيهما مليّاً ثمّ قال: جعفريّان فاطميّان(1).
فنعرف من هذا أن النسبة كانت من أيامه واستمرّت الى هذا اليوم.



_______________

(1) بحار الأنوار: 47/393/115.



مناظراته


لأبي عبد اللّه عليه السّلام الكثير من الحجج البوالغ التي أظهر فيها الحقّ وقطع فيها العذر، نوافيك بشطر منها لأنها ناحية من نواحي حياته العلميّة المليئة بالعِبر والعِظات لا يستغني المسلم عن الوقوف عليها.




مناظراته في التوحيد


سبق شيء من كلامه عليه السّلام في التوحيد، وكان في طيّه بعض المناظرات، ونورد ههنا شيئاً منها غير ما سلف.
فمن تلك المناظرات ما يروى عن هشام بن الحكم، قال: كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أشياء، فخرج الى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها، وقيل: إِنه خارج بمكّة، فخرج الى مكّة ونحن مع أبي عبد اللّه عليه السّلام فصادفنا ونحن مع أبي عبد اللّه في الطواف وكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد اللّه، فضرب كتفه كتف أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال له: ما اسمك ؟ قال: عبد الملك، قال: فما كنيتك ؟ قال: أبو عبد اللّه، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: فمن هذا الملك الذي أنت عبده ؟ أمن ملوك الأرض أم ملوك السماء ؟ واخبرني عن ابنك عبد إِله السماء أم عبد إِله الأرض ؟ قل ما شئت




[ 190 ]



تخصم. فلم يحر جواباً.
ثمّ أن الصادق عليه السّلام قال له: اذا فرغت من الطواف فأتنا، فلما فرغ أبو عبد اللّه عليه السّلام أتاه الزنديق فقعد بين يدي أبي عبد اللّه عليه السّلام ونحن مجتمعون عنده، فقال أبو عبد اللّه للزنديق: أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقاً ؟ قال: نعم، قال: فدخلت تحتها ؟ قال: لا، قال: فما يدريك ما تحتها ؟ قال: لا أدري إِلا أني أظن أن ليس تحتها شيء، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فالظنّ عجز فلِم لا تستيقن، ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أفصعدت الى السماء ؟ قال: لا، قال: أفتدري ما فيها ؟ قال: لا، قال: عجباً لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب، ولم تنزل الى الأرض ولم تصعد الى السماء، ولم تجز هناك فتعرف ما خلفهنّ، وأنت جاحد بما فيهنّ، فهل يجحد العاقل ما لا يعرف ؟ قال الزنديق: ما كلّمني بها أحد غيرك.
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فأنت من ذلك في شكّ فلعلّه هو ولعلّه ليس هو، فقال الزنديق: ولعلّ ذلك، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم، ولا حجّة للجاهل، يا أخا أهل مصر تفهم عنّي فإنّا لا نشكّ في اللّه أبداً، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان، قد اضطرّا ليس لهما مكان إِلا مكانهما فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلِم يرجعان ؟ وإن كانا غير مضطرّين فلِم لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً ؟ اضطرّا واللّه يا أخا أهل مصر الى دوامهما والذي اضطرّهما أحكم منهما واكبر(1) فقال الزنديق: صدقت.
ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أخا أهل مصر إِن الذي تذهبون اليه



_______________

(1) أي أكبر في القوّة والقدرة وما شابه ذلك.




[ 191 ]



وتظنّون أنه الدهر إِن كان الدهر يذهب بهم فلِم لا يردّهم ؟ وإِن كان يردّهم لِم لا يذهب بهم ؟ القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر، لِم السماء مرفوعة والأرض موضوعة ؟ لِم لا تنحدر السماء على الأرض ؟ لِم لا تنحدر الأرض فوق طباقها ؟ ولا يتماسكان ولا يتماسك مَن عليها ؟ قال الزنديق: أمسكهما اللّه ربّهما سيّدهما.
قال: فآمن الزنديق على يدي أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال حمران بن أعين(1): جعلت فداك إِن آمنت الزنادقة على يدك فقد آمن الكفّار على يد أبيك، فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد اللّه عليه السلام: اجعلني من تلامذتك، فقال أبو عبد اللّه: يا هشام بن الحكم خذه اليك، فعلّمه هشام، وكان معلّم أهل الشام وأهل مصر الايمان، وحسنت طهارته حتّى رضي بها أبو عبد اللّه عليه السّلام(2).
وجاء اليه زنديق آخر وسأله عن أشياء نقتطف منها ما يلي: قال له: كيف يعبد اللّه الخلق ولم يروه ؟ قال أبو عبد اللّه عليه السلام: رأته القلوب بنور الايمان، وأثبتته العقول بيقظتها إِثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإِحكام التأليف، ثمّ الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته، قال: أليس هو قادر أن يظهر لهم حتّى يروه فيعرفونه فيُعبد على يقين ؟ قال عليه السلام: ليس للمحال جواب.
أقول: إِنما الرؤية تثبت للأجسام وإِذا لم يكن تعالى جسماً استحالت رؤيته، والمحال غير مقدور لا من جهة النقص في القدرة بل النقص في المقدور.



_______________

(1) سنذكره في المشاهير من ثقاته.
(2) الكافي: 1/74.




[ 192 ]



قال الزنديق: فمن أين أثبت أنبياءً ورسلاً، قال عليه السلام: إِنّا لمّا أثبتنا أنَّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا أن يلامسوه ولا أن يباشرهم ويباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه، ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أن لهم معبّرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدّبين بالحكمة، مبعوثين عنه، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إِحياء الموتى وإِبراء الأكمه والأبرص.
ثمّ قال الزنديق: من أيّ شيء خلق الأشياء ؟ قال عليه السّلام: من لا شيء، فقال: كيف يجيء شيء من لا شيء ؟ قال عليه السلام: إِن الأشياء لا تخلو إِما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء فإن كانت خلقت من شيء كان معه، فإن ذلك الشيء قديم، والقديم لا يكون حديثاً، ولا يتغيّر ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهراً واحداً ولوناً واحداً، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتّى ؟ ومن أين جاء الموت إِن كان الشيء الذي اُنشئت منه الأشياء حيّاً ؟ أو من أين جاءت الحياة إِن كان ذلك الشيء ميّتاً ؟ ولا يجوز أن يكون من حيّ وميّت قديمين لم يزالا، لأن الحيّ لا يجيء منه ميّت وهو لم يزل حيّاً، ولا يجوز أيضاً أن يكون الميّت قديماً لم يزل لما هو به من الموت، لأن الميّت لا قدرة به ولا بقاء.
أقول: إِن هذا الأمر على دقّته قد أوضحه الامام بأحسن بيان وردّده بين اُمور لا يجد العقل سلواها عند الترديد، وحقّاً إِن كان الشيء الذي خلقت الأشياء منه قديماً لزم أن يكون مع اللّه تعالى شيء قديم غير مخلوق له، ولو فرض أنه




[ 193 ]



مخلوق له عاد الكلام الأول أنه من أيّ شيء كان مخلوقاً، هذا غير أن القديم لا يكون حادثاً، والميّت لا يكون منه الحيّ، والحيّ لا يكون منه الميّت، والحياة والممات لا يتركّبان، ولو تركّبا عاد الكلام السابق، فإن الموت لا يصلح أن يكون في الأشياء الحيّة، ولا بقاء ولا دوام ليكون باقياً إِلى أن خلق اللّه منه الأشياء الحيّة، فلا بدّ إِذن من أن يكون تعالى قد خلق الأشياء من لا شيء.
ثمّ قال: من أين قالوا إِن الأشياء أزليّة ؟ قال عليه السّلام: هذه مقالة قوم جحدوا مدبّر الأشياء فكذّبوا الرسل ومقالتهم، والأنبياء وما أنبأوا عنه، وسمّوا كتبهم أساطير، ووضعوا لأنفسهم ديناً بآرائهم واستحسانهم، وإِن الأشياء تدلّ على حدوثها من دوران الفلك بما فيه وهي سبعة أفلاك، وتحرّك الأرض ومن عليها، وانقلاب الأزمنة، واختلاف الحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان، وموت وبلى، واضطرار الأنفس الى الإقرار بأن لها صانعاً ومدبّراً، ألا ترى الحلو يصير حامضاً، والعذاب مرّاً، والجديد بالياً، وكلّ الى تغيّر وفناء(1).
أقول: إِن الاستدلال بانقلاب الأزمنة ودوران الفلك من أدقّ الأدلّة العلميّة على حدوث العالم، الذي قصرت عنه أفهام كثير من الفلاسفة العظام كما أنه جعل الفلك الدائر فلكاً واحداً ثمّ تفسيره بالأفلاك السبعة لا ينطبق إِلا على نظرية الهيئة الحديثة إِذ يراد به النظام الشمسي، ومثله تصريحه بحركة الأرض التي لم يكن يحلم بها أحد من السابقين، وهي من مكتشفات العلم الحديث.
وللصادق عليه السلام مناظرات جمّة مع ابن أبي العوجاء، وكان بعضها في التوحيد، وكان ابن أبي العوجاء واسمه عبد الكريم من الملاحدة المشهورين



_______________

(1) الاحتجاج للشيخ الطبرسي: 336 - 345.




[ 194 ]



واعترف بدسّه الأحاديث الكاذبة في أحاديث النبي صلّى اللّه عليه وآله وكفى في معرفة حاله هذه المناظرات، وقد قُتِل على الإلحاد كما قُتِل صاحبه ابن المقفّع(1).
فمن تلك المناظرات أنه كان يوماً هو وعبد اللّه بن المقفّع في المسجد الحرام فقال ابن المقفّع: ترون هذا الخلق - وأومأ بيده الى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له إِسم الانسانيّة إِلا ذلك الشيخ الجالس - يعني أبا عبد اللّه جعفر بن محمد عليهما السّلام - وأما الباقون فرعاع وبهائم، فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء، فقال: لأني رأيت عنده ما لم أره عندهم، فقال ابن أبي العوجاء: لا بدّ من اختبار ما قلت فيه منه، فقال له ابن المقفّع: لا تفعل فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك، فقال: ليس ذا رأيك لكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إِحلالك إِيّاه هذا المحلّ الذي وصفت، فقال ابن المقفّع: أمّا اذا توسّمت عليّ فقم اليه وتحفّظ من الزلل ولا تثن عنانك الى استرسال فيسلمك الى عقال، وسمة ما لك وعليك، فقام ابن أبي العوجاء فلمّا رجع قال: ويلك يا ابن المقفّع ما هذا ببشر وإِن كان في الدنيا روحاني يتجسّد اذا شاء ظاهراً ويتروّح اذا شاء باطناً فهو هذا، فقال له: كيف ذلك ؟ فقال: جلست اليه فلمّا لم يبق عنده أحد غيري ابتدأني فقال: إِن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون - يعني أهل الطواف - فقد سلموا وعطبتم، وإِن يكن الأمر كما تقولون، وليس كما تقولون، فقد استويتم



_______________

(1) قتل محمّد بن سليمان عامل الكوفة من قبل المنصور ابن أبي العوجاء وكان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري، فانحرف عن التوحيد واعتزل حوزة الحسن البصري، وأمّا ابن المقفّع فقد كان مجوسيّاً وأسلم ظاهراً، غير أن أعماله وأقواله لا تدلّ على إسلامه، وكان فارسيّاً ماهراً في صنعة الإنشاء والأدب، وهو الذي عرّب كتاب كليلة ودمنة، وقتله سفيان المهلبي أمير البصرة عام 143 بأمر المنصور.




[ 195 ]



وهم، فقلت: يرحمك اللّه وأيّ شيء نقول وأيّ شيء يقولون،ما قولي وقولهم إِلا واحد، فقال: وكيف يكون قولك وقولهم واحداً، وهم يقولون إِن لهم معاداً وثواباً وعقاباً، ويدينون بأن للسماء إِلهاً وأنها عمران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد، قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إِن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه يدعوهم الى عبادته حتّى لا يختلف فيه اثنان ؟ لِمَ احتجب عنهم وأرسل اليهم الرسل ؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب الى الإيمان به، فقال لي: ويلك كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك ؟ نشوَّك(1) ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوَّتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوَّتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبّك بعد بغضك وبغضك بعد حبّك، وعزمك بعد إِنابتك(2)، وإِنابتك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاءك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك لما لم يكن في وهمك، وغروب(3) ما أنت معتقده عن ذهنك وما زال يعدّ(4) عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها، حتّى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه(5).
ودخل على الصادق عليه السلام يوماً فقال: أليس تزعم أن اللّه تعالى خالق كلّ شيء ؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: بلى، فقال: أنا أخلق، فقال له:



_______________

(1) نشأك في نسخة.
(2) الإنابة: الرجوع، وفي نسخة: إِبائك، وفي نسخة اُخرى: إِناءتك وهي الإبطاء.
(3) وفي نسخة عزوب.
(4) وفي نسخة يعدّد.
(5) الكافي: كتاب التوحيد منه، باب حدوث العالم وإثبات المحدث.




[ 196 ]



كيف تخلق ؟ فقال: أحدث في الموضع ثمّ ألبث عنه فيصير دواباً فكنت انا الذي خلقتها، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أليس خالق الشيء يعرف كم خلقه ؟ قال: بلى، قال عليه السّلام: فتعرف الذكر من الانثى وتعرف عمرها ؟ فسكت.
وللصادق عليه السلام نظير ذلك مع الجعد بن درهم، وكان من أهل الضلال والبدع، وقتله والي الكوفة يوم النحر لذلك، قال ابن شهراشوب: قيل إِن الجعد بن درهم جعل في قارورة ماءً وتراباً فاستحال دوداً وهواماً فقال لأصحابه: أنا خلقت ذلك لأني كنت سبب كونه، فبلغ ذلك جعفر بن محمّد عليهما السلام، فقال: ليقل كم هي ؟ وكم الذكران منه والاناث إِن كان خلقه، وكم وزن كلّ واحدة منهنّ، وليأمر الذي سعى الى هذا الوجه أن يرجع الى غيره، فانقطع وهرب.
ثمّ أن ابن أبي العوجاء عاد اليه في اليوم الثاني فجلس وهو ساكت لا ينطق فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كأنك جئت تعيد بعض ما كنّا فيه، فقال: أردت ذلك يا ابن رسول اللّه، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما أعجب هذا تنكر اللّه وتشهد أني ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ! فقال: العادة تحملني على ذلك، فقال له الصادق عليه السّلام: فما يمنعك من الكلام، قال: إِجلال لك ومهابة، ما ينطق لساني بين يديك، فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلّمين فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك، قال عليه السّلام: يكون ذلك، ولكن أفتح عليك سؤالاً، وأقبل عليه فقال له: أمصنوع أنت أم غير مصنوع ؟ فقال له ابن أبي العوجاء: أنا غير مصنوع، فقال له الصادق عليه السّلام: فصف لي لو كنت مصنوعاً كيف كنت تكون ؟ فبقي عبد الكريم مليّاً لا يحير جواباً وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول: طويل عريض عميق قصير متحرّك ساكن




[ 197 ]



كلّ ذلك من صفة خلقه، فقال له الصادق عليه السّلام فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها فاجعل نفسك مصنوعاً لما تجد في نفسك ممّا يحدث من هذه الاُمور، فقال له عبد الكريم: سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها، فقال له أبو عبد اللّه: هبك علمت أنك لم تُسأل فيما مضى فما علمك إِنك لم تُسأل فيما بعد ؟ على أنك يا عبد الكريم نقضت قولك، لأنك تزعم أن الأشياء من الأوّل سواء فكيف قدّمت وأخّرت ؟ ثم قال: يا عبد الكريم: أنزيدك وضوحاً ؟ أرأيت لو كان معك كيس فيه جواهر، فقال لك قائل: هل في الكيس دينار فنفيت كون الدينار في الكيس، فقال لك قائل: صف لي الدينار ؟ وكنت غير عالم بصفة، هل لك أن تنفي كون الدينار في الكيس وأنت لا تعلم ؟ قال: لا، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فالعالَم اكبر وأطول وأعرض من الكيس، فلعلّ في العالَم صنعة من حيث لا تعلم، لا تعلم صفة الصنعة من غير الصنعة، فانقطع عبد الكريم، وأجاب إِلى الإِسلام بعض أصحابه وبقي معه بعض.
فعاد في اليوم الثالث فقال: أقلب السؤال، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام سل عمّا شئت فقال: ما الدليل على حدوث الأجسام ؟ فقال: إِني ما وجدت صغيراً ولا كبيراً إِلا واذا ضمّ اليه مثله صار اكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الاُولى، ولو كان قديماً ما زال ولا حال، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يجود ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث، وفي كونه في الاُولى دخوله في العدم، ولن يجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد.
فقال عبد الكريم: هبك علمت في جري الحالين والزمانين على ما ذكرت واستدللت على حدوثها، فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدلّ على حدوثها ؟ فقال الصادق عليه السّلام: إِنما نتكلّم على هذا العالَم




[ 198 ]



الموضوع فلو رفعناه ووضعنا عالماً آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إِيّاه ووضعنا غيره، ولكن أجبت من حيث قدرت إِنك تلزمنا وتقول: إِن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ما ضمّ شيء منه الى مثله كان اكبر، وفي جواز التغيّر عليه خروجه من القدم كما بان في تغيير دخوله في الحدث، ليس وراءه شيء يا عبد الكريم، فانقطع وخزي.
أقول: إِن خلاصة كلام الصادق عليه السّلام: أن هذا العالَم إِذا ضمّ شيء منه إِلى شيء آخر حدث شيء اكبر، وفي ذلك زوال عن الحالة الاُولى وانتقال الى حال اُخرى، والقديم لا تطرأ عليه هذه التحوّلات، ولو كان ذلك التأليف بالفرض والوهم، كما لو كانت الأشياء حسب فرض ابن أبي العوجاء باقية على صغرها لا تكبر، لأنه من الاُمور البديهيّة بل أبده البديهيّات أنه بضمّ شيء إِلى شيء تحصل زيادة على كلّ من الشيئين، وهذه إِحدى بديهيّات أربع هي أساس العلوم الرياضيّة كلّها، فقد أرجع الإمام الدليل على حدوث العالَم الى أوضح بديهيّة في العقول التي لا يختلف فيها اثنان، على أنه عليه السّلام مع ذلك أجاب على تقدير هذا الفرض المحال وهو أن الأشياء تبقى على ما هي عليه بضمّ بعضها الى بعض أجاب بأن هذا الفرض نفسه هو فرض جواز التغيير عليه وخروجه من القِدم ودخوله في الحدث، لأن المفروض أن العالَم تقبل الأشياء فيه الزيادة بضمّ بعضها الى بعض، فلو فرضناه عالماً آخر لا يقبل ذلك فقد فرضنا رفع هذا العالَم وتغييره، فيتحقّق فيه الاستدلال على المطلوب. ما أدقّ هذا الدليل وأبدعه، ولذلك انقطع به ابن أبي العوجاء وخزي.
ولمّا كان في العام القابل التقى معه في الحرم، فقال له بعض شيعته: إِن ابن أبي العوجاء قد أسلم، فقال الصادق عليه السلام: هو أعمى من ذلك لا يسلم، فلمّا بصر بالصادق عليه السلام قال: سيّدي ومولاي، فقال له: ما جاء




[ 199 ]



بك الى هذا الموضع ؟ فقال: عادة الجسد وسنّة البلد ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة، فقال له الصادق عليه السّلام: أنت بعدُ على عتوّك وضلالك يا عبد الكريم، فذهب يتكلّم، فقال له: لا جدال في الحجّ ونفض رداءه من يده، وقال: إِن يكن الأمر كما تقول وليس كما تقول نجونا ونجوت، وإِن يكن الأمر كما نقول وهو كما نقول نجونا وهلكت(1).
وناظر الصادق عليه السلام يوماً في تبديل الجلود في النار، فقال: ما تقول في هذه الآية «كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها»(2) هب هذه الجلود عصت فعذّبت فما بال الغير يعذّب ؟ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ويحَك هي هي وهي غيرها، قال: اعقلني هذا القول، فقال له: أرأيت لو أن رجلاً عهد الى لبنة فكسرها ثم صبّ عليها الماء وجبلها(3) ثم ردّها الى هيئتها الأولى، ألم تكن هي هي وهي غيرها ؟ فقال: بلى أمتع اللّه بك(4).
أقول: هذا ما توصّل اليه عظماء الفلاسفة بعد جهد وبحوث طويلة في تحليل صحّة عذاب الانسان المجرم، مع أن ذرّات جسمه الذي وقع منه الجرم تتبدّل وتتحوّل دائماً «بل هم في لبس من خلق جديد»(5). وبهذا البيان الدقيق يجاب عن شبهة الآكل والمأكول المعروفة، فمن أين تعلم هذه الفلسفة الدقيقة في تلك العصور التي ما شمّت رائحتها ؟ إِنه الامام، وكفى.
وكان لأبي شاكر الديصاني - أحد ملاحدة العرب - مع الصادق عليه السّلام



_______________

(1) توحيد الصدوق طاب ثراه، باب حدوث العالم.
(2) النساء: 56.
(3) طبعها وليّنها.
(4) الاحتجاج للشيخ الطبرسي: 354.
(5) الدخان: 53.




[ 200 ]



مناظرات وأسئلة، واُخرى بينه وبين هشام بن الحكم ويفزع هشام بها الى إِمامه الصادق عليه السّلام، قال يوماً لهشام: إِن في القرآن آية هي من قولنا، قال هشام: وما هي ؟ فقال:
«وهو الذي في السماء إِله وفي الأرض إِله»(1) قال هشام: فلم أدر بمَ اجيبه، فحججت فخبّرت أبا عبد اللّه عليه السلام، قال: هذا كلام زنديق خبيث، اذا رجعت اليه فقل له ما اسمك بالكوفة ؟ فإنه يقول لك فلان فقل له: ما اسمك بالبصرة ؟ فإنه يقول فلان، فقل له: كذلك ربّنا في السماء إِله، وفي الأرض إِله، وفي البحار إِله، وفي القفار إِله، وفي كلّ مكان إِله، قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته، فقال: هذه نقلت من الحجاز(2).
وسأل أبو شاكر هشام بن الحكم يوماً فقال: ألك رب ؟ فقال: بلى، فقال: أقادر هو ؟ قال: نعم قادر، قال: يقدر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا ؟ قال هشام: النظرة، فقال له: قد أنظرتك حولاً، ثمّ خرج عنه، فركب هشام الى أبي عبد اللّه عليه السّلام فاستأذن عليه فأذن له، فقال له يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أتاني عبد اللّه الديصاني بمسألة ليس المعوّل فيها إِلا على اللّه وعليك، فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا هشام كم حواسّك ؟ قال: خمس، قال: أيّها أصغر ؟ قال: الناظر، قال: وكم قدر الناظر ؟ قال: مثل العدسة أو أقلّ منها، فقال له: يا هشام فانظر أمامك وفوقك واخبرني بما ترى، فقال: أرى سماءً وأرضاً ودوراً وقصوراً وبراري وجبالاً وأنهاراً، فقال له أبو عبد اللّه: إِن الذي قدرَ أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقلّ منها قادر أن



_______________

(1) الزخرف: 84.
(2) الكافي: باب الحركة والانتقال.




[ 201 ]



يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة، فأكبّ هشام عليه يقبّل يديه ورأسه ورجليه، وقال: حسبي يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وانصرف الى منزله.
أقول: إِن هذا الجواب صدر عن الإمام عليه السلام على سبيل الإسكات والإقناع، والجواب البرهاني أن يقال: إِن اللّه تعالى لا يقدر على مثل ذلك لأنه محال والمحال غير مقدور له، كما أنه لا يقدر على إِيجاد شريك له وعلى الجمع بين النقيضين والضدّين، وهذا ليس من النقص في القدرة بل للنقص في المقدور، لأن القدرة تحتاج الى أن يكون متعلّقها ممكناً في ذاته، والفرق واضح بين النقص في القدرة والنقص في المقدور، ولعلّ الديصاني لو اُجيب بمثل هذا لما اقتنع به أو لما عقله.
وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن مثل ذلك، فأجاب بأن اللّه لا يُنسب الى العجز، والذي سألتني لا يكون، وهذا هو الجواب الحقيقي، ومفاده ما أوضحناه.
ثمّ إِن الديصاني غدا على هشام، فقال له هشام: إِن كنت جئت متقاضياً فهاك الجواب، فقال له: إِني جئتك مسلّماً ولم أجئك متقاضياً للجواب، فخرج الديصاني عنه حتّى أتى باب أبي عبد اللّه عليه السلام فاستأذن عليه فأذن له، فلمّا قعد قال له: يا جعفر بن محمّد دلّني على معبودي، فقال له أبو عبد اللّه: ما اسمك ؟ فخرج عنه ولم يخبره باسمه، فقال له أصحابه: كيف لم تخبره باسمك ؟ قال: لو كنت قلت له عبد اللّه كان يقول من الذي أنت له عبد ؟ فقالوا: عُد اليه وقل له يدلّك على معبودك ولا يسألك عن اسمك، فرجع اليه وقال: يا جعفر بن محمّد دلّني على معبودي ولا تسألني عن اسمي، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: اجلس، واذا غلام له صغير في كفّه بيضة يلعب بها




[ 202 ]



فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: يا ديصاني هذا حصن مكنون له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضّة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة، ولا الفضّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها، ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها، لا يدرى للذكر خلقت أم للاُنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس أترى لهذا مدبّراً ؟ قال: فأطرق مليّاً، ثمّ قال: أشهد أن لا إِله إِلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمّداً عبده ورسوله، وأنك إِمام وحجّة من اللّه على خلقه، وأنا تائب ممّا كنت فيه(1).



_______________

(1) الكافي: كتاب التوحيد منه، باب حدوث العالم وإِثبات المحدث.

<h2>مناظرته مع طبيب
</h2><h4>حضر أبو عبد اللّه عليه السلام مجلس المنصور يوماً وعنده رجل من الهند يقرأ كتب الطبّ فجعل أبو عبد اللّه الصادق عليه السلام ينصت لقراءته، فلما فرغ الهندي قال له: يا أبا عبد اللّه أتريد ممّا معي شيئاً ؟ قال: لا، فإن معي ما هو خير ممّا معك، قال: وما هو ؟ قال: اداوي الحار بالبارد والبارد بالحار، والرطب باليابس واليابس بالرطب، وأردّ الأمر كلّه الى اللّه عزّ وجل، وأستعمل ممّا قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، واعلم أن المعدة بيت الداء وأن الحميّة هي الدواء، واعوّد البدن ما اعتاد، فقال الهندي: وهل الطبّ إِلا هذا ؟ فقال الصادق: أفتراني عن كتب الطبّ أخذت، قال: نعم، قال: لا واللّه ما أخذت إِلا عن اللّه سبحانه، فأخبرني أنا أعلم بالطبّ أم أنت ؟ فقال الهندي: لا بل أنا، فقال الصادق عليه السلام: فأسألك شيئاً، قال: سل.
</h4><h4></h4><h1>[ 203 ]</h1><h4></h4><h4>قال: أخبرني يا هندي لِمَ كان في الرأس شؤن ؟(1) قال: لا أعلم، قال: فلِمَ جعل الشعر عليه من فوقه ؟ قال: لا أعلم.
قال: فلِمَ خلت الجبهة من الشعر ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ كان لها تخطيط وأسارير ؟(2) قال: لا أعلم، قال: فلِمَ كان الحاجبان من فوق العينين ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ جعل العينان كاللوزتين ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ جعل الأنف فيما بينهما ؟ قال: لا أعلم، قال: فَلِمَ كان ثقب الأنف في أسفله ؟ قال: لا أعلم، قال: فَلِمَ جعلت الشفّة والشارب من فوق الفم ؟ قال: لا أعلم، قال: فَلِمَ احتدَّ السنّ وعرض الضرس(3) وطال الناب ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ جعلت اللحية للرجال ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ خلت الكفّان من الشعر ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ خلا الظفر والشعر من الحياة ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ كان القلب كحبّ الصنوبر(4) قال: لا أعلم، قال: فلِمَ كانت الرئة قطعتين، وجعل حركتها في موضعها ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ كانت الكبد حدباء ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ كانت الكلية كحبّ اللوبياء ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ جعل طيّ الركبتين الى خلف ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ تخصّرت القدم ؟(5) قال: لا أعلم، فقال الصادق عليه السلام: لكنّي أعلم، قال: فأجب.
</h4>
_______________
<h5>(1) روى في البحار في شرح هذه المناظرة عن ابن سينا في التشريح أن الجمجمة مركّبّة من سبعة أعظم أربعة كالجدران وواحد كالقاعدة والباقيان يتألّف منها العجف وبعضها موصول الى بعض بدروز يقال لها الشؤن. أقول: لعلّه يريد بالعجف: العظام الفصار.
(2) الأسارير: الخطوط.
(3) يراد منه الطواحن خاصّة.
(4) الصنوبر شجر لا يزال مخضراً وهو رفيع الورق وحبّه مستدير طويل.
(5) مخصر القدم: من تمسّ قدمه الأرض من مقدمها وعقبها ويخوى أخمصها مع دقّة فيه.




[ 204 ]



قال الصادق عليه السلام: كان في الرأس شؤن لأن المجوّف إِذا كان بلا فصل أسرع اليه الصداع، فاذا جعل ذا فصول كان الصداع منه أبعد وجعل الشعر من فوقه لتوصل بوصوله الأدهان الى الدماغ ويخرج بأطرافه البخار منه، ويردّ الحرّ والبرد عليه، وخلت الجبهة من الشعر لأنها مصبّ النور الى العينين(1) وجعل فيها التخطيط والأسارير ليحتبس العرق الوارد من الرأس الى العين قدر ما يميطه الانسان عن نفسه وهو كالأنهار في الأرض التي تحبس المياه، وجعل الحاجبان من فوق العينين ليردّا(2) عليهما من النور قدر الكفاية، ألا ترى يا هندي أن من غلبه النور جعل يده على عينيه ليردّ عليهما قدر كفايتهما منه، وجعل الأنف فيما بينهما ليقسم النور قسمين الى كل عين سواء، وكانت العين كاللوزة ليجري فيها الميل بالدواء ويخرج منها الداء ولو كانت مربّعة أو مدوّرة ما جرى فيها الميل وما وصل اليها دواء ولا خرج منها داء، وجعل ثقب الأنف في أسفله لتنزل منه الأدواء المتحدّرة من الدماغ ويصعد فيه الأراييح الى المشام، ولو كان في أعلاه لما نزل منه داء ولا وجد رائحة، وجعل الشارب والشفة فوق الفم لحبس ما ينزل من الدماغ الى الفم لئلا يتنغّص على الانسان طعامه وشرابه فيميطه عن نفسه، وجُعلت اللحية للرجال ليستغنى بها عن الكشف(3) في المنظر ويعلم بها الذكر من الاُنثى، وجعل السنّ حادّاً لأنه به يقع العض، وجعل الضرس عريضاً لأنه به يقع الطحن والمضغ، وكان الناب طويلاً ليسند(4) الأضراس والأسنان كالاسطوانة في البناء، وخلا الكفّان من الشعر لأن بهما يقع



_______________
(1) فلو كان في الجبهة لحال دون النور.
(2) ليورد في نسخة.
(3) أي كشف العورة.
(4) وفي نسخة ليشدّ. والمعنى عليهما معاً لا يختلف.




[ 205 ]



اللمس، فلو كان فيهما شعر ما درى الانسان ما يقابله ويلمسه، وخلا الشعر والظفر من الحياة لأن طولهما سمج يقبح وقصّهما حسن فلو كانت فيهما حياة لألم الانسان قصّهما، وكان القلب كحبّ الصنوبر لأنه منكس فجعل رأسه دقيقاً ليدخل في الرئة فيتروّح عنه ببردها لئلا يشيط الدماغ بحرّه(1)، وجُعلت الرئة قطعتين ليدخل(2) بين مضاغطها(3) فيتروّح عنه بحركتها، وكانت الكبد حدباء لتثقل المعدة ويقع جميعها عليها فيعصرها ليخرج(4) ما فيها من البخار، وجعلت الكلية كحبّ اللوبياء لأن عليها مصبّ المني نقطة بعد نقطة، فلو كانت مربّعة أو مدوّرة احتبست النقطة الاُولى الى الثانية فلا يلتذّ بخروجها الحي، إِذ المني ينزل من فقار الظهر الى الكلية، فهي كالدودة تنقبض وتنبسط ترميه أوّلاً فأوّلاً الى المثانة كالبندقة من القوس، وجعل طيّ الركبة الى خلف لأن الانسان يمشي الى ما بين يديه فتعتدل الحركتان(5) ولولا ذلك لسقط في المشي، وجُعلت القدم مخصّرة(6) لأن المشي اذا وقع على الأرض جميعه ثَقل ثُقل حجر الرحى، فإذا كان على طرقه(7) دفعه الصبي، واذا وقع على وجهه صعب نقله على الرجل.
فقال له الهندي: من أين لك هذا العلم ؟ فقال عليه السّلام: أخذته عن آبائي عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن جبرئيل عن ربّ



_______________
(1) لاتصال ما بين القلب والدماغ بالشرايين فاذا احترّ القلب احترّ الدماغ.
(2) أي القلب.
(3) وفي نسخة مساقطها.
(4) وفي نسخة فيخرج.
(5) وفي نسخة الحركات.
(6) متخصّرة في نسخة.
(7) وفي نسخة حرفه.




[ 206 ]



العالمين جلّ جلاله الذي خلق الأبدان والأرواح، فقال الهندي: صدقت وأنا أشهد أن لا إِله إِلا اللّه وأن محمّداً رسول اللّه وعبده وأنك أعلم أهل زمانه(1).



_______________
(1) بحار الأنوار: 10/207.


آدابه في العِشرة


إِن الأخلاق الحميدة قد تكون غرائز نفسيّة، وطبائع فطريّة، أمثال السماحة والشجاعة والبشاشة والبلاغة، وقد تكون بالتعلّم والاكتساب مثل العبادة والزهادة والمعارف والعلوم والآداب.
وإِن من يسبر سيرة هاشم وبنيه يجدهم قد جمعوا الفضائل بقسميها، والأخلاق بشطريها، حتّى اذا نبغ الرسول صلّى اللّه عليه وآله من بينهم وأخذ من كلّ فضيلة بأسماها كما يقتضيه منصبه الإلهي كان بنوه أحقّ من درج على سنّته واتّبع جميل أتره لا سيّما والفضيلة شعار قبيلتهم قبل هذا التراث من رسول الأخلاق والفضائل.
ومن يستقص سيرة أبي عبد اللّه عليه السلام يعرف أنه الشخصيّة المثاليّة لأبيه المصطفى صلّى اللّه عليه وآله وما المرء إِلا بعمله، ولئن سكت عن بيان حاله فأعماله ترجمان ذاته وصفاته.




[ 222 ]



ولقد مرَّ عليك ما قاله العلماء في شأنه، وكفى عن تعريف شخصيّته ما قرأته من حياته العلميّة، وسوف تقرأ المختار من كلامه فتتمثل له منزلته في الأخلاق والفضيلة من تلك النوادر الغالية، وكان الجدير أن يكون مثالاً لكلامه قبل أن يحمل عليه رجاله والآخذين عنه.
فلا نستكبر منه إِذن أن يكون بين أصحابه كأحدهم لا تظهر عليه آثار العزّة وحشمة الإمامة، فقد خرج يوماً وهو يريد أن يعزّي ذا قرابة بفقد مولود له، ومعه بعض أصحابه فانقطع شسع نعله، فتناول نعله من رجله، ثمّ مشى حافياً، فنظر اليه ابن أبي يعفور(1) فخلع نعل نفسه من رجله وخله الشسع منها وناولها أبا عبد اللّه عليه السلام، فأعرض عنه كهيئة المغضب ثمّ أبى أن يقبله، وقال: لا، صاحب المصيبة أولى بالصبر عليها، فمشى حافياً حتّى دخل على الرجل الذي أتاه ليعزّيه.
وكان اذا بسط المائدة حثّهم على الأكل ورغّبهم فيه، ولربّما يأتيهم بالشيء بعد الشبع، فيعتذرون فيقول: ما صنعتم شيئاً إن أشدّكم حبّاً لنا أحسنكم أكلاً عندنا، ثمّ يروى لهم عن النبي صلّى اللّه عليه وآله أمثال ذلك لتطيب نفوسهم بالأكل وترغب بالزيادة، ويروي لهم هذا القول، أعني «أشدّكم حبّاً لنا أحسنكم أكلاً عندنا» عن النبي صلّى اللّه عليه وآله مع سلمان والمقداد وأبي ذر.
وقد يجيء بالقصعة من الارز بعد انتهائهم من الأكل، فاذا امتنع أحدهم من الأكل قال له: يعتبر حبّ الرجل لأخيه بانبساطه في طعامه، ثمّ يجوز له حوزاً ويحمله على أكله، واذا رآهم يقصرون في الأكل خجلاً قال لهم: تستبين



_______________

(1) سيأتي في مشاهير الثقات من أصحابه.




[ 223 ]



مودَّة الرجل لأخيه في أكله(1).
وكان اذا أطعم أصحابه يأتيهم بأجود الطعام، قال بعضهم: كان أبو عبد اللّه عليه السلام ربّما أطعمنا الفراني والأخبصة، ثمّ أطعمنا الخبز والزيت فقيل له: لو دبّرت أمرك حتّى يعتدل يوماك، فقال: إِنما نتدبّر بأمر اللّه اذا وسّع وسّعنا واذا قتّر قتّرنا.
وقال أبو حمزة: كنّا عند أبي عبد اللّه عليه السلام جماعة فاُتينا بطعام ما لنا عهد بمثله لذاذةً وطيباً، واُتينا بتمر ننظر فيه وجوهنا من صفائه وحسنه(2).
وكان مع ذلك الشأن والسنّ يمنع ضيفه من القيام لبعض الحوائج فإن لم يجد أحداً قام هو بنفسه، ويقول: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن أن يستخدم الضيف(3).
ولرغبته في بقاء الضيف عنده كان لا يساعده على الرحيل عنه، كما صنع ذلك مع قوم من جهينة، فإنه أمر غلمانه ألا يعينوهم على الرحلة، فقالوا له: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لقد أضفت فأحسنت الضيافة، وأعطيت فأجزلت العطيّة، ثمّ أمرت غلمانك ألا يعينونا على الرحلة، فقال عليه السلام: إِنّا أهل بيت لا نعين أضيافنا على الرحلة من عندنا(4).
وكان من حُبّه للبرّ والإطعام والتزاور أن يأمر بها أصحابه تصريحاً وتلويحاً، ولربّما كان التلويح أجمل في الترغيب بالعمل، حيث يخبر عن حبّه لتلك الخصال الكريمة، فيقول: لئن آخذ خمسة دراهم وأدخل الى سوقكم هذه فأبتاع



_______________

(1) بحار الأنوار: 47/40/47.
(2) وسائل الشيعة: 3/268.
(3) بحار الأنوار: 47/40/48.
(4) مجالس الصدوق رحمه اللّه، المجلس/18.




[ 224 ]



بها الطعام وأجمع نفراً من المسلمين أحبّ إِليَّ من أعتق نسمة(1).
ويقول: لئن أطعم مؤمناً محتاجاً أحبّ إِليَّ من أن أزوره، ولئن أزوره أحبّ إِليَّ من أن أعتق عشر رقاب(2). وما أكثر ما جاء عنه من أمثال ما أوردناه.
وإِخال أن السرّ في تقديم بعض هذه الاُمور على بعض هو رعاية الاُلفة والتوادد فما كان أدخل في الاجتماع كان أفضل.
وانظر كيف يقرّب لك حسن الصنيعة والافضال ليحملك على هذا العمل الجميل فيقول: ما من شيء أسرَّ إِليَّ من يد أتبعتها الاُخرى، لأن من الأواخر يقطع شكر الأوائل(3).
أقول: إِن الوجدان شاهد صدق على ذلك، لأن اليد الواحدة اذا اتبعها الانسان بقطيعة فوَّتت القطيعة شكر تلك الصنيعة، فلا يدوم الشكر إِلا إِذا تتابعت الأيدي.
وإِن شئت أن تقف على عمله الذي يمثّل لك العطف والبرّ فانظر الى ما كان يعمله في (عين زياد) وهي ضيعة كانت له حول المدينة فيها نخل كثير، فإن بعض أصحابه طلب منه أن يذكر لهم ذلك.
قال عليه السلام: كنت آمر اذا أدركت الثمرة أن يثلم في حيطانها الثلم ليدخل الناس ويأكلوا، وكنت آمر في كلّ يوم أن يوضع عشر ثبنات(4) يقعد على كلّ ثبنة عشرة، كلّما أكل عشرة جاء عشرة اُخرى، يلقى لكلّ منهم مُد من



_______________

(1) الكافي: 2/203/15.
(2) الكافي: 2/203/18.
(3) كشف الغمّة، في أحوال الصادق عليه السلام: 2/205.
(4) جمع ثبنة بالضم وهي الموضع الذي تحمل فيه من ثوبك تثنيه بين يديك ثم تحمل فيه من التمر أو غيره.




[ 225 ]



رطب، وكنت آمر لجيران الضيعة كلّهم الشيخ والعجوز والصبي والمريض والمرأة ومن لا يقدر أن يجيء فيأكل منها، لكلّ إِنسان مُد، فاذا كان الجداد(1) وفيت القوام والوكلاء والرجال اُجرتهم، وأحمل الباقي الى المدينة، ففرّقت في أهل البيوتات والمستحقّين الراحلتين والثلاث والأقلّ والأكثر على قدر استحقاقهم، وحصل لي بعد ذلك ألف دينار، وكان غلّتها أربعة آلاف دينار(2).
وهذا الإنفاق وإِن بلغ ثلاثة آلاف دينار لا يستكثر على سماحة أهل البيت، وإِنما الجميل فيه اهتمامه في صلة المعوزين ومواصلة البرّ لهم.
وإِن الأفضل في الأخلاق ما يحكيه عن نفسه بقوله: إِنه ليعرض لي صاحب الحاجة فاُبادر الى قضائها مخافة أن يستغني عنها صاحبها(3).
هذه بعض أخلاقه العالية التي تمثّل لك البرّ والعاطفة وتجسّم لك الحنان والرأفة، فكأنما الناس كلّهم عياله وإِخوانه وآله، ولا بِدع فذلك شأن الإمام في الاُمّة.



_______________

(1) بالمهملتين والمعجمتين: قطع التمر.
(2) بحار الأنوار: 47/51/83.
(3) المجلس /31 من أمالي الطوسي طاب ثراه.




</h5>


توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس
قديم 2015/02/22, 08:09 AM   #4
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي

يتبع****

سخاؤه


إِن السخاء وإِن كان خلّة كريمة في نفسه، وفائدة لمن يحبى بالعطاء، إِلا أن فيه عدا هذا فوائد اُخرى اجتماعيّة ملموسة، إِن الكريم يحمل الناس على حُبّ الكريم، والحبّ داعية الائتلاف، بل ربما كان الحبّ سُلَّماً لرياسة ذي الجود والإصغاء لقوله، وكم تكون من جدوى زعامة المرء واستماع كلامه اذا كان من أهل الصلاح والخير.




[ 226 ]



وهو القائل للمعلّى بن خنيس: يا معلّى تحبّب الى إِخوانك بصلتهم، فان اللّه تعالى جعل العطاء محبّة والمنع مبغضة، فأنتم واللّه إِن تسألوني واعطيكم أحبّ إِليَّ من ألا تسألوني فلا اعطيكم فتبغضوني(1).
فكان الصادق عليه السلام يعطي العطاء الجزيل، العطاء الذي لا يخاف صاحبه الفقر، وقد سبق في الأخلاق بعض هباته، كما سيأتي الوفر من صِلاته.
وقد أعطى مرَّة فقيراً أربعمائة درهم فأخذهما وذهب شاكراً، فقال لعبده: ارجعه، فقال: يا سيّدي سُئلت فأعطيت فما ذا بعد العطاء ؟ فقال له: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: خير الصدقة ما أبقت غنى وإِنّا لم نغنك، فخذ هذا الخاتم فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهم فإذا احتجت فبعه بهذه القيمة(2).
أحسب أن الصادق عليه السلام إِنّما زاده للشكر، والشكر داعية المزيد يقول تعالى: «ولئن شكرتم لأزيدنكم» ولقد زاد سائلاً من ثلاث حبّات عنب الى كفّين الى نحو من عشرين درهماً الى قميص، وما ذاك إِلا لأن السائل قنع في الاُولى وحمد اللّه تعالى وما كفَّ عن عطائه إِلا بعد أن كفّ عن الحمد ودعا للصادق عليه السلام(3).
ودخل عليه أشجع السلمي(4) فوجده عليلاً فجلس وسأل عن علّة مزاجه، فقال الصادق له: تَعَدّ عن العلّة واذكر ما جئت له، فقال:
ألبسك اللّه منه عافية***في نومك المعتري وفي أرقك



_______________

(1) المجلس /11 من أمالي الطوسي طاب ثراه.
(2) بحار الأنوار: 47/61.
(3) نفس المصدر.
(4) هو من الشعراء المجيدين والمجاهرين بالولاء والحبّ لأهل البيت، ترجم له في الأغاني: 17/30 وأعيان الشيعة: 13/346.




[ 227 ]



يخرج من جسمك السقام كما***أخرج ذلّ السؤال من عنقك
فقال: يا غلام أيّ شيء معك، قال: أربعمائة، قال: اعطها لأشجع(1) ودخل عليه المفضّل بن قيس بن رمّانة، وكان من رواته الثقات وأصحابه الأخيار فشكا اليه بعض حاله وسأله الدعاء، فقال: يا جارية هاتي الكيس الذي وصلنا به أبو جعفر، فجاءت بكيس، فقال: هذا كيس فيه أربعمائة دينار فاستعن به، فقال له: لا واللّه جُعلت فداك ما أردت هذا ولكن أردت الدعاء، فقال له: ولا أدَع الدعاء، ولكن لا تخبر الناس بكلّ ما أنت فيه فتهون عليهم(2).
وهذه بعض نفحاته الجزيلة، وما ذكرناها إِلا مثالاً لذلك الخلق السامي وتدليلاً على تخلقه بهذه الخلّة الحميدة، ولا نريد أن نذكر له كلّ نفحة طيّبة وبما مضى ويأتي كفاية.



_______________

(1) مناقب ابن شهراشوب: 4/274.
(2) الكشي: ص 121.



هباته السرّية


إِن الصلة وإِن كانت من الأب أو ممّن هو أرفق منه كالإمام قد تحدث في القابل انكساراً وذلّة، لأنها تنبّئ عن تفضّل المعطي وحاجة الآخذ، والحاجة نقص، والشعور به يحدث الإنكسار في النفس.
وقد تحدث في المعطي هزّة الإفضال، وتبجّج المتفضّل، هذا سوى ما قد يكون للعطيّة في بعض النفوس من حُبّ الذكر والفخر والسمعة أو الرياء أو ما سوى ذلك ممّا تكرم عنه النفوس النزيهة النقيّة.




[ 228 ]



فلهذا أو لغيره كان دأب أرباب الأخلاق الفاضلة التكتُّم في الصلة وشأن أهل البيت خاصّة التستّر في صِلاتهم، فلا تكاد تمرّ عليك سيرة إِمام منهم إِلا وتجد فيها تَرقّبه للغلس ليتّخذه ستراً في الهبات والصّلات.
فلا أرى ذلك الإصرار على الإسرار إِلا لأنّهم لا يريدون أن يشاهدوا على الآخذ ذلّة الحاجة والخضوع للمتفضّل المحسن، وإِنهم أزكى نفساً وأعلى شأناً من أن يخافوا الفتنة في الإعلان.
ومن ثمّ تجد الصادق اذا جاء الغلس أخذ جراباً فيه الخبز واللحم والدراهم فيحمله على عاتق، ثمّ يذهب الى أهل الحاجة من أهل المدينة فيقسّمه فيهم وهم لا يعرفونه، وما عَلموا ذلك حتّى مضى لربّه فافتقدوا تلك الصِلات، فعلموا أنها كانت من أبي عبد اللّه عليه السّلام(1).
وهذه السيرة دَرَج عليها آباؤه من قبل، ونهج عليها بنوه من بعد.
وما كانت سيرته تلك مع أهل المدينة خاصّة بل يعمل ذلك حتّى مع الهاشميّين، فإنه كان يتعاهدهم بالصِلة ويتخفّى في نسبتها اليه، وكان يرسل اليهم بصرر الدنانير ويقول للرسول: قل لهم إِنها بُعث بها من العراق، ثمّ يسأل الرسول بعد عودته عمّا قالوه فيقول: إِنهم يقولون: أمّا أنت فجزاك اللّه خيراً بصلتك قرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأمّا جعفر فحَكم اللّه بيننا وبينه فيخرّ أبو عبد اللّه عليه السلام ساجداً ويقول اللّهمّ أذل رقبتني لوُلد أبي(2).
وأعطى يوماً صرَّة لأبي جعفر الخثعمي(3) وأمره بأن يدفعها الى رجل من بني هاشم وأمره بكتمان الأمر، فلمّا أوصله بالصرَّة قال: جزاه اللّه خيراً ما يزال



_______________

(1) بحار الأنوار: 47/38/40.
(2) نفس المصدر.
(3) وهو محمّد بن حكيم من أصحاب الصادق ورواته، وروى عنه الثقات وأصحاب الاجماع.




[ 229 ]



كلّ حين يبعث بها فنعيش بها الى قابل، ولكنّي لا يصلني جعفر بدرهم مع كثرة ماله(1).
وكان لا يترك صِلاته حتّى لقاطعيه منهم، وحتّى ساعة الاحتضار، فإنه حين دنا أجله وكان في سكرات الموت أمر بإجراء العطاء، وأمر للحسن بن عليّ الأفطس(2) بسبعين ديناراً فقيل له: أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة ليقتلك ؟ فقال عليه السّلام: وَيحَكم أما تقرأون: «والذين يَصِلون ما أمر اللّه به أن يوصل ويخشون ربّهم ويخافون سوء الحساب»(3). إِن اللّه خلق الجنّة فطيَّبها وطيَّب ريحها ليوجد من مسيرة ألفي عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم(4).
هذه نفحات من هباته السرّيّة، وصِلاته الخفيّة، التي تمثّل لك الرحمة والرأفة.



_______________

(1) مناقب ابن شهراشوب: 4/273.
(2) هو الحسن بن علي الأصغر بن علي بن الحسين عليهما السلام وخرج مع محمّد بن عبد اللّه وكانت بيده راية بيضاء وابلى، ويقال: إِنه لم يخرج معه أشجع منه ولا أصبر وكان يقال له رمح آل أبي طالب لطُوله وطَوله ولما قتل محمّد اختفى الحسن هذا، وحين دخل الصادق العراق ولقي أبا جعفر تشفّع به فشفعه، ومع هذه الصنيعة وتلك الصلات حمل عليه بالشفرة.
(3) الرعد: 21.
(4) غيبة الشيخ الطوسي طاب ثراه، والمناقب: 4/273.


حلمُه


وكان التجاوز عليه يأتيه من القريب والبعيد، فلا يقابله إِلا بالصفح بل ربما قابله بالبّر والإحسان.
وقد مرَّ عليك شطر منه في العنوان الماضي وكثير في حياته السياسيّة في محنه وسيأتي في أبواب كثيرة، ونحن نورد لك الآن بعض ما ينبيك عن هذا الخلق




[ 230 ]



الكريم.
فكان اذا بلغه نيل منه ووقيعة وشتم يقوم فيتهيّأ للصلاة فيصلّي ثمّ يدعو طويلاً ملحّاً في الدعاء سائلاً ربّه ألا يؤاخذ ذلك الجاني بظلمه ولا يقايسه على ما جنى، لأن الحقّ حقّه، وقد وهبه للجاني غافراً له ظلمه(1).
بل يزيد على ذلك في ذوي رحمه فيقول: إِني لا حبّ أن يعلم اللّه أني أذللت رقبتي في رحمي، وأني لاُبادر أهل بيتي أصلهم قبل أن يستغنوا عني(2).
إِن الحوادث محكّ، وبها تعرف مقادير الرجال، وبها تبلى السرائر ومن ثمّ تعرف الفرق بين أبي عبد اللّه وبين ذوي قرابته، فكان يجفوه أحدهم، بل ينال منه الآخر شتماً ونبزاً، بل يحمل عليه الثالث بالشفرة عامداً على قتله، وليس هناك ما يدعوهم الى تلك الجفوة والقسوة والقطيعة فيعاملهم على عكس ما فعلوه معه، فتراه واصلاً بدل القطيعة، وبارّاً عوض الجفاء، وعاطفاً بدل القسوة.
لقد أحزنته تلك النكبات التي أوقعها المنصور ببني الحسن حتّى لقد بكى وظهر عليه الجزع والاستياء بل حُمَّ أياماً حين حمل المنصور شيوخ بني الحسن ورجالهم من المدينة الى الكوفة، وهم قد لاقوه بسيئ القول بالابواء يوم أرادوا البيعة لمحمّد، وما زال محمّد وأبوه عبد اللّه يلاقيانه بالقول السيئ زعماً منهما أنه كان حجر عثرة في سبيل البيعة لمحمّد، ولمّا أن ظهر محمّد بالمدينة أرسل على الصادق يريد منه البيعة، وحين امتنع عليه قابله بسوء القول والفعل، وكم تجرّع غصصاً من بني العبّاس ورجالهم، ولو لم يكن قادراً على شيء ينتقم به منهم إِلا الدعاء لكفى به سلاحاً ماضياً.



_______________

(1) مشكاة الأنوار: 217.
(2) الكافي: 2/156/25.




[ 231 ]



وما كان الحلم شعاره مع الأقربين من أهله فحسب، بل كان مع مواليه وسائر الناس، فقد بعث غلاماً له في حاجة فأبطأ فخرج على أثره فوجده نائماً فجلس عند رأسه يروّح له حتّى انتبه، فلمّا انتبه لم يكن منه معه إِلا أن قال: يا فلان ما ذلك لك تنام الليل والنهار، لك الليل ولنا منك النهار(1).
وبعث مرّة غلاماً له أعجميّاً في حاجة ثمّ جاء الغلام فاستفهم الصادق عليه السلام الجواب والغلام يعني عن إفهامه، حتّى تردّد ذلك منه مراراً والغلام لا ينطق لسانه ولا يستطيع إفهامه، فبدلاً من أن يغضب عليه أحدَّ النظر اليه وقال: لئن كنت عيّ اللسان فما أنت بعيي القلب، ثمّ قال عليه السلام: إِن الحياء والعفاف والعي - عيّ اللسان لا عيّ القلب - من الإيمان، والفحش والبذاءة والسلاطة(2) من النفاق(3).
ونهى أهل بيته عن الصعود فوق البيت فدخل يوماً فإذا جارية من جواريه ممّن تربّي بعض وُلدِه قد صعدت في سلّم والصبيّ معها، فلما بصرت به ارتعدت وتحيّرت وسقط الصبيّ الى الأرض فمات، فخرج الصادق وهو متغيّر اللون فسئل عن ذلك فقال: ما تغيّر لوني لموت الصبي وإِنما تغيّر لوني لِما أدخلتُ على الجارية من الرعب، وكان قد قال لها: أنتِ حُرَّة لوجه اللّه لا بأس عليك، مرّتين(4).
وما كان هذا رأيه مع أهله وغلمانه فحسب بل كان ذلك شأنه مع الناس كافّة، فإنَّه نام رجل من الحاجّ في المدينة فتوهّم أن هميانه سُرِق فخرج فرأى



_______________

(1) الكافي: 8/87.
(2) طول اللسان.
(3) بحار الأنوار: 47/61.
(4) المناقب: 4/275.




[ 232 ]



الصادق مُصلّياً ولم يعرفه فتعلّق به وقال: أنت أخذت همياني، قال: ما كان فيه ؟ قال: ألف دينار، فحمله الى داره ووزن له ألف دينار، وعادَ الرجل الى منزله ووجد هميانه، فعادَ الى الصادق معتذراً بالمال، فأبى قبوله، وقال: شيء خرج من يدي لا يعود إِليّ، فسأل الرجل عنه، فقيل: هذا جعفر الصادق، قال: لاجرم هذا فعال مثله(1).
بل دأب على هذه الخِلّة حتى مع ألدّ أعدائه، فإنّه لمّا سرّحه المنصور من الحيرة خرج ساعة أذِن له وانتهى الى موضع السالحين في أوَّل الليل فقال له: لا أدعك أن تجوز فألّح عليه وطلب اليه فأبى إِباءً شديداً وكان معه من أصحابه مرازم(2) ومن مواليه مصادف(3) فقال له مصادف: جُعلت فداك إِنما هذا كلب قد آذاك، وأخاف أن يردك، وما أدري ما يكون من أمر أبي جعفر، وأنا ومرازم أتأذن لنا أن نضرب عنقه ثمّ نطرحه في النهر، فقال: كيف يا مصادف، فلم يزل يطلب اليه حتّى ذهب من الليل اكثره، فأذن له فمضى، فقال: يا مرازم هذا خير أم الذي قلتما ؟ قلت: هذا جعلت فداك، فقال: يا مرازم إِن الرجل يخرج من الذلّ الصغير ذلك في الذلّ الكبير(4).
أقول: لعلّه عَنى من الذلّ الكبير القتل، والذلّ الصغير الطلب، والخطاب خطاب إِنكار.
هذا بعض ما كان منه ممّا دلّك على ذلك الحلم العظيم، الذي كان يلاقي به تلك الاعتداءات والمخالفات لقوله ولأمره.



_______________

(1) المناقب: 4/274.
(2) سيأتي في المشاهير من ثقات رواته.
(3) سيأتي في مواليه.
(4) روضة الكافي: 8/87/49.




عطفه


إِن الإمام لا يعرف فرقاً في البِرّ والعطف بين الناس، فالناس قريبهم وبعيدهم لديه شرع سواء، وما كلّ من ينيلهم بذلك البِرّ والصِلة في جوف الليل، ويسعفهم من التمر من عين زياد، ممّن يرى إِمامته وولاءه، فالمسلمون كلّهم - لو استطاع - مغرس برّه، ومنال عطفه.
فمن بوادر عطفه ما كان منه مع مصادف مولاه، فإِنه دعاه فأعطاه ألف دينار، وقال له: تجهّز حتّى تخرج الى مصر فإن عيالي قد كثروا فتجهَّز بمتاع وخرج مع التجّار الى مصر، فلمّا دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر، فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة، وكان متاع العامّة، فأخبروهم أن ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا على ألا ينقصوا من ربح دينار ديناراً، فلمّا قبضوا أموالهم انصرفوا الى المدينة، فدخل مصادف على أبي عبد اللّه عليه السّلام ومعه كيسان في كلّ واحد ألف دينار، فقال: جعلت فداك هذا رأس المال وهذا الآخر ربح، فقال عليه السّلام: إِن هذا الربح كثير، ولكن ما صنعتم في المتاع، فحدَّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا، فقال: سبحان اللّه تحلفون على قوم مسلمين ألا تبيعوهم إِلا بربح الدينار ديناراً، ثمّ أخذ أحد الكيسين، فقال: هذا رأس مالي، ولا حاجة لنا في الربح، ثمّ قال: يا مصادف مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال(1).
أقول: إِن هذا الربح الذي أخذه مصادف ما كان حراماً حسب القواعد الشرعيّة، ولكن الصادق عليه السلام لا يريد من الناس إِلا الإرفاق من بعضهم



_______________

(1) بحار الأنوار: 47/59/111.




[ 234 ]



ببعض، شأن الاخوة المتحابّين لا سيّما ساعة العسرة، وكان ذلك التحالف والتعاقد على خلاف ما تدعو اليه المروّة، وذلك الربح على غير ما يتطلّبه الإرفاق، ومن ثمّ استنكر الصادق هذا العمل حتّى عدَّ الربح بهذا الوجه غير حلال فسمّاه حراماً على نحو المجاز، وكان ذلك تعليماً منه لمصادف ومن سمع منه من أوليائه.
وتشاجر أبو حنيفة سائق الحاجّ(1) مع ختنه(2) فيه ميراث فمرّ عليهما المفضّل بن عمر، وكان وكيلاً للصادق عليه السلام في الكوفة، وبعد ساعة من وقوفه عليهما أمرهما بالمجيء معه الى الدار وأصلح أمرهما بأربعمائة درهم ودفعها من عنده، وبعد استيثاق كلّ واحد من صاحبه قال لهما: أما أنها ليست من مالي، ولكن أبو عبد اللّه عليه السلام أمرني اذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن أصلح بينهما وافتديهم من ماله، فهذا مال أبي عبد اللّه عليه السلام(3).
أجل ما أفضل إِصلاح ذات البيت، ولكن الأفضل فيه أن يفتدي المصلح من ماله، وهذه هي العاطفة حقاً التي تريك الرأفة والرحمة ملموستين.
وما كان حاله مع الغلامين والجارية فيما سبق في الحلم حلماً فحسب، بل حلم وعطف، فإنه لم يقنع بأن يصفح عمّا كان منهم دون أن يعطف على الأول فيروّح له، وهو إِمام الاُمّة، ويمدح الثاني بأنه غير عيي القلب، ويهب للجارية جرمها، وما اكبره، بل يزيد في الإحسان لها أن يحرّرها من رقّ العبوديّة.
وما أوفر عطفه فكم دعا لسجين بإطلاق سراحه كما في دعائه لسدير وعبد الرحمن وهما من أصحابه وكانا في السجن، وعلّم اُمّ داود الحسني، وكان في



_______________

(1) واسمه سعيد بن بيان وكان من أصحاب الصادق وثقات رواته.
(2) الختن - بالتحريك - الصهر.
(3) الكافي: 2/209/4.




[ 235 ]



سجن المنصور مع بني الحسن، دعاءً وعملاً وصوماً في الأيام البيض من رجب، فعملت ما قال فاطلق سراحه وما زال العمل يُعرف الى اليوم بعمل اُمّ داود، الى كثير سواهم.
وكم دعا لمريض بالعافية فعوفي، كما في دعائه لحبابة الوالبيّة وكانت من النساء الفاضلات، وليونس بن عمّار الصيرفي وهو من رجال الصادق الثقات، ولرجل عرض له وقد سُئل له الدعاء، ولامرأة بها وضح في عضدها، ولرجل جاءه في البيت متعوّذاً وبه بلاء شديد، الى غير هؤلاء.
وكم دعا لناس بسعة الحال فأصابوا الدعوة، كما في طرخان النخاس وحمّاد بن عيسى وغيرهما، وسنذكر ذلك في استجابة دعائه.
ولا غرابة أن يكون أبو عبد اللّه عليه السلام على تلك العاطفة النبيلة، وما هي إِلا بعض ما يجب أن يستشعره.


جَلده


إِن من يلمس في أبي عبد اللّه عليه السلام تلك العاطفة الرقيقة التي تدر دمعته وتذكي النار في قلبه رحمة، وتختطف الدم من وجهه، يستغرب كيف يكون له الجَلد الذي لا توازنه الجبال الشمّ في احتماله.
كان ابنه إسماعيل اكبر أولاده، وهو ممّن جمع الفضيلة والعقل والعبادة فكان الصادق عليه السلام يحبّه حبّاً شديداً، حتّى حسب بعض الناس أن الامامة فيه بعد أبيه، فلمّا مات وكان الصادق عند مرضه حزيناً عليه جمع أصحابه وقدَّم لهم المائدة وجعل فيها أفخر الأطعمة وأطيب الألوان، ودعاهم الى الأكل وحثَّهم عليه لا يرون للحزن أثراً عليه، وكانوا يحسبون أنه سيجزع ويبكي ويتأثّر ويتألّم، فسألوه عن ذلك فقال لهم: وما لي لا اكون كما ترون




[ 236 ]



وقد جاء في خبر أصدق الصادقين: إِني ميّت وإِيّاكم.
ومات ابن له من غُصَّة اعترته وهو يمشي بين يديه فبكى وقال: لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت، ثمّ حمله الى النساء فصرخن حين رأينه، فأقسم عليهنّ ألا يصرخن، ثمّ أخرجه الى الدفن وهو يقول: سبحان من يقتل أولادنا ولا نزداد له إِلا حبّاً، ويقول بعد الدفن: إِنّا قوم نسأل اللّه ما نحبّ فيمن نحبّ فيعطينا، فاذا أحبّ ما نكره فيمن نحبّ رضينا(1).
لا أدري من أيّها يعجب المرء أمِن جَلد أبي عبد اللّه عليه السلام على هذه المفاجأة المشجية، أم من هذا الشكر المتوالي على مثل هذه النوائب المؤلمة، أم من ذلك الحبّ للخالق على كلّ حال، والرضى بما يصنع في كلّ أمر، أم من تلك البلاغة والفصاحة وتدافع الحِكم البليغة ومطاوعتها له ساعة الدهشة والذهول ؟ أجل لولا هذه الملكات القدسيّة، والأحوال المتضادّة في شخصيّة أبي عبد اللّه عليه السلام لم تكن الشخصية الوحيدة في خصالها وصفاتها.
وكفى إِكباراً لجَلده سقوط الولد من يد الجارية وموته، وتغيّر لونه لفزع الجارية وارتهابها، ولم يظهر عليه الحزن والجزع لهذه المفاجأة بموت الصبي على هذه الصور المشجية.
وما زال يشاهد الآلام والنوائب والمكاره طيلة أيامه من الدولتين ولم يعرف التاريخ عنه تطامناً وخضوعاً وجزعاً وذهولاً بل ما زال يظهر عليه الصبر والجَلد وتوطين النفس.



_______________

(1) بحار الأنوار: 47/18/8.


هيبته


قد تكون الهيبة للرجال العِظام من تلك الكبرياء التي يرتديها المرء نفسه،




[ 237 ]



أو من الذين حوله من خدم وأهل وقبيلة، أو جند ودولة، وهذه الهيبة لا تختصّ بقوم، فإن كلّ من تلبّس بأحد هذه الشؤون اكتسى هذه الهيبة، وهذه الهيبة جديرة بأن تسمّى الهيبة المصطنعة.
وقد تكون للمرء من دون أن يُحاط بجيش وخدم وعشيرة ودولة وإِمرة وكبرياء، تلك الهيبة التي لا تكون باللباس المستعار، بل هي التي يفيضها اللّه تعالى على من يشاء من عباده، تلك الهيبة التي لا يزيلها التواضع وحسن الخُلق والانبساط، تلك التي يلبسها العلم والعمل به، من أراد عِزَّاً بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطان، فليخرج من ذلّ معصية اللّه الى عِزّ طاعته، وإِن مَن خاف اللّه أخاف منه كلّ شيء، ومن لم يخف اللّه أخافه من كلّ شيء، وهذه الهيبة جديرة بأن تسمّى الهيبة الذاتيّة.
إِن المنصور كان صاحب تلك الهيبة المصطنعة، ومن أوسع منه مُلكاً، وأكثر جنداً، وأقوى فتكاً ؟ ولكنه كان اذا نظر الى جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام وهو عازم على قتله هابه وانثنى عن عزمه.
يقول المفضّل بن عمر: إِن المنصور قد همّ بقتل أبي عبد اللّه عليه السلام غير مرّةً فكان اذا بعث اليه ودعاه ليقتله فاذا نظر اليه هابه ولم يقتله(1)
ولا تختلف هذه الهيبة لأبي عبد اللّه عليه السلام باختلاف الناس معه فإن كلّ واحد يشعر من نفسه بتلك الهيبة له، سواء الوليّ والعدوّ، والمؤالف والمخالف، فهذا هشام بن الحكم كان جهميّاً قبل أن يقول بالإمامة، ولمّا التقى بالصادق عليه السلام في صحراء الحيرة سكت وأطرق هيبةً وإِجلالاً وهو اللّسن المفوّه، فأحسّ أن هذه الهيبة هي الهيبة التي يجلّل اللّه بها أنبياءه وأوصياءهم



_______________

(1) مناقب ابن شهراشوب: 4/238.




[ 238 ]



عليهم السلام(1).
وهذه الهيبة التي أحسّها هشام يوم كان جهميّاً كان يحسّها يوم كان إِماميّاً وكانت بين هشام وبين عمرو بن عبيد مناظرة في الإمامة، وقد قصد هشام عَمراً الى البصرة، فسأله الإمام عمّا كان بينهما ليحكي له ما كان، فقال هشام: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِني أجلّك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك(2).
وهذا ابن أبي العوجاء مع إِلحاده كان أحياناً يحجم عن مناظرة الصادق عليه السلام لتلك الهيبة، فإنه حضر يوماً لمناظرة الصادق ولكنه بعد أن جلس سكت، فقال له الصادق: فما يمنعك من الكلام ؟ قال: إِجلال لك ومهابة، ما ينطق لساني بين يديك، فإني شاهدت العلماء، وناظرت المتكلّمين فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك(3).
على أن الصادق عليه السلام كان بين أصحابه وجلسائه كواحد منهم لا يتظاهر بالعظمة وحشمة الإمامة، وينبسط لهم بالكلام، ويجلس معهم على المائدة، ويؤنسهم بالحديث، ويحثّهم على زيادة الأكل، لئلا تمنعهم الهيبة من الانبساط على المائدة واكل ما يشتهونه، غير أن تلك الهيبة التي كانت شعاره من الهيبة الذاتيّة التي تمنع العيون من ملاحظته والألسنة من الانطلاق بين يديه ولم يكن محاطاً بخدم ولا حجاب.



_______________

(1) رجال الكشي: ص 166.
(2) الكافي: 1/169/3.
(3) كتاب التوحيد: باب إِثبات حدوث العالم.




توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس
قديم 2015/02/22, 08:12 AM   #5
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي

عبادته


إِن المفهوم من العبادة عند إِطلاق هذه الكلمة، هو العبادة البدنيّة من الصوم والصلاة والحجّ وما سواها، ممّا يحتاج الى نيّة القربة، وكان الصادق عليه السلام في هذه العبادات زين العبّاد.
وهذا السبط في التذكرة يقول: قال علماء السير: قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرياسة، وابن طلحة في المطالب يقول: ذو علوم جمّة وعبادة موفرة وأوراد متواصلة، ويقول: ويقسّم أوقاته على أنواع الطاعات، وهذا أبو نعيم في الحلّية يقول: أقبل على العبادة والخضوع، وآثر العزلة والخشوع ولها عن الرياسة والجموع، ومالك بن أنس يقول: كان جعفر بن محمّد لا يخلو من إِحدى ثلاث خصال: إِمّا صائماً، وإِمّا قائماً، وإِمّا ذاكراً، وكان من عظماء العبّاد، واكابر الزهّاد، الذين يخشون اللّه عزّ وجل، ولقد حججت معه سنة فلمّا استوت به راحلته عند الإحرام كان كلّما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد أن يخرّ من راحلته، وقال: ما رأت عين ولا سمعت اُذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق عِلماً وعبادةً وورعاً، الى سوى هؤلاء ممّن ذكره بالعبادة، وقد مرّت عليك هذه الكلمات وغيرها من ص 72 الى 80.
ولا بدعَ اذا كان أبو عبد اللّه أفضل الناس عبادةً وزهادةً وورعاً، فإن عبادة المرء على قدر علمه بالخالق تعالى «إِنما يخشى اللّهَ من عباده العلماء» وأنت على يقين بما كان عليه الصادق من العلم والمعرفة.
هذا شأن الصادق عليه السلام في العبادة البدنيّة، وأمّا شأنه في العبادة الفضلى التي هي أزكى أثراً، وأذكى نشراً، وهي عبادة العلم ونشره وتعليمه والإرشاد والإصلاح، فلا يخفى على أحد، وقد عرفت من حياته العلميّة ومن




[ 240 ]



الفصول الماضية من سيرته وأخلاقه قدر جهاده في التعليم والتثقيف وجهوده في البِرّ والعطف والتربية الأخلاقيّة، وستعرف في المختار من كلامه عظيم اهتمامه في حمل الناس على جدد الطريق، والعمل بالشريعة الغرّاء، والاتّصاف بفاضل الأخلاق.


شجاعته


لم تكن في أيام الصادق عليه السلام حروب يحتم الدين عليه الولوج في ميادينها ليعرف الناس عنه تلك الملكة النفسيّة، نعم إِن هناك ظواهر تدلّ على تلك القوى الراسخة، أمثال قوّة القلب واطمئنان الجأش، ومرَّ عليك في مواقفه مع المنصور وولاته من ص 114 - 122، وفي جَلده ما ينبيك عن تلك القوى الغريزيّة، والجُبن إِنما يكون من ضعف القلب وضعة النفس.
ومن ثمّ يجب أن يكون المؤمن شجاعاً غير هيّاب ولا نكل في سبيل الدين والحق، وكلّما كان أقوى إِيماناً كان أبسل وأشجع ولذلك تجد أنصار الحسين عليه السلام وأهل بيته أبهروا العالم في موقفهم يوم الطف، وما كانوا أشجع الناس لولا ذلك الإيمان الثابت واليقين الراسخ والتوطين على معانقة الرماح والسيوف، ولو كان أهل الكوفة على مثل ذلك اليقين والتوطين والإيمان لما استقامت الحرب الى ما بعد الظهر في ذلك اليوم القايض وهم سبعون ألفاً والأنصار سبعون نفراً، ولما كان قتلى أهل الكوفة لا يحصون عدّاً.
ومن ههنا يستبين لنا أن الصادق لا بدّ أن يكون أشجع الناس وأربطهم جأشاً اذا دارت رحى الحرب، الحرب التي يفرضها الدين وتدعو اليها الشريعة.




زهده


إِن الزهد في الشيء الإعراض عنه، وإِنما يكون للزهد شأن يكسب الزاهد فضلاً اذا كان المزهود فيه ذا قيمة وثمن كبير، وأمّا اذا كان المزهود فيه بخساً لا شأن له يحتسب، ولا قدر يعرف فلا فضل في الزهد فيه، أترى أن الزهد في الشابّة النضرة الخلوق التي جمعت ضروب المحاسن والجمال وفنون الآداب والكمال، مثل الزهد في الشوهاء السوداء العجوز؟ ولا سواء.
فإنما يكون الزهد في الدنيا والإعراض عن لذائذها وشهواتها ذا شأن يزيد المرء قدراً ورفعة، ويكشف عن نفس زكيّة نقيّة، إِذا نظرها فوجدها حسناء فاتنة الشمائل، فولاها ظهره معرضاً عن جمالها، صافحاً عن محاسنها طالباً بهذا الإعراض ما هو أفضل عند اللّه وأطيب، وأمّا اذا تجلّت لديه سافرة النقاب مجرَّدة الثياب، واختبرها معاشرة وصحبة، فرآها شوهاء عجفاء، بارزة العيوب، قبيحة المنظر، سيّئة المخبر والمعشر، لا تفي بوعد، ولا تركن الى عهد، ولا تصدق بقول، ولا تدوم على حال، ولا يسلم منها صديق، فكيف لا يقلاها ساخطاً عليها متوحّشاً منها، وكيف لا ينظرها بمؤخّر عينيه نظر المحتقر الملول.
وإِننا على قصر نظرنا، وقرب غورنا، لنعرف حقّاً أن حياتنا هذه وإِن طالت صائرة الى فناء، وعيشنا وإِن طاب آيل الى نكَد، وإِننا سوف ننتقل من هذه الدار البائدة الى تلك الدار الخالدة، ومن هذا العيش الوبيل الى ذلك العيش الرغيد، وإِن كلّ لذَّة في هذه الحياة محفوفة بالمكاره، وكلّ عيش مشوب بالكدر، وإِن هذه الأيام الزائلة مزرعة لهاتيك الأيام الباقية، وهل يحصد المرء غير ما يرزع، ويجازى بغير ما يفعل، وهل يجمل بالعاقل البصير أن يفتن بمثل هذه الحياة واللذائذ ؟.




[ 242 ]



نعم إِنما يحملنا على الافتتان بهذه العاجلة والصفح عن تلك الحياة الآجلة مع فناء هذه وبقاء تلك، اُمور لا يجهلها البصير وإِن لم تكن عذراً عند مناقشة الحساب، ألا وهي حُبّ العاجل، وضعف النفس، ونضارة هذه المناظر والزينة اللتين نصبتهما الدنيا فخاخاً وحبائل، ولو شاء الانسان - وإِن كان أضعف الناس بصراً وبصيرة - أن ينجو من هذه الشباك لكان في مقدوره، فكيف بأقوى الناس عقلاً وأثبتهم يقيناً، وأدراهم بالحقائق، حتّى كأنّ الأشياء لديه مكشوفة الغطاء بل لو كشف لهم الغطاء لما ازدادوا يقيناً.
فإعراض محمّد وآل محمّد عليه وعليهم الصلاة والسلام عن هذه الحياة الدانية ورغائده إِلا بقدر البلغة لتلك الحياة الباقية، إِنما هو لأنهم يرونها أخصّ من حثالة القرظ وأنجس من قراضة الجلم(1) فما كانوا عليه شيء غير الزهد، بل هو أعلى من الزهد، غير أن ضيق المجال في البيان يلجؤنا الى تسميته بالزهد، تنظيراً له بما نعرفه من نفائس هذا الوجود ومن الإعراض عنها.
فلا نستكبر بعد أن نعرف هذا عن محمّد وعترته ما يرويه أهل الحديث والسيرة والتأريخ عن صادقهم أنه كان يلبس الجبّة الغليظة القصيرة من الصوف على جسده والحلّة من الخزّ على ثيابه، ويقول: نلبس الجبّة للّه والخزّ لكم(2).
أو يُرى وعليه قميص غليظ خشن تحت ثيابه، وفوقه جبَّة صوف، وفوقها قميص غليظ.
أو يُطعم ضيفه اللحم ينتفه بيده، وهو يأكل الخلّ والزيت ويقول: إِن هذا



_______________

(1) القرظ: ورق السلم، والجلم: ما يجزّ به.
(2) لواقح الأنوار للشعراني عبد الوهاب بن أحمد الشافعي: 1/28، ومطالب السؤل.




[ 243 ]



طعامنا وطعام الأنبياء(1) الى أمثال ذلك من مظاهر الزهد.
إِن من قبض عنان نفسه بيده وتجرّد عن هذه الفتن الخدّاعة في هذه الحياة، واتجه بكلّ جوارحه لرضى خالقه يستكثر منه اذا روت الثقات عنه هذا وأشباهه.
وما كان غريباً ما يُروى من دخول سفيان الثوري(2) عليه، وكان على الصادق عليه السلام جبَّة من خز، وقول سفيان منكراً عليه: إِنكم من بيت نبوَّة تلبسون هذا، وقول الصادق عليه السلام: ما تدري أدخِل يدك، فاذا تحته مسح من شعر خشن، ثمّ قال عليه السلام: يا ثوري أرني ما تحت جبّتك، فإذا تحتها قميص أرقّ من بياض البيض، فيخجل سفيان ثمّ يقول له الصادق عليه السلام: يا ثوري لا تكثر الدخول علينا تضرّنا ونضرّك(3).
وأمثال هذا ممّا روي عنه جمّ كثير، نحن في غنى عن سرده، فإنَّ سادات أهل البيت أعلى كعباً، وأرفع شأناً، من أن تحسب مثل هذه الشؤون فضائلهم الجليلة.
وأمّا سفيان فجدير بالامام ألا يرغب في دنوّه مادام يخالفه في رأيه وسيره وعمله وعلمه، وأمّا الضرر على الامام وعليه من دخوله على الامام، فلأن السلطان قد وقف للإمام بالمرصاد، لا يريد أن يظهر له شأن ولا أن يكثر عليه التردّد، فالدخول عليه يجعل الإمام معرّضاً للخطر، ويجعل الداخل معرّضاً للأذى، لا سيّما اذا كان الداخل ذا شأن ومقام بين الناس كسفيان الثوري.



_______________

(1) الكافي: 6/328/4.
(2) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الكوفي الشهير وله رواية عن الصادق عليه السلام ولد أيّام عبد الملك، ومات بالبصرة عام 161.
(3) لواقح الأنوار ومطالب السؤل وحلية الأولياء: 3/193 وقد روي إِنكاره على الإمام حسن بزّته من طرق عديدة وفي كيفيّات عديدة، ولعلّها كانت متعدّدة، فلا يمتنع في الثانية بعد جوابه في الاُولى، وممّن روى ذلك أبو نعيم في حلية الأولياء: 3/193 وقد ذكرنا مناظرة الصادق عليه السلام الطويلة في الزهد مع سفيان وجماعته في اُخريات حياته العلميّة.

<h2>إِعلامه عن الحوادث
</h2><h4>كم أعلمَ عليه السلام عن حادثة وقعت بعد حين، وعن أمر حدث كما أخبر عن مُلك بني العبّاس مراراً قبل أن يكون، جاءه أبو مسلم الخراساني وناجاه سرّاً بالدعوة له، وأعلمه أنّ خلقاً كثيراً أجابوه، فقال له الصادق عليه السّلام: إِن ما تؤمي اليه غير كائن لنا حتّى يتلاعب بها الصبيان من وُلد العبّاس، فمضى الى عبد اللّه بن الحسن فدعاه، فجمع عبد اللّه أهل بيته وَهَمَّ بالأمر، ودعا أبا عبد اللّه عليه السلام للمشاورة، فلما حَضر جلس بين السفّاح والمنصور، وحين استُشير ضرب على منكب السفّاح، فقال: لا واللّه أو يملكها هذا أوّلاً، ثمّ ضرب بيده الاُخرى على منكب المنصور وقال: وتتلاعب بها الصبيان من وُلد هذا، ووثب
</h4><h4></h4><h1>[ 257 ]</h1><h4></h4><h4>وخرج من المجلس(1).
ودعاه عبد اللّه بن الحسن مرّة اُخرى للبيعة لابنه محمّد، فقال له: إِنَّ هذا الأمر واللّه ليس لك ولا لابنيك، وإِنمّا هو لهذا - يعني السفّاح - ثمّ لهذا - يعني المنصور - ثمّ لولده من بعده، ولمّا خرج تبعه أبو جعفر فقال: أتدري ما قلت يا أبا عبد اللّه ؟ قال عليه السلام: اي واللّه أدريه وأنّه لكائن(2) وما اكثر ما أنبأ عن مُلك بني العبّاس.
كما أخبر عن مقتل محمّد وإِبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن في مواطن عديدة، فقد قال يوماً: مروان خاتم بني اُميّة، وإِن خرج محمّد بن عبد اللّه قُتل(3).
وقال لمحمّد يوماً وقد فاخره: فكأني أرى رأسك وقد جيء به ووضع على حجر بالزنابير، يسيل منه الدم الى موضع كذا وكذا، فصار محمّد إِلى أبيه فأخبره بمقالة الصادق عليه السلام فقال أبوه: آجرني اللّه فيك، إِن جعفراً أخبرني أنك صاحب الزنابير(4).
وأخبر بذلك يوماً اُمّ الحسين بنت عبد اللّه بن محمّد بن علي بن الحسين عليهم السلام وقد سألته عن أمر محمّد فقال عليه السلام: فتنة يقتل فيها محمّد عند بيت رومي، ويقتل أخوه لاُمّه وأبيه بالعراق، وحوافر فرسه في الماء(5).
</h4>
_______________
<h5>(1) كتاب الوصيّة للمسعودي: ص 141.
(2) مقاتل الطالبيّين في تسمية المهدي: 255 - 256، بحار الأنوار: 47/131.
(3) كتاب الوصيّة.
(4) أعلام الورى للطبرسي طاب ثراه: 269، وهو الفضل بن الحسن بن الفضل من أعيان علماء الاماميّة وهو صاحب مجمع البيان في تفسير القرآن الذي لم يؤلّف مثله، وله مؤلّفات اُخر جليلة، توفي ليلة النحر في سبزوار عام 548.
(5) المقاتل في تسمية المهدي.




[ 258 ]



وقال لعبد اللّه بن جعفر بن المسور(2): أرأيت صاحب الرداء الأصفر - يعني أبا جعفر ؟ - قلت: نعم، قال عليه السلام: فإنّا واللّه نجده يقتل محمّداً، قلت: أوَيقتل محمّد ؟ - قال: نعم، قلت في نفسي: حسده وربّ الكعبة، ثمّ ما خرجت واللّه من الدنيا حتّى رأيته قُتل.
وأخبر بذلك أباهما عبد اللّه بن الحسن وقال له: إِن هذا - يعني المنصور - يقتل محمّداً على أحجار الزيت، ثمّ يقتل أخاه بعده بالطفوف(3) وقوائم فرسه في الماء(4).
فكان كلّ ما أخبر به من أمر العبّاسيّين ومحمّد وإِبراهيم قد وقع لم يفلت منه شيء.
وأخبر شعيب بن ميثم(5) بدنوّ أجله معرضاً به، قال له أبو عبد اللّه عليه السلام: يا شعيب ما أحسن بالرجل يموت وهو لنا ولي ويعادي عدوّنا، فقال له شعيب: واللّه إِني لأعلم أن من مات على هذا أنه لعلى حال حسنة، قال عليه السلام: يا شعيب أحسن الى نفسك، وصِل قرابتك، وتعاهد إِخوانك، ولا تستبدل بالشيء تقول: أدّخر لنفسي وعيالي، إِن الذي خلقهم هو الذي يرزقهم، قال شعيب: قلت في نفسي نعى إِليَّ واللّه نفسي، فما لبث بعد ذلك إِلا شهراً فمات(6).



_______________
(2) الظاهر أنه المخرمي نسبة الى جدّه مخرمة أب المسور، وعدّوه في أصحاب الصادق عليه السلام، الخرائج والجرائح: ص 244.
(3) جمع طف: الشاطي.
(4) المقاتل في تسمية المهدي: 255 - 256.
(5) التمّار: وهو من أصحاب الصادق عليه السلام وقد كتبنا عنه في رسالتنا في ميثم التمّار ص 78.
(6) بحار الأنوار: 47/126، المناقب: 3/350.




[ 259 ]



وأخبر أيضاً إِسحاق بن عمّار الصيرفي الثقة الجليل بأنه سيموت في شهر ربيع، وذلك أن إِسحاق قال للصادق عليه السلام يوماً: إِن لنا أموالاً ونحن نعامل الناس، وأخاف إِن حدث أن تفرّق أموالنا، فقال عليه السلام: إِجمع أموالك في شهر ربيع، فمات إِسحاق في شهر ربيع(1).
وأخبر عن قتل مولاه المعلّى بن خنيس، الذي قتله داود بن علي قبل أن يقتله بسنة وأخبر بجميع ما يجري عليه(2).
وسأل أبا بصير عن أبي حمزة الثمالي فقال: خلفته صالحاً، قال عليه السلام: إِذا رجعت اليه فاقرأه السلام واعلمه أنه يموت كذا من شهر كذا، قال أبو بصير: فرجعت، فما لبث أبو حمزة أن مات في تلك الساعة من ذلك اليوم(3).
ولمّا بلغه خبر قتل زيد وصلبه وهرب ابنه يحيى الى خراسان واجتماع الناس عليه، قال عليه السلام: إِنه يُقتل كما قُتل أبوه ويُصلب كما صُلب أبوه، فقُتل بالجوزجان وصُلب(4).
هذا بعض إِعلامه عن حوادث لم تقع فوقعت كما أعلَم، وأمّا إِعلامه عن حوادث وقعت فما أوفرها، وهاك شيئاً منها:
وقع شجار بين مهزم بن أبي بريدة الأسدي الكوفي - وهو من رواة الامام عليه السلام - وبين اُمّه، وقد جاء بها حاجّاً، وكان كلامه معها في المدينة وقد أغلظ لها فيه، فلمّا أصبح ودخل على الصادق عليه السلام ابتدأه قائلاً: يا مهزم مالَك وللوالدة أغلظت لها البارحة، أوَما علمت أن بطنها منزل سكنته، وأن



_______________
(1) مناقب ابن شهراشوب: 3/368، وأعلام الورى: ص 270.
(2) الكشي، في أحوال المعلّى: ص 239.
(3) كشف الغمّة: 3/190.
(4) ينابيع المودّة: ص 381.




[ 260 ]



حجرها مهد قد مهدته، وأن ثديها وعاء قد شربته، فلا تغلظ لها(1).
ودخل عليه رجل فقال له الصادق عليه السلام: تُب الى اللّه ممّا صنعت البارحة، وكان الرجل نازلاً بالمدينة في دار وفيها وصيفة أعجبته، فلمّا انصرف ليلاً ممسياً واستفتح الباب وفتحت له مدَّ يده الى ثديها وقبض عليه(2).
وقَدِمَ رجل من أهل الكوفة على أهل خراسان يدعوهم الى ولاية الصادق عليه السلام، فاختلفوا في الأمر، فبين مطيع مجيب، وبين جاحد مُنكر، وبين مُتورّع واقف، فأرسلوا من كلّ فِرقة رجلاً الى الصادق عليه السلام لاستيضاح الحال، ولمّا كانوا في بعض الطريق خلا واحد منهم بجارية كانت مع بعض القوم، وعندما وصلوا الى الصادق عليه السلام عرفوه بالذي أقدمهم، فقال للمتكلّم وكان الذي وقع على الجارية: من أيّ الفِرق الثلاث أنت ؟ قال: من الفِرقة التي ورعت، قال عليه السلام: فأين كان ورعك يوم كذا وكذا مع الجارية ؟ فسكت الرجل(3).
وهذه لعمر الحقّ اكبر دلالة على الامامة لو كان القوم طالبين للحقّ وللدلالة على الامامة.
وكان عبد اللّه النجاشي(4) زيديّاً منقطعاً الى عبد اللّه بن الحسن فدخل يوماً



_______________
(1) بصائر الدرجات: 5/263.
(2) بصائر الدرجات: 5/262.
(3) المناقب، وبصائر الدرجات: 5/265، وهو لمحمّد بن الحسن الصفّار القمّي أبي جعفر الأعرج، وكان وجهاً في القمّيين ثقة عظيم القدر، قليل السقط في الرواية، وله كتب كثيرة جليلة، توفي عام 290 وعدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الحسن العسكري عليه السلام، وكتابه بصائر الدرجات جليل كبير النفع.
(4) أبو بجير الأسدي وكان والياً على الأهواز وبعد أن رجع الى القول بإمامة الصادق صار يراسله ويسأله عن أشياء من وظيفته وللامام كتاب كبير أرسله اليه جواب سؤال منه ذكر فيه ما يجب عليه من السيرة والعمل الصالح، وسنذكره في وصاياه.




[ 261 ]



على الصادق عليه السلام فقال له: ما دعاك الى ما صنعت، تذكّر يوم مررت على باب قوم فسال عليك الميزاب من الدار فسألتهم فقالوا: إِنه قذر، فطرحت نفسك في النهر بثيابك فكانت منشغة(1) عليك فاجتمع عليك الصبيان يضحكون منك ويصيحون عليك، فلمّا خرج من عند الصادق عليه السلام قال: هذا صاحبي دون غيره(2).
وجاء من عدَّة طرق دخول أبي بصير على الصادق عليه السلام وهو جُنب، وردع الصادق إِيّاه، ومن ذلك ما قاله أبو بصير، قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام وأنا اُريد أن يعطيني من دلالة الامامة مثلما أعطاني أبو جعفر عليه السلام، فلمّا دخلت وكنت جُنباً قال: يا أبا محمّد تدخل عليّ وأنت جُنب، فقلت: ما عملته إِلا عمداً، قال: أوَلم تؤمن ؟ قلت: بلى ولكن ليطمئن قلبي، فقلت عند ذلك: إِنه إِمام(3).



_______________
(1) تسيل.
(2) المناقب، وبصائر الدرجات: 5/265 وغيرها.
(3) وسائل الشيعة: 1/490/3 وذكر بعض أحاديث أبي بصير الشيخ المفيد في الارشاد، وابن بابويه




إِعلامه عمّا في النفس
إِن نفس المؤمن اذا زكت من درن الرذائل عادت كالمرآة الصافية، ينطبع فيها كلّ ما يكون أمامها، ولذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه، هذا شأن المؤمن فكيف بإمام المؤمنين ؟
<h4>وهذا الخضر عليه السلام أعاب السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام، وما


</h4>[ 262 ]

<h4>كان ذلك منه إِلا علماً منحه به العليم سبحانه.
<h4>فلا عجب إِذن لو أعلم الامام الصادق عليه السلام عن أشياء تتلجلج في النفوس عند إِظهار الكرامة.
<h4>دخل عمر بن يزيد(1) على الصادق وهو وجع وقد ولاه ظهره ووجهه للحائط، وقد قال عمر في نفسه: ما أدري ما يصيبه في مرضه لو سألته عن الامام بعده، فبينا يفكّر في ذلك إِذ حوَّل الصادق اليه وجهه، فقال: الأمر ليس كما تظنّ ليس عليَّ من وجعي هذا بأس(2).
<h4>ودخل عليه الحسن بن موسى الحنّاط(3) وجميل بن درّاج(4) وعائذ الأحمسي(5) وكان عائذ يقول: إِن لي حاجة اُريد أن أسأله عنها، فلمّا سلّموا وجلسوا أقبل بوجهه على عائذ فقال عليه السلام: من أتى اللّه بما افترض عليه لم يسأله عمّا سوى ذلك، فغمزهم فقاموا، فلمّا خرجوا قالوا له: ما كانت حاجتك ؟ قال: الذي سمعتم، لأني رجل لا اُطيق القيام بالليل فخفت أن اكون مأخوذاً به فأهلك(6).
<h4>ودخل عليه شهاب بن عبد ربّه(7) وهو يريد أن يسأله عن الجنب يغرف
(1) هل هما اثنان بيّاع السابري والصيقل أو واحد ؟ وعلى كلّ حال فهما من أصحاب الصادق وثقات رواته.



_______________

(2) بصائر الدرجات: 5/259.
(3) بالحاء المهملة والنون المضاعفة، وقيل بالخاء المعجمة والياء التحتانيّة المضاعفة، هو من أصحاب الصادق، روى عنه بعض الثقات وأصحاب الاُصول ومن لا يروي إِلا عن ثقة كابن أبي عمير.
(4) النخعي وسنذكره في مشاهير الثقات من رواته.
(5) بالذال المعجمة في آخره، روى عنه الثقات مثل جميل بن درّاج، وأن للصدوق طرقاً اليه.
(6) الشيخ في التهذيب والأمالي، والكليني في الكافي، والصدوق في الفقيه، ذكروه في كتاب الصلاة في القيام بالليل، المناقب: 3/226.
(7) الكوفي من أصحاب الصادق ورواته الثقات.


</h4>[ 263 ]

<h4>الماء من الحِبّ فلمّا صار عنده اُنسي المسألة، فنظر اليه أبو عبد اللّه عليه السلام فقال: يا شهاب لا بأس أن يغرف الجنب من الحِبّ(1).
<h4>وكان جعفر بن هارون الزيّات(2) يطوف بالكعبة وأبو عبد اللّه عليه السلام في الطواف، فنظر اليه الزيّات وحدّثته نفسه فقال: هذا حجّة اللّه، وهذا الذي لا يقبل اللّه شيئاً إِلا بمعرفته، فبينا هو في هذا التفكير إِذ جاءه الصادق من خلفه فضرب بيده على منكبه ثمّ قال: «أبشراً واحداً منّا نتبعه إِنّا إِذن لفي ضلال وسعر»(3) ثمّ جازه(4).
<h4>ودخل عليه خالد بن نجيح الجواز(5) وعنده ناس فقنّع رأسه وجلس ناحية وقال في نفسه: ويحَكم ما أغفلكم عند مَن تتكلّمون، عند ربّ العالمين، فناداه الصادق عليه السلام: ويحَك يا خالد إِني واللّه عبد مخلوق ولي ربّ أعبده، إِن لم أعبده واللّه عذبني بالنار، فقال خالد: لا واللّه لا أقول فيك أبداً إِلا قولك في نفسك(6).
<h4>وهذا قليل من كثير ممّا روته الكتب الجليلة من الكرامات والمناقب لأبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام، ولا غرابة لو ذكرت له الكتب أضعاف ما
(1) بصائر الدرجات: 5/63، بحار الأنوار: 47/68/13.



_______________

(2) لم ينصّوا على توثيقه ولكنهم استظهروا أنه من الحسان.
(3) القمر: 24.
(4) بصائر الدرجات: 5/65، بحار الأنوار: 47/70/25.
(5) نجيح بالجيم المعجمة والحاء المهملة، وأمّا الجواز فقيل بالمعجمتين الجيم والزاء مع تضعيف الواو، وقيل بإهمالها، وقيل بإعجام الاولى وإِهمال الثانية، وقيل: الجوان بالجيم والنون، وعلى كلّ حال فقد حسنت عقيدته بعد هذا الردع، وعدّوه في أصحاب الكاظم عليه السلام وهو المشير الى الرضا عليه السلام من بعده.
(6) بصائر الدرجات: 5/261.


</h4>[ 264 ]

<h4>استطردناه بعد أن أوضحنا في صدر البحث أمر الكرامة.
<h4>أجل بعد أن فاتتنا المشاهدة فلا طريق لنا لإثبات الكرامة غير النقل وإِن المشاهدة لا تكون إِلا لأفراد من معاصري النبي أو الامام، فكيف حال الناس مع الكرامة من أهل الأجيال المتأخّرة، هذا سوى الناس من أهل زمانه ممّن لم يحضر الكرامة، فهل طريق إِذن لإثباتها غير النقل، فالنقل إِن صحَّ لاعتبار المؤلّف والراوي فذلك المطلوب، وإِلا فاعتباره اذا بلغ التواتر لقضيّة خاصّة أو لقضايا يحصل من جميعها الاعتقاد بصدور الكرامة من النبي أو الوصي وإِن لم يحصل الاعتقاد بواحدة منها خاصّة.


</h4></h4></h4></h4></h4></h4></h4></h4></h4>
</h5></b></b></b>


توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع


الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الامام المهدي عليه السلام صاحب القيامة الصغرى شجون الزهراء الإمام الحجّة ابن الحسن صاحب العصر والزمان (عج) 2 2015/03/31 08:31 PM
الإمام الصادق (ع)أبو المذاهب بشهادة أئمتها شجون الزهراء سيرة أهـل البيت (عليهم السلام) 2 2015/01/05 06:46 PM
مما جاء في العلامات الجمال الرائع الإمام الحجّة ابن الحسن صاحب العصر والزمان (عج) 2 2014/12/10 10:58 AM
من سيرة اهل البيت الامام جعفر الصادق عليه السلام عابر سبيل سيرة أهـل البيت (عليهم السلام) 4 2014/11/25 07:11 PM
مواضيع حسينية 2 الجمال الرائع عاشوراء الحسين علية السلام 4 2014/10/23 12:48 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024
جميع الحقوق محفوظة لـ منتديات شيعة الحسين العالمية اكبر تجمع اسلامي عربي
|

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى || SiteMap Index


أقسام المنتدى

المنتــديات العامة @ السياسة @ المناسبات والترحيب بالأعضاء الجدد @ منتديات اهل البيت عليهم السلام @ سيرة أهـل البيت (عليهم السلام) @ الواحة الفاطمية @ الإمام الحجّة ابن الحسن صاحب العصر والزمان (عج) @ الادعية والاذكار والزيارات النيابية @ المـدن والأماكن المقدسة @ المـنتـديات الأدبيـة @ الكتاب الشيعي @ القصة القصيرة @ الشعر الفصيح والخواطر @ الشعر الشعبي @ شباب أهل البيت (ع) @ المنتـديات الاجتماعية @ بنات الزهراء @ الأمومة والطفل @ مطبخ الاكلات الشهية @ المنتـديات العلمية والتقنية @ العلوم @ الصحه وطب أهل البيت (ع) @ الكمبيوتر والانترنيت @ تطبيقات وألعاب الأندرويد واجهزة الجوال @ المنتـديات الصورية والصوتية @ الصوتيات والمرئيات والرواديد @ الصــور العامة @ الابتسامة والتفاؤل @ المنتــــديات الاداريـــة @ الاقتراحات والشكاوي @ المواضيع الإسلامية @ صور اهل البيت والعلماء ورموز الشيعة @ باسم الكربلائي @ مهدي العبودي @ جليل الكربلائي @ احمد الساعدي @ السيد محمد الصافي @ علي الدلفي @ الالعاب والمسابقات @ خيمة شيعة الحسين العالميه @ الصــور العام @ الاثـــاث والــديــكــورآت @ السياحة والسفر @ عالم السيارات @ أخبار الرياضة والرياضيين @ خاص بالأداريين والمشرفين @ منتدى العلاجات الروحانية @ الابداع والاحتراف هدفنا @ الاستايلات الشيعية @ مدونات اعضاء شيعة الحسين @ الحوار العقائدي @ منتدى تفسير الاحلام @ كاميرة الاعضاء @ اباذر الحلواجي @ البحرين @ القران الكريم @ عاشوراء الحسين علية السلام @ منتدى التفائل ولاستفتاح @ المنتديات الروحانية @ المواضيع العامة @ الرسول الاعظم محمد (ص) @ Biography forum Ahl al-Bayt, peace be upon them @ شهر رمضان المبارك @ القصائد الحسينية @ المرئيات والصوتيات - فضائح الوهابية والنواصب @ منتدى المستبصرون @ تطوير المواقع الحسينية @ القسم الخاص ببنات الزهراء @ مناسبات العترة الطاهرة @ المسابقة الرمضانية (الفاطمية) لسنة 1436 هجري @ فارسى/ persian/الفارسية @ تفسير الأحلام والعلاج القرآني @ كرسي الإعتراف @ نهج البلاغة @ المسابقة الرمضانية لسنة 1437 هجري @ قصص الأنبياء والمرسلين @ الإمام علي (ع) @ تصاميم الأعضاء الخاصة بأهل البيت (ع) @ المسابقة الرمضانية لعام 1439هجري @ الإعلانات المختلفة لأعضائنا وزوارنا @ منتدى إخواننا أهل السنة والجماعه @


تصليح تلفونات | تصليح تلفونات | تصليح سيارات | تصليح طباخات | تصليح سيارات | كراج متنقل | تصليح طباخات | تصليح سيارات |