Untitled 2
العودة   منتديات شيعة الحسين العالمية اكبر تجمع اسلامي عربي > منتديات اهل البيت عليهم السلام > عاشوراء الحسين علية السلام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2014/08/04, 02:41 PM   #1
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي مواضيع حسينية 1

خلافة يزيد وخلاف الحسين له


خلافة النبي (صلى الله عليه وآله): نيابة عنه في الولاية على الأُمّة في جميع شؤونها، أو جميع شؤونه إلاّ الوحي، فهي أُخت النبوة وشريكتها في البيعة والعهد والرئاسة العامة، وسمي المتولي لهذا العهد «إماماً» يجب الاقتداء بأفعاله والاهتداء بأقواله، لذلك أجمعت أُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله): على اشتراط العدالة فيه مع الفضل الديني ما نص عليه القرآن الحكيم في آية إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} كذلك اشترطوا في متن بيعته: العمل بكتاب الله وسنة رسوله خوفاً من حصول سوء الاختيار أو فسوق المختار.
ولقد ثار المهاجرون والأنصار ومسلمو مصر والأمصار على عثمان بن عفان حتى كان ما كان من أمره وأمر مروان، كل ذلك إنكاراً منهم لأحداث تخالف الكتاب والسنة، ولقد كان الأحرى بالجمهور وأولياء الأُمور: أن يعتبروا بهذا الحادث ويأخذوا دروساً من الحوادث فلا يُؤمّروا إلا من ائتمنوه على الدين لكي يسير فيهم على الهدى والصلاح، لكن ابن هند وعصبته ـ المستخفّة بالحق ـ لم يتبعوا سبيل المؤمنين يوم ملكوا رقاب المسلمين وأخضعوا أمام قوتهم حتى المهاجرين.
هذا; ولم يحس من الحسين بعد الحسن (عليهما السلام) موجة خلاف أو رغبة الخلافة، </span>
الصفحة 40 بل أقام مسيرته الهادثة برهاناً ساطعاً على زهده عنها، إذ كان يفضل هدوء الشعب على الشغب، ولكن على شريطة حفظ الشرع وظواهره والدين وشعائره ـ ولو نوعاً ما ـ أمّا أن يرى يزيد ممثّلاً عن جدّه الأمين وخليفته في المسلمين مع استهتاره وفسقه وفسق عمّاله فشيء لا يستطيع حمله صدر الحسين وأمثاله!

وبالرغم من صبر الحسين واحتسابه مدّه أربعين عاماً من إمارة معاوية مرّت حوادث مُرّة ضاق عنها صدر ابن علي الرحب وأوغرت صدر يزيد من الجهة الأخرى أخص بالذكر منها حدثين بارزين استثار الواحد منهما حنق يزيد وكل ما في حفايظه من ضغائن، وهو ما سنقصّه عليك من أمر أُرينب بنت إسحاق سيدة الجمال(1)، كما استثار الحدث الثاني من حسين الفتوة كل شهامة ومروة، وحول وقوة، وذلك اهتمام ابن هند لاستخلاف ولده يزيد إماماً للمسلمين وأميراً على المؤمنين إذ كان معاوية الدهاء يحاول ذلك من شتّى الوجوه بين الجد والهزل على ألسنة المتزلفين إليه.
تذاكر معاوية يوماً مع الناس في بيعة يزيد والاحنف بن قيس جالس لا يتكلم فقال: مالك لا تقول يا أبا بحر؟ قال: أخافك إن صدقت وأخاف الله إن كذبت.
ورووا عن معاوية أنه أظهر بعد موت زياد بن أبيه كتاباً مفتعلاً عن خطه بتحويل الخلافة وولاية عهدها إلى يزيد(2).
وعن الحسن البصري أنه قال: «أفسد أمر هذه الأُمة اثنان: عمرو بن العاص في
____________
1) العقد الفريد ج2 ص100.
2) العقد الفريد.

الصفحة 41 التحكيم والمغيره بن شعبة، فإنه كان عامل معاوية على الكوفة، فكتب إليه معاوية: إذا قرأت كتابي فأقبل معزولاً. فأبطأ عنه، فلما ورد عليه قال: ما أبطأ بك؟ قال أمر كنت أُوطؤه وأهيئه. قال: ماهو: قال البيعة ليزيد من بعدك. قال: أو قد فعلت؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى عملك فلما خرج قال له أصحابه: ما وراؤك؟ قال: وضعت رجل معاوية في غرزغي لا يزال فيه إلى يوم القيامة».

ثمّ حجّ معاوية وفي صحبته يزيد يقدّمه إلى المهاجرين كمرشح للخلافة بعده، فدخل عليه الحسين في المدينة وهو على ماهو عليه من التظاهر بالفجور وشرب الخمور فلم يسؤه يومئذ إلاّ التجاهر بانكار هذا العمل وانضم إلى صوته أصوات ثلة من أكابر الصحابة، وابن صخر من ورائه ينثر الذهب والفضة ويبث المواعيد حتى انحصرت أصوات المعارضين في أربعة، فحس ابن الرسول بأول خذلان من أُمته في مدينة جدّه.وما عاد ابن صخر إلى الشام حتى راجت في المدينة وصايته بمباراة معارضيه الأربعة ولا سيما الحسين ابن فاطمة، فهدأت سورة ابن البتول إذ وجد أمامه متسعاً، ويرى أثر هذه الصدمة في قلوب الأمة وموجة الحركات العامة إن قضى طاغية الشام نحبه، فدبّر ابن علي أمره حسبما تسمح له الظروف وتساعده الأحوال، إلاّ أنّه فوجىء من يزيد بأخذ البيعة منه خاصة ومن الناس عامة وصحت مكيدة ابن هند في تخديره الأعصاب من وصيته بالحسين (عليه السلام) بينماكان ابن الرسول قالعاً منهم بالسكوت عنه، لكنهم لم يقنعوا منه بالحيدة ولا بالعزلة ولا بالخروج إلى الثغور أو إلى أقصى المعمور.
</span>
الصفحة 42 </span>الصفحة 43
أهلية الحسين للخلافة


ربّما اتّخذوا استجابة الحسين (عليه السلام) لدعوة الكوفة وإرساله ابن عمه إليها لأخذ العهد منها دليلاً على أنّه رشّح نفسه للخلافة، غير أنّ ذلك لا ينافي خطته الدفاعية ولا يوجد نحوه مغمزاً، حيث اجتمعت لنهضة الحسين وتلبيته لدعوة الكوفة أسباب أربعة لو تعلّق كل رجل من المسلمين بواحد من تلكم الأسباب لأصبحت مقاومة يزيد عليه حتماً وإلزاماً:

أوّلاً:
أهلية يزيد للمخالفة وعدم أهليته للخلافة. فقد امتلأت بطون التواريخ عن سوء سيرته وسريرته: من شرب الخمر، وصيده بالنمر، وخلاعته في فجوره حتى بالمحارم.
ثم إنّه لم ينل عهد ملكه بوصاية أو وراثة ممّن استحقها من قبل، فقد ابتز أبوه الامارة بالمكر والغدر، وأخذ البيعة له بالعنف والقهر، وبتهديد ألسنة الأسنة والحراب، دون أدنى حرية للمسلمين في الشورى والانتخاب.
فكان الواجب على الأُمّة خلع هذا الخليع الغاصب، وفيما صح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله(1): «سيد الشهداء عمي حمزة، ورجل قام في وجه إمام جائر يأمره وينهاه
____________
1) صححه الحاكم والطبراني عن جابر و (علي).

الصفحة 44 ثم قتله» وقد تم هذا التنبؤ في عمل الحسين قبل غيره.


ثانياً:
علم ابن النبي من نفسه ومن آثار جّده وأبيه وأخيه: أنّه إمام المسلمين دون سواه، ورشحته ألسنة المتجاهرين بالحق، وصدَّقته البقية تحت ستار التقيّة. فهل يكون لأحد من الوجوه مثل هذا ثم لا ينهض؟!

ثالثاً:
تلوح من السيرة الحسينية المثلى أنّه مسبوق العلم بأنباء من جدّه وأبيه وأُمه وأخيه وحاشيته وذويه بأنّه مقتول بسيف البغي ـ خضع أو لم يخضع، وبايع أو لم يبايع ـ فهلا يرسم العقل الناضج لمثل هذا الفتى المستميت خطة غير الخطة التي مشى عليها حسين الفضيلة، قوامها الشرع وزمامها النبل ولسان حاله:


مشيناها خطىً كتبت عليناومن كتبت عليه خطىً مشاها



رابعاً:
تواتر الكتب إلى ابن النبي (صلى الله عليه وآله) من العراق وخلاصة أكثرها: «اقدم علينا يابن رسول الله، فليس لنا إمام غيرك، ويزيد فاسق فاجر ليس له بيعة في أعناقك، فعجّل بالمسير إلينا، وإن لم تفعل خاصمناك عند جدّك يوم القيامة».
فماذا يكون ـ ياليت شعري ـ جواب مثل الحسين لمثل هؤلاء؟ وهلا تراه ملوماً لو لم يستجب دعوتهم؟!
</span>
الصفحة 45
الحسين رمز الحق والفضيلة


لا عجب إن عدّت نهضة الحسين (عليه السلام) المثل الأعلى بين أخواتها في التاريخ وحازت شهرة وأهميّة عظيمتين، فإنّ الناهض بها الحسين رمز الحق ومثال الفضيلة، وشأن الحق أن يستمر، وشأن الفضيلة أن تشتهر. وقد طبع اّل علي (عليهم السلام) على الصدق حتى كأنّهم لا يعرفون غيره، وفطروا على الحق فلا يتخطونه قيد شعرة.
ولا بدع فقد ثبت في أبيهم عن جدهم عن النبي (صلى الله عليه وآله): «عليّ مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار»(1)، فكان علي لا يراوغ أعداءه ولا يداهن رقباءه، وهو على جانب عظيم من العلم والمقدرة وتاريخه كتاريخ بنيه يشهد على ذلك، فشعور التضحية ـ ذلك الشعور الشريف ـ كان في علي وبنيه ومن غرائزهم ولا سيما في الحسين بن علي (عليه السلام) وما في الآباء ترثه الأبناء.
وقد تفادى علي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه كرّات عديدة، كذلك الحسين تفادى لدين الرسول (صلى الله عليه وآله) وأُمته، إذ قام بعملية أوضحت أسرار بني أُمية ومكائدهم وسوء نواياهم في نبي الإسلام ودينه ونواميسه.

____________
1) استدل الرازي في تفسيره بهذا الحديث وثبوته المتواتر على الجهر بالبسملة.

الصفحة 46 وفي قضية الحسين حجج بالغة برهنت على أنّهم يقصدون التشفّي منه والانتقام، وأخذهم ثارات بدر وأحقادها. وقد أعلن بذلك يزيدهم طغياناً ـ وهو على مائدة الخمر ونشوان بخمرتين خمرة الكرم وخمرة النصر ـ إذ تمثلّ بقول ابن الزّبعرى(1):



ليت أشياخي ببدر شهدواجزع الخزرج من وقع الأسل


وأضاف عليها:


لعبت هاشم بالملك فلاخبر جاء ولا وحي نزللست من خندف(2) إن لم أنتقممن بني أحمد ما كان فعل



____________
1) بكسر الزاي وفتح الباء وسكون العين وفتح الراء المهملتين: كنية شاعر الحزب السفياني.
2) خندف: لقب أم مدركة بن إلياس بن مضر جد قريش.

الصفحة 47
الحركات الإصلاحية والضرورية


إذا كان نجاح الأُمة على يد القائد لزمامها، وإصلاحها يتوقف على صلاح إمامها فمن أسوء الخيانات والجنايات ترشيح غير الأكفّاء لرياستها ورياسة أعمالها. وسيان في الميزان أن ترضى بقتل أُمتك أو ترضى برياسة من لا أهلية لها عليها، وأية أُمة اتخذت فاجرها إماماً، وخونتها حكاماً، وجهالها أعلاماً، وجبناءها أجناداً وقواداً فسرعان ما تنقرض ولابد أن تنقرض.
هذا خطر محدق بكل أُمة لو لم يتداركه ناهضون مصلحون وعلماء مخلصون وألسنة حق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيضربون المعتدي على يده، أو يوقفونه عند حدّه.
وبتشريع هذا العلاج درأ نبي الإسلام عن أُمته هذا الخطر الوبيل، ففرض على الجميع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد تهديده المعتدين وضمانه للنهاضين وصح عنه (صلى الله عليه وآله): «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» ذلك لكي لا يسود على أُمته من لا يصلح لها فيفسد أمرها وتذهب مساعي الرسول ومن معه أدراج الرياح. وقد كان هذا الشعور الشريف حيّاً في نفوس المسلمين حتى عصر سيدنا الحسن السبط (عليه السلام).
وناهيك انّ أبا حفص خطب يوماً فقال: «إن زغت فقوّموني» فقام أحد </span>
الصفحة 48 الحاضرين يهز فيوجهه السيف ويقول: «إن لم تستقم قومناك بالسيف».

غير أنّ امتداد السلطان لمعاوية بن أبي سفيان، وإحداثه البدع،وإماتته السنن وإبادته الأبرار(1) والأحرار بالسيف والسمّ والنار(2)، وغشّه الأفكار وبثّه الأموال في وجوه الأمة أخرست الألسن، وأغمدت السيوف، وكمت الأفواه، وصمت الآذان، وحادت بالقلوب عن جادة الحق والحقيقة ورجالهما فمات أو كاد أن يموت ذلك الشعور الإسلامي السامي. وأوشك أن لا يحس أحد بمسؤوليته عن مظلمة اخيه ولا يعترف بحق محاسبة آمريه أو معارضة ظالميه.
وكاد أن تحل قاعدة: «قبّلوا يداً تعجزون عن قطعها» محل آية: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}.

____________
1) من سنة 40 هـ إلى سنة 60 بعدما استعمل على العراق المغيرة بن شعبة وزياد بن سمية لاستيصال شأفة الحزب العلوي وقتل صلحاء الصحابة والتابعين ـ كحجر بن عدي وأصحابه ـ سراًوجهراً وغدراً وغيلة أودفناً في التراب حياًوشق بطونهم وسمل عيونهم. عدا من قتلوا حرباً أو صلباً أونفيهم وقطع أرزاقهم أو التعرض بأعراضهم، كل ذلك ليحملوا الأمة بكل وسيلة على سب أبي تراب والترحّم على عثمان وتسويغ المظالم.
2) وقد أفرط معاوية في قتل صلحاء الصحابة والتابعين بدسّ السمّ في مأكلهم ـ أمثال ابن أبي وقاص، والحسن بن علي، ومالك الأشتر النخعي.
وقال ابو الفرج الأموي في مقاتله: وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص فدس اليهما سماً فماتا منه... الخ.

الصفحة 49
آثار الحركة الحسينية


كان مآل الأحوال السالفة محق الحق بالقوة، وسحق المعنويات بالماديات، وانقراض الأئمة والأُمة بانقراض الاخلاق والمعارف لولا أن يقيض الرحمن لانقاذ هذه الأمة حسيناً آية للحق، وراية للعدل، ورمزاً للفضيلة، ومثالاً للإخلاص يوازن نفسه ونفوس الأُمة في ميزان الشهامة، فيجد الرجحان الكافي لكفة الأُمة فينهض مدافعاً عن عقيدته، عن حجته، عن أُمته، عن شريعته، دفاع من لا يبتغي لقربانه مهراً، ولا يسألكم عليه أجراً، ودون أن تلوي لواءه لائمة عدو أو لائمة صديق، ولا يصده عن قصده مال مطمع، أو جاه مصطنع، أو رأفة بآله، أو مخافة على عياله.
هذا حسين التاريخ والذي يصلح أن يكون المثل الأعلى لرجال الإصلاح وقلب حكم غاشم ظالم دون أن تأخذه في الله لومة لائم، وقد بدت لنهضته اّثار عامة النفع جليلة الشأن فإنها:

أولاً:
أولدت حركة وبركة في رجال الإصلاح والمنكرين لكل أمر منكر حيث اقتفى بالحسين السبط أبناء الزبير، والمختار الثقفي، وابن الأشتر، وجماعة التوابين، وزيد الشهيد، حتى عهد سَمِّيه الحسين بن علي شهيد فخ، وحتى عهدنا الحاضر ممن لا يحصون في مختلف الأزمنة والأمكنة، فخابت آمال أُميه فيه، إذ ظنت أنها قتلت حسيناً فأماتت بشخصه شخصيته وأبادت روحه ودعوته. كلا! ثم </span>
الصفحة 50 كلا! لقد أحيت حسيناً في قتله وأوجدت من كل قطرة دم منه حسيناً ناهضاً بدعوته داعياً إلى نهضته.

أجل! فإن الحسين لم يكن إلاّ هاتف الحق، وداعي الله، ونور الحق لا يخفى، ونار الله لا تطفى، ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ويعم ظهوره.

ثانياً:
إنّ الحسين (عليه السلام) ـ بقيامه في وجه الجور والفجور مقابلا ومقاتلاً ـ أحيا ذلك الشعور الإسلامي السامي الذي مات في حياة معاوية أو كاد أن يموت، ونبه العامة إلى حب الحياة، ورعاية الذات واللذات، والتخوف على الجاه والعائلات. لو كان تبرر لأولياء الدين مصافات المعتدين لكان الحسين أقدر وأجدر من غيره، لكنه أعرض عنها إذ رآها تنافي الإيمان والوجدان، وتناقض الشهامة والكرامة، فجددت نهضته في النفوس روح التديّن الصادق وعزّة في نفوس المؤمنين عن تحمل الضيم والظلم وعن أن يعيشوا سوقة كالأنعام وانتعشت إحساسات تحرير الرقاب والضمائر من أغلال المستبدين وأوهام المفسدين.

ثالثاً:
إنّ النهضة الحسينية هزّت القرائح والجوارح نحو الإخلاص والتفادي، وأتبعت الصوائح بالنوائح لتلبية دعاة الحق واستجابة حماة العدل في العالم الإسلامي وإنعاش روح الصدق وهو رأس الفضائل.
وبوجه الإجمال عدت نهضة الحسين (عليه السلام) ينبوع حركات اجتماعية باقية الذكر والخير في ممالك الإسلام، خففت ويلات المسلمين بتخفيف غلواء المعتدين، فأي خير كهذا الينبوع السيال والمثال السائر في بطون الأجيال.
</span>
الصفحة 51
الفضيلة والرذيلة


الفضيلة محبوبة الجميع والرذيلة مكروة إلاّ لدى صاحبها،وإذا عدّت الفضائل فضيلة، فضيلة: من وفاء، وسخاء، وصدق، وصفاء، وشجاعة، وإباء، وعلم، وعبادة وعفة، وزهد، فحسين التاريخ رجل الفضيلة بجميع مظاهرها; كما أنّ معارضيه رجال الرذائل بكل معانيها لا يتناهون عن منكر فعلوه.
فأتت من أجل ذلك نهضة الحسين (عليه السلام) أُمثولة الحق والعدل، إذ بطل روايتها أقوى مثال للفضيلة، قد كانت حركة يزيد(1) أُمثولة الباطل والظلم، إذ بطل روايتها
____________
1) طفحت مدونات التاريخ بمظالم يزيد وهتكه لحرمات الدين والحرمين في أيامه القصيرة، ويشترك معه ـ طبعاً ـ في الإثم كل من ساعده عليه أو ساعده على استخلافه، كالمغيرة بن شعبة الذي حمل معاوية على استخلاف يزيد وقصته معروفة، فصار أبوه لا يتريّث في ترشيحه للخلافة فولاه إمارة الحج مرتين بعد أن استتب له الأمر، وولاه الصائفة تارة وقيادة الجيش أخرى ـ والصائفة غزوة الروم، لأنّهم كانوا يغزون صيفاً، وصائفة القوم ميرتهم في الصيف ـ. كما وأخذ له البيعة من المسلمين في حياته طوعاً وكرهاً غير مبال بمن خالفوه وشنعوا عليه حتى مات معاوية سنة ستين ونادى يزيد بنفسه ملكاً على المسلمين وخليفة عن أسلافه.
وقد استمرت ولايته ثلاث سنوات تقريباً فكان عمله في السنة الأولى قتل الحسين ريحانة النبي (صلى الله عليه وآله) والبقية من آله ـ على الوجه المشروح في هذا الكتاب ـ وسبي ذراريه وعياله إلى الشام بأسوء من سبايا المشركين.
ولم تقف سوء نيّته عند هذا الحد حتى ثنى الفاجعة الأولى بالأخرى وتسمى «الحرة» فأخاف مدينة الرسول وجيرانه سنة 63 هـ لأجل إنكارهم عليه منكرات أعماله المخالفة للشريعة، وفي صحيح مسلم عنه (صلى الله عليه وآله): «من أخاف أهل المدينة أخافه الله وكانت عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» وأمر يزيد باباحة حرم النبي (صلى الله عليه وآله) لجيشه ثلاثة أيام فعبثوا بها سلباً ونهباً وقتلاً وبغياً. حتى قيل في سفك دمائها وهتك نسائها ما يقشعر منه الإنسان. فلم يبق بعدها بدري في العرب، وأخذ منهم بالقهر إقرارهم على أنّهم عبيده وإماؤه لا يملكون في جنب أوامره مالاً أو عرضاً أو رقبة، وقتل كل ممتنع عن هذه البيعة القاسية ما عدا علي بن الحسين (عليه السلام)، وختم سني إمرته بحصار الكعبة ورميها بالحجارة من المنجنيق المنصوب على جبل أبي قبيس، وباستباحة القتل في البلد الحرام وفي الشهر الحرام: أي محرم سنة أربعة وستين بفرض إرغام عبيدالله بن الزبير ـ المستجير هو من معه بالمسجد الحرام ـ ورمى الكعبة بالنار يوم السبت ثالث ربيع الأول فأحرق أستارها وسقفها وقرني كبش إسماعيل فيها، وبقيت النار مضطرمة أحد عشر يوماً، في أثناء ذلك كان هلاك يزيد في رابع عشر ربيع الأول الموافق لعاشر نوفمبر سنة 682 م.

الصفحة 52 أقوى مثال للرذيلة والفجور. وما حربهما إلاّ تمثيلاً لصراع الحق والباطل. والحق مهما قلّ مساعده وذلّ ساعده في البداية فإن النصر والفخر حليفاه عند النهاية: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ}.


l,hqdu psdkdm 1



توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس
قديم 2014/08/04, 02:44 PM   #2
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي

سلسلة عوامل النهضة


ينمي مؤرخة الغرب معارضة بني أميه لبني علي (عليه السلام) إلى زمن أبعد مدىً مما اشتهر،والى قطيعة حدثت بين هاشم وشقيقه عبد شمس ولدي عبد مناف القرشي. وكانت المعارضة إذ ذاك بينهما فقط، ثم تفشت بعد مائة عام بين حزبين قويين: حزب التوحيد وعميده المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وحزب الشرك وأقطابه أبو سفيان وأبو جهل والحكم والوليدوخمسة عشر أخرون. وبقيت نار الجدال والقتال مستمرة بين الحزبين 19 عاماً حتى اذا جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً ودخل معهم هؤلاء طوعاً أو كرهاً، فخمدت تلك النار الموقدة إلاّ في الأفئدة بضعاً وثلاثين سنة حتى استثارها مروان في إمارة عثمان وأثار مع الحفائظ نيران الفتن والإحن.
وعميد الحزب الهاشمي علي (عليه السلام) رجل الحق وفي أنصاره المهاجرون وأبطال مصر والعراقين وشعارهم الحق، والفضيلة، وحفظ الحرمات، كما أقام الجانب المعارض أمره على دعائم الغدر، والمكر، وطلب الملك، والشهوات هم معاوية وزياد بن أبيه وعمرو بن العاص ومروان والمغيرة بن شعبة وأشباههم. فاستخدموا في سبيل الانتصار كل وسيلة وحيلة زهاء ربع قرن ملؤه الفجائع والفظايع حتى احتجب الحق وتوارى أهله، وفاز ابن أبي سفيان وأهلوه في كل </span>
الصفحة 54 منكر فعلوه حتى في إقامة الجمعة في غير يومها وحتى في استلحاق زياد واستخلاف يزيد(1) وحتى.. وحتى.. استنوقوا الجمل وظنوا موت الحق، ولكن الحق حي لا يموت. هناك دعى طغيان الغرور يزيد الجور والفجور أن يطالب أباه باقتران أُرينب «أم خالد» ربة الخدر والجمال وهي متبعلة بزوجها عبد الله.

قالوا: إنّ يزيد بن معاوية كان يتحرّى أخبار الفتيات الحسان فبلغه من وصف أُرينب بنت إسحاق القرشي وكمال جمالها ما استثار هواه وظلّ يترقّب فرصة إعلام أبيه برغبته اليها فيزوجها منه، فسمع يوماً بزواجها من ابن عمها عبد الله بن سلام فشق عليه ذلك وأبلغ أباه معاوية بما هو فيه وأنّه مشرف على الهلكة من خيبة الأمل، فأمره أبوه أن يكتم رغبته حتى يتمكن من استدراك ما فاته! ثم استدعى عبد الله بن سلام إلى الشام وأكرم ضيافته وأرسل إليه أبا هريرة ليرغبه إلى مصاهرة معاوية وتزويج أخت يزيد إياه، فرحب عبد الله برغبة معاوية ولبّى هذا الطلب بكل شكر وثناء، فرجع أبوهريرة بذلك إلى معاوية، فقال معاوية: سر يا أبا هريرة إلى ابنتي وأعلمها برغبتي إلى زواجها، فإنّ الإقدام على ما فيه رضاؤها أحوط وأقرب إلى رضا الله تعالى.
وكان معاوية قد بيّت الكلام مع ابنته وعلّمها الذي تقوله في الجواب. ولما أتاها أبو هريرة بمقالة أبيها معاوية وامتدح عندها عبد الله بن سلام أجابت بأنّها
____________
1) قال الحسن البصري: «أربع خصال في معاوية لو لم تكن إلاّ واحدة منها لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه من بعده سكيراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابر، وادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وقتله حجراً وأصحاب حجر ويا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر» الكامل لابن الأثير.

الصفحة 55 لا تأبى ما اختاروا لها لولا أنها تخشى وجود زوجته «اُرينب» فيدركها ما يدرك المرأة من ضرّتها ممّا يغضب الله ويغضب أباها، فخرج أبو هريرة إلى عبد الله بن سلام بالخبر واستقر رأيهم على طلاق اُرينب فطلقها عبد الله بن سلام طمعاً في مصاهرة معاوية وجلالة ملكه، وبعد ما توثق معاوية من طلاق اُرينب جهز اليها أبا هريره ليخبرها بأمر زوجها عبد الله وأن يزوجها من ابنه يزيد بما شاءت من صداق.

وظل ابن سلام يطالب معاوية بانجاز ما وعده ومعاوية يماطله، حتى سمع بأنّ مخطوبته تكره قبوله زاعمة أن الذي يطلق ابنة عمه التي فاقت أقرانها مالاً وجمالاً وكمالاً وشرفاً لا يصعب عليه أن يطلق الثانية يوماً ما.
وشاعت مكيدة معاوية في الملأ وأنه يبغي وراء حرمان عبد الله بن سلام من زوجته أُرينب أن يزوجها من يزيد، وخرج ابن سلام من الشام غضبان أسِفاً.
أما أبو هريرة فمر بالحسين بن علي (عليه السلام) في طريقه فسلّم عليه فاحتفل به الحسين (عليه السلام) وسأله عما جاء به من الشام فقص عليه خبره فناشده الله أن يذكره عند اُرينب عسى أن ترضى بالحسين زوجاً لها، فقبل ذلك أبو هريرة وجاءاُرينب ؤاخبرها بما فعل زوجها عبد الله بن سلام.. بائنة فبكت اُرينب ولما هدأ روعها واسترجعت قال لها أبو هريرة: «إنّك لا تعدمين طلاباً خيراً من عبد الله بن سلام وقد رغب إلى زواجك يزيد بن معاوية والحسين بن علي (عليه السلام) وهما معروفان لديك بأحسن ما تبتغينه في الرجال، ويبذلان لك ما تشائين من الصداق» ثم لما عاودها على اختيار رأيها في الرجلين قالت: «إنّك خير من استشيره في الأمر فاختر لي» فقال أبو هريرة: «لا اختار فم أحد على فم قبّله رسول الله تضعين شفتيك في موضع شفتي رسول الله». قالت: «فلا اختار على الحسين بن علي أحداً وهو ريحانة النبي وسيد </span>
الصفحة 56 شباب أهل الجنة» فعقد عليها الحسين. ولما بلغ ذلك معاوية سخط سخطاً شديداً وقال:



أنعمي أُم خالدرب ساع لقاعد(1)


حنق يزيد على الحسين بن علي حنقاً لا مزيد عليه، واستوهن الأمر عبد الله بن سلام وخف عليه حزنه وجاء إلى الحسين (عليه السلام) وطلب منه أن يسأل اُرينب رد أمانته التي أودعها لديها عندما سافر إلى الشام وهي خلاصة ما يملكه من دنياه. فجاء الحسين إلى اُرينب وقال لها: «إنّ زوجها عبد الله بن سلام يطالبها بوديعة أودعها لديها» فقالت: «صدق وها هي وديعته» وأخرجت بدراً مختومة، فدعا الحسين عبد الله وقال له: «ادخل عليها واستلم وديعتك من يدها كما استلمتها من يدك». فدخل عبد الله وبكى وبكت معه واستلم الودايع منها سالمة ثم قال لهما الحسين: «ارجعا إلى ما كنتما عليه فإنّي اشهد الله أنها طالقة وأنّي لم ألمسها وما أدخلتها في بيتي وتحت نكاحي إلاّ محافظة لها من يزيد ومن كيد أبيه، فخذ بيدها واذهبا حيث شئتما».
فبكيا من الوجد طويلاً وأرادت اُرينب أن تعيد إلى سيدها الحسين صداقها فوهبها الحسين قائلاً: «إن الذي أرجوه من الله تعالى خير لي من ذلك» ولم يسترجع منها شيئاً كرامة منه وإحساناً.
نعم دفعت سجية الفضيلة حسينها إلى صيانة عرض عبد الله من عدو الله بعد أن عرف من سجاياه هتك الحرمات، وعرف من سجايا أبيه تبديل آثار جدّه وتبديد مجده، وتذكر بعد ذلك سم أخيه وسب أبيه، ومافعلت هند بعمه، وأذى
____________
1) النصائح الكافية ص97، وأم خالد كنت كنية اُرينب.

الصفحة 57 صخر لجدّه، وأنّ الذي أضمروه له ولأسرته ـ أو بالأحرى لأُمته ـ في مستقبل الزمن أسوء من ماضيه. كل هذه الذكريات دفعت حسين الشرف إبراز هذه المآثر التاريخية المتلألئة في سماء الفضائل.

لقد أثّرت عملية الحسين (عليه السلام) تأثيرها الحسن في نفوس بني الضاد رقاة الشرف ودعاة مكارم الأخلاق، كما أنها أثارت من يزيد أحقاداً خمد نارها أو كادت فوق ما ذكرته اندحار أبيه أمام جدال الحسن، وقتال أبيه، ومصرع عتبة وشيبة وحنظلة وسائر أشياخه، والذل الذي لحق جدّه يوم عرض نصرته لعلي (عليه السلام) ويوم عرض إسلامه للنبي (صلى الله عليه وآله) وعند استجارته بهما في المدينة.. فصمّم من فوره على الانتقام من حسين الفضيلة أشدّ الانتقام حينما أصبحت الأمور له متسقة والجماهير به مستوثقة وفيهم عبيد الله بن زياد إن لم يكن زياد.
</span>
الصفحة 58 </span>الصفحة 59
مبادىء قضية الحسين


كل الذين دوّنوا قضية الحسين (عليه السلام) أخذوا سلسلتها من أوساطها، أي من حين البيعة ليزيد. في حين أنّ القضية ـ كما سبق ـ تبتدىء من عهد أبي سفيان ومحمّد (صلى الله عليه وآله) ـ إن لم نقل من قبل ومن عهد هاشم(1) وعبد شمس ـ فإن أبا سفيان جدّ يزيد إذ رأى محمّداً جدّ الحسين قد نهض في مكة سنة 610م يدعو العرب إلى توحيد المعبود والإتحاد في طاعته، حسب أنّه سيهدم مجد عبد شمس ورئاستهم ويبني لبني هاشم(2) بيت مجد مرصوص الأساس ويعم ظله الوارف عامة الناس. فاندفع بكل قواه إلى معارضته ففعل ما فعل في مقاومة النبي (صلى الله عليه وآله) وإهانته، وتفريق
____________
1) هاشم وعبد شمس أخوان أبوهما عبد مناف بن قصي.
قيل ولدا توأمين متلاصقين بقطعة لحم في ظهريهما فألجأت الحالة إلى فصلهما بالسيف، فتطير المتشئمون من ذلك واستدلوا منه على استمرار السيف بين ذراريهما فكان كما قالوه، وكان الأمويون من بني عبد شمس والهاشميون من بني عبد المطلب طرفي الخصام في الجاهلية والإسلام. وكان هاشم اسمه عمرو ـ ويقال له: عمرو العلا ـ ولقب هاشماً لكثرة هشمه الثريد لأضيافه ولزوار البيت الحرام.
2) كان بنو هاشم صفوة قريش حينماكانت قريش صفوة العرب ووجوه أبناء الجزيره وامتاز بنو هاشم من بين القبائل كلها بالسماحة والفصاحة وطلاقة الوجه واللسان وإقراء الضيوف ونجدة المظلوم وحسن السمة وشرف النفس وطيب المولد وطالما اعتدت عليهم قريش بسبب تمسكهم بالحقوق ورعايتهم للعهود ومحاماتهم عن الحرم.

الصفحة 60 أعوانه، وتحشيد الجموع لمحاربته حتى كان في أيام بدر وأُحد والأحزاب وهما مثالان للحق والباطل، وأمرُ محمّد (صلى الله عليه وآله) يقوى انتشاره ومناره حتى رمى حزب أبي سفيان آخر نبلة من كنانته ولم يفلح: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.

وذلك أنّ الله سبحانه فتح لنبيه مكة فتحاً مبيناً، ونصره على قريش نصراً عزيزاً. انتهت الحركة السفانية، ولكن في الظاهر.
أمّا الحزب الخاسر المنكسر فقد كان يعمل ليلاً ونهاراً في تلافي خسرانه وارجاع سلطانه، ولكن تحت الستار وبأخفى من دبيب النمل على الصفا، يرسم الخطة للقيام بحركة وسيعة الدائرة حتى إذا قضى النبي (صلى الله عليه وآله) نحبه تنفس وانتهز الفرصة لاستعادة مجده.
أجل! لقي محمّد (صلى الله عليه وآله) ربه وأبو سفيان حي يسمع الناعية عليه، ولكن لا يسعه إظهار شيء وكان العباس عم النبي (صلى الله عليه وآله) يعرف من أمره شيئاً إذ كان صديقه الحميم في الجاهليه والإسلام، فأشار على عليّ (عليه السلام) ابن أخيه أبي طالب ـ وهو يغسل جنازة النبي (صلى الله عليه وآله) ـ قائلاً له: «يا علي مد يدك لأبايعك حتى يقول الناس: عم رسول الله بايع ابن عمه، فلا يختلف عليك اثنان» فلم يسمع من ابن أخيه جواباً سوى كلمة: «يا عمّ أولها غيري!» وقبل أن يدفن النبي (صلى الله عليه وآله) نجم الخلاف حول خلافته بين المهاجرين والأنصار.
لكن الذي نعلمه أنّ أبا سفيان لم يكن من الأنصار ولا من المهاجرين عندما قالا: «منا أمير ومنكم امير» حتى يحسب لنفسه حساباً في التحيز الى طرف، ورأى انضمامه إلى اضعف الأحزاب ـ أي حزب علي (عليه السلام) ـ أقرب الى مقصده من إيجاد موازنة في القوى وخلق عراقيل تكاد تمنع من حسم الخلاف، فجاء علياً قائلاً له:
</span>
الصفحة 61 «لو شئت ملأتها لك خيلاً ورجالاً» وعلي (عليه السلام) يومئذ يطرق الأبواب على المهاجرين والأنصار يتمنى ناصراً لقضيته، فلو كان ممّن يضيّع رشده بالمواعيد الخلابة لاغتنم من أبي سفيان هذا العرض، ولكن الإمام عرف سوء قصده ـ وقصده الصيد في الماء العكر ـ فأجابه بالرد والاستنكار قائلاً له: «مه يا أبا سفيان أجاهلية وإسلاماً».

أي إنّك تتربص دوائر السوء بدين محمّد (صلى الله عليه وآله) في عهديك: عند الجاهليه وعهد الإسلام، وتفرّس سوء مرامه من كلامه وأنّه انتهز فرصة الخلاف من حاشية النبي (صلى الله عليه وآله) وقصد احتلال مدينة الرسول عاصمة الإسلام بحجّة نصرة الضعيف أو تسوية الخلاف، وما جيوشه سوى مردة العرب من أهل النفاق فاذا نزل هؤلاء في عاصمة التوحيد سادت منافقة العرب، وعادت مبادىء الجاهلية ـ والناس حديثو عهد بالإسلام ـ فيكون الرجعيون أولى بالقوة والنصرة والموحدون أولى بالضعف والذلة «ويخرجن الأعز منها الأذل». قرأ هذه الشروح وأكثر منها علي (عليه السلام) من كلمة من أبي سفيان فرده رداً قارصاً، لأنّ علياً رجل الحق وبطل الإيمان لا يضحّي الدين أو المصلحة العامة في سبيل نفع ذاتي أو شهوة وانتقام.
ولما عرف أبو سفيان أنّ علياً (عليه السلام) لا ينخدع وأنّه عند تداخل الأغيار ليصافح إخوانه المسلمين ويتحد معهم لحفظ بيضة الدين ـ مهما كان ضدهم وكانوا أضداده ـ ندم أبو سفيان على لفظته، وهرع إلى الحزب الغالب، وانضم إليهم ليحفظ مركزه الاجتماعي قبل أن يخسر الطرفين وتأخرت منوياته إلى حين، حينما يخضر عود أمية بإمرة معاوية على الشام وعود سلطانهم.
وبعدما نبغ فيهم معاوية أخذ على عاتقه القيام بنوايا أسلافه ومعه يومئذ أبوه ينصب علياً (عليه السلام) ـ دون المسلمين ـ هدفاً لسهامه الفتاكة، إذ عرفه الينبوع الوحيد </span>
الصفحة 62 لسيال وحي المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وأنّه البطل المناوىء لهم بكل قواه، والعميد القائم ببيت بني هاشم، والمركز القوي لابادة الحركة السفيانية، وأنّ علياً هو وأبوه نصيرا محمّد (صلى الله عليه وآله) حين لا ناصر له حتى أنه فداه بنفسه ليلة مبيته على فراشه، وضيع على قريش هجرته، ونقض ما أبرموه عليه، وعلي القاتل صناديد قريش وأركان حزبهم في بدر وغيرها، ولولاه لقضوا على حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بدر وأُحد والخندق، وعلي الفاتح قلوب أهل مكة في وجه محمّد المصطفى إذ تلا عليهم سورة البراءة في الموقف العام العصيب بكل ثبات وجسارة وإقدام ـ الأمر الذي لم يكن يقوم به أحد من المسلمين إلى غير ذلك من مواقفه المهمة التي ضيع فيها على أمية مكايدها وكانت صدور أمية تغلي كالمرجل على رجل الإيمان.

</span>
الصفحة 63
دوافع يزيد الانتقامية


لقد تستّر ابن هند والحزب الأموي في اخفاء غرضه تحت مخابيء السياسة المطلية بدهائهم، لكنما أخلاقه ـ أمثال يزيد والوليد ـ كشفوا القناع بأفعالهم وأقوالهم عن كل ما أُجني وأُخفي على الملأ، فتجلى كالشمس أنّهم يبتغون التشفي والانتقام من محمّد وأهل بيته بكل معاني التشفي، إذ لم يسكت عن الحسين كما سكت عن ابن الزبير، وخالف في ذلك وصاية أبيه وبرنامجه ثم لم يسالم الحسين كما سالمه ولم يقنع بخروجه عن مناطق نفوذه وحدود سلطانه ـ كما اقترح عليه الحسين نفسه ـ ولم يجالدوا ابن النبي مجالدة عربي لعربي، بل ضيّقوا عليه سبل الحياة، ومنعوه من ورد الفرات، وحاصروه بنسائه وأطفاله في الفلاة، ومثَّلوا به وبصحبه بعد القتل شرّ مثلة، وجرّدوهم تاركين أشلاءهم عراة على العراء تسفي عليهم الرياح، وقطعوا رؤوسهم واداروا بها على فوق الرماح، وسبوا صبية الحسين ونساءه يطاف بهن في الآفاق وفي الأزقة والأسواق، موثقين بالحبال كالأغنام وحولهم طبول وأبواق، يضع أميرهم الرأس الشريف بين يديه وينكت برأس الخيزران ثناياه وشفتيه ويقول شامتاً:


يا حبذا لونك يا حسينكحمرة الوردة في الخدين.. الخ


ويسبّون الحسين وأباه وأخاه سراً وجهراً، وينتحلون الأحاديث القادحة في </span>
الصفحة 64 عليّ وصحابته، ويهتكون حُرَم اللهورسوله وحُرُمات الدين، ويفعل يزيدهم طغياناً في مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) ما فعله فرعون، ويزيد يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم فراثت خيلهم في روضه النبي (صلى الله عليه وآله) واستباح عسكره المدينة ثلاثة أيام وافتضت بها اثنى عشر ألف عذراء، ولم تسلم حُرّة في واقعة الحرّة، إلاّ من لذن ببيت السجاد علي بن الحسين (عليه السلام) وهنّ ستمائة من الهاشميات وغيرهن، فقد استثنى يزيد بيته وشخصه من الاضطهاد والاستعباد إذ أمر قائده أن يجدد مبايعة اليثاربة له على أنّه عبيده إن شاء باعهم وإن شاء أعتقهم.

وروى الجاحظ: «إنّهم وسموا العباد، ووشموا الأجساد» ـ كما يفعل بالأنعام والكلاب ـ علامة انّهم خول لبني أمية، ورأوا أنس بن مالك ـ خادم رسول الله وصاحبه ـ وفي عنقه قلادة مختوم عليها بالرصاص علامة عبوديته لهم، وأحرقوا ستار الكعبة، ورموها بالمنجنيق، وقتلوا الطائفين والعاكفين، وسفكوا الدم الحرام، في البلد الحرام، وفي الشهر الحرام، وحولوا قبلة واسط الى الشام.
</span>
الصفحة 65
معاوية وتعقيباته


ناصب معاوية وحزبه علياً وصحبه وكان ما كان من أيام البصرة وصفين والنهروان وعلي (عليه السلام) في كلّها غير مخذول، ولا يزداد معاوية إلا حقداً عليه وموجدة، وتعقب الضغائن إثر الضغائن، وكان معاوية رجل الغدر وحليماً إلاّ على علي (عليه السلام) وخاصته.
فلما توفي علي (عليه السلام) سنة 40 بسيف ابن ملجم الخارجي ساجداً في محرابه، زال من بين عيني معاوية ذلك الشبح الرهيب الذي كان يخيفه في منامه وفي خلواته، وقويت عزائمه وتوجهت شطره أكثر النفوس التي كانت رهن سجايا علي (عليه السلام) وعلومه ومنقادة لصوته وسوطه وصيت شجاعته وسماحته، لا سيما وأنّ الآثار النبوية المشهورة فيه كانت لا تقاس كثرة وشهرة بما ورد في شأن غيره، والخدمات التي قام علي بها كانت قاطعة الألسن فضلاً عن طول عهد الإمارة لمعاوية وانتشار حزبه الفعال وتوزيعه الأموال.
هذه العوامل وغيرها ضيّقت دائرة النفوذ على الحسن بن علي (عليه السلام) وخليفته ووسعت المجال لمعاوية وحزبه، فانتقم من علي بعد وفاته وسبَّ علياً على المنابر، والمنائر، والألسن، والكتب.
ويا بؤسها من حيلة ووسيلة لاستئصال مجد بني هاشم بثلب كبيرهم وقد قال </span>
الصفحة 66 ابن عباس: «إنّهم يريدون بسب علي سبّ رسول الله» ثم لم يقنع بذلك فأخذ يتتبع خاصة علي (عليه السلام) بالسم والعسل ويقول: «إن لله جنوداً من عسل» يعني السم المرسول إلى أعدائه، ولم يسع حلمه أصحاب علي وبنيه قط فدس سماً ذريعاً إلى زوجة الحسن السبط فقتلته اغتراراً بموعد زواجها من يزيد.

</span>
الصفحة 67
تأثرات الحسين الروحية


هنا حري بنا أن ندرس حالة الحسين (عليه السلام) ذلك المتفاني في حب شقيقه الحسن ماذا يجري على قلبه وهو يرى أحشاء أخيه مقذوفة في الطست من سم معاوية، ثم تمنع بدسيسة مروانيه جنازة أخيه من زيارة جدّه ـ وهما ريحانتاه ـ ويسمع سبّ أبيه وأخيه في المعابر وعلى المنابر وتنعى إليه صحابة أبيه من فتك معاوية بهم، وسحق العهود الشريفة،ومحق شعائر الإسلام، وتبديل سنن جدّه بالبدع، وتحويل الإسلام من روح دينيه عالمية إلى روح قومية ملكية، وتمهيد أُسس للرجعة إلى الجاهلية.
هذا كلّه عدا ما سبق من أمر معاوية وعلي (عليه السلام) في حروب وفتن أوجدها معاوية لأغراض ذاتية، وفتّ في عضد الدين، وشتت بها شمل المسلمين. أضف عليها ما جرى على جدّه المصطفى (صلى الله عليه وآله) من الحزب السفياني أثناء البعثة وبعد الهجرة. أفلا يكون بعد ذلك كله قلب الحسين دفتراً ملؤه المؤلمات؟! ولابد وأن تكون هذه الموجدات في الحسين (عليه السلام) وفي صدره بركاناً قوياً مشرفاً على </span>
الصفحة 68 الانفجار، وحسين الشهامة لم يكن بالذي يقيم على الضيم لولا أنّ الوصيّة تتلو الوصيّة من أخيه وجدّه وأبيه وخاصة مواليه بالصبر، «والصبر أمرّ من الصبر».

</span>
الصفحة 69
كيف يبايع الحسين


غريب والله أنّ يزيد المشهور بالسفاسف والفجور يريد التقمص بخلافة النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) المبعوث لتكميل مكارم الأخلاق، وذلك في حياة الحسين (عليه السلام) ابن ذاك النبي وحبيبه. فيزيد يعلم نفسية الحسين ويعلم أنّ صدر الحسين (عليه السلام) أصبح بركاناً قريب الانفجار، ومع ذلك لا يقنع بسكونه وسكوته عما هو فيه، بل يريد منه فوق ذلك كلّه أن يعترف له بالخلافة عن الرسول، وهل ذاك إلاّ رابع المستحيلات؟ فإنّ اعتراف الحسين (عليه السلام) بخلافة يزيد عبارة أخرى عن أنّ الحسين ليس بالحسين «أي إنّ معنى قبوله البيعة ليزيد بيع دين جدّه، وكل مجده، وكل شعور شريف للعرب، وكل حق للمسلمين، وكل آمال لقومه يبيعها جمعاء برضى يزيد عليه» وهذا محال على الحسين (عليه السلام) وعلى كل أبطال الفضائل، فإنّ قبوله بيعة يزيد عبارة أخرى عن اعترافه بتساوي الفضيلة والرذيلة، واستواء العدل والظلم، واتحاد الحق والباطل، وتماثل النور والظلام، وأنّ العلم والجهل مستويان، وأنّ الخفيف والثقيل سيان في الميزان، فهل يسوغ بعد هذا كله سكوته وسكونه؟!
وقد يزعم البسطاء أنّ الحسين (عليه السلام) لو استعمل التقية وصافح يزيد لاتّقى ببيعته شرّ أمية، ونجا من مكرها، وصان حرمته، وحفظ مهجته، لكن ذلك وهم بعيد...
فإن يزيد المتجاهر بالفسوق لا يقاس بمعاوية الداهية المتحفظ، فبيعة مثل الحسين (عليه السلام) لمثل يزيد غير جائزة بظاهر الشريعة، ولذلك تخلّف عن بيعته سعد بن بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الزبير </span>
الصفحة 70 أيضاً فأنكروا على معاوية استخلاف يزيد وامتنعوا عن بيعته حتى فارقوا الحياة، وكان سيدنا الحسين (عليه السلام) أولى بهذا الامتناع والإنكار.

وأمّا مع غضّ النظر عن التكليف الشرعي ومطالبة وجه غير التمسك بظواهر الكتاب والسنة فنقول: إنّ التحري في الوثائق التاريخية والكتب المعتبرة يؤدي إلى الاعتقاد بأنّ سيدنا الحسين (عليه السلام) كان يعلم بانطواء خصومه على نية التشفّي من قتله، وقد صرح في مواطن عدّة بأنّ بني أمية غير تاركيه حتى لو كان في جحر ضب لاستخرجوه وقتلوه، وقال (عليه السلام) للعكرمي في بطن عقبة: «ليس يخفى عليّ الرأي ولكنهم لا يدعونني حتى يخرجوا هذه العلقة من جوفي» وأكد ابن زياد نية التشفّي من قتل الحسين (عليه السلام) في كتابه لابن سعد قائلاً: «حل بين الحسين وأصحابه وبين الماء فلا يذوقوا منه قطرة، كما صنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان». وأعلم يزيد نفسه بما يضمره من الانتقام من آل محمّد كما قال:


لست من خندف إن لم انتقممن بني أحمد ما كان فعل


الى غير ذلك من الشواهد التي نستنتج منها ما قصده الأمويون من الانتقام من آل الرسول (صلى الله عليه وآله) علم ابن النبي (صلى الله عليه وآله) من كل هذا تصميم آل حرب على انتقامهم من آل علي مهما تظاهر هؤلاء بمسالمتهم ومطاوعتهم ومهما تظاهر آل حرب لهم بالأمان والإيمان، وقد أكد هذا العلم غدر ابن زياد بابن عمّه مسلم واعطاؤه الأمان حتى إذا خلع سلاحه قتله شرّ قتلة، وأجلى من ذلك غدر معاوية بأخيه الحسن (عليه السلام) ودسه السم إلى من قتله بعد أن صالحه وصافحه وتنازل له عن خلافته المعقودة له، فهل ترى ابن النبي (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك كلّه يعيد الامتحان ويجرب المجرب؟ كلا! إذن فالحسن وجد نفسه مقتولاً إذا لم يبايع ومقتولاً إذا بايع، لكنه إن بايع اشترى مع قتله قتل مجده وقتل آثار جدّه أما إذا لم يبايع فإنّما هي قتلة واحدة تحيا بها آماله، وشعائر الدين، والشرف المؤبد.


توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس
قديم 2014/08/04, 02:46 PM   #3
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي

البيعة ليزيد


صفا لمعاوية الجو وملك نحو أربعين سنة ملكاً قلّما يسمح الزمان بمثله، وهوفي خلال ذلك لا يفتر عن عمله ليله ونهاره فيستكثر أعوانه، ويعزّز إخوانه ويستحوذ على من يشاء بما أُوتي من مال ودهاء، واستمال إلى أهوائه أمثال زياد وابن العاص والمغيرة من الدهاة فمد أطناب حزبه ورواق مأربه، وانقادت إليه حتى آل هاشم. ولكن الرجل استحب دوام هذا السؤدد لبيته ومن يخلفه في إنفاذ نواياه، إذ عرف أنّ سلطانه وقتي وقسري ـ وما كان بالقسر لا يدوم ـ فأراد إثباته في بيته مادام حياً; لأنّه يخشى من موته انقلاب الأمور على بنيه، لا سيما وابنه يزيد موضع نقمة الجمهور وفي الناس مَن هو أقدم منه وأولى، فأخذ البيعة ليزيد حال حياته ـ بعد أن ذلل الصعاب ومهّد السبل لغاياته ـ غير أنّ الأُباة أبوا عليه البيعة ليزيد، واتخذت عملية معاوية هذه كمناورة يمتحن بها مخالفيه، ثم أوصى ولده يزيد بأن لا يمس هؤلاء بسوء إذا أبوا عليه البيعة بعد موته إلاّ ابن الزبير، والسر فيما ارتآه داهية قريش هو أنّ البعض من هؤلاء ضعيف النفس مسبوق بغضاضة.
وأما الحسين السبط فنفس أبيه بين جنبيه ويخشى على البيت الأموي من التعرّض له، وبما انّه رجل الفضيلة يؤمل فيه أن يستمر على سكوته وسكونه إذا </span>
الصفحة 72 علم برغائبه ومداراته، ويخشى من قيامه أن يقوم الحجاز والعراقان معه حين لا معاوية لديه ولا ابن العاص.

أمّا ابن الزبير فذو نفسية حربية مع أعدائه وذو دهاء مع رقبائه ولكنه كأبيه شحيح لا مطمع فيه، فالعدو لا يأمن منه والصديق لا يأمل فيه، فاستهان القضاء عليه من دون توقع محذور في معاداته. ولكن يزيد لم يعمل بهذه الوصيّة إذ أنّه عاش عيشة ترف قضاها في الصيد والسكر واللهو، ومثل هذه التربية تسوق صاحبها لعبادة الهوى والاغترار بسلطان الشهوات، فلا يحترم قديماً، ولا يحتشم عظيماً، ولا يحتفل بالدين، ولا برغائب الجمهور.
وعليه فما مات معاوية إلاّ والأوامر تترى من يزيد على ابن عمه الوليد ـ والي المدينة ـ بأخذ البيعة له من الناس عامة ومن الحسين وابن الزبير خاصة فتلقى الوليد بن يزيد بن أبي سفيان أوامره بكل رهبة واحتياط، وكان يعرف سوء سمعة يزيد كما يعرف حسن شهرة هؤلاء عند المسلمين عامة وعند أهل الحجاز خاصة، فأدت سياسته إلى إعلام هؤلاء بالأمر بصورة ودية مع المداراة لرغائبهم وحركاتهم قبلما يأخذ البيعة العامة في مسجد النبي ليزيد كخليفة، فأرسل إلى الحسين والى ابن الزبير ليحضرا لديه فجاءه الحسين (عليه السلام) ومعه ثلة من أقربائه، ولم يدخلوا معه فاستقبله الوليد بالترحاب ومروان(1) جالس متغيّر وتكاد تقرأ ما في
____________
1) هو مروان بن الحكم بن العاص بن أُمية.
ولد في السنة الثانية للهجرة وطرده النبي (صلى الله عليه وآله) مع أبيه الى الطائف لأنّ أباه الحكم أسلم مع أبي سفيان يوم الفتح كرهاً ونفاقاً وكان يستهزىء بالنبي (صلى الله عليه وآله) إذا غاب عنه ويهجس الى المشركين بأخباره، فدعا النبي (صلى الله عليه وآله) عليه وطرده فأواهما عثمان في خلافته واتخذ مروان كاتباً عنده، فنقم المسلمون ذلك عليه لا سيما بعد تزويره كتاباً عن لسان الخليفة يأمر فيه عامل مصر بقتل محمّد بن أبي بكر ورسل المدينة.
وكان مثار الفتن يوم الدار وفي الحروب التي أقامها معاوية ضدّ الامام علي (عليه السلام) وبايع الإمام نفاقاً كما أسلم أبوه نفاقاً وسرعان ما نكث البيعة وخرج مع طلحة الى حرب البصرة ثم رمى طلحة. ولما أسره الإمام (عليه السلام) تشفّع فيه الحسن (عليه السلام) فخلا سبيله. ولما تقدم ليجدد بيعته أبعده الإمام قائلاً: «لا حاجة لي في بيعته إنّها كف يهودية، أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقى الأمة منهم يوماً أحمر». ثم هرب مروان الى معاوية وخرج الى صفين، وبعد صلح معاوية مع سيدنا الحسن (عليه السلام) تولى إمارة المدينة فالحجاز كلّه، وأخذ فدكاً لنفسه، ثم أساء معاوية الظن فيه فعزله. وبعد موت معاوية بن يزيد تولى الخلافة ثم خنقته زوجته سنة 65 هـ بالشام.

الصفحة 73 قلبه من سحنات وجهه. وابتدأ الوليد ينعى معاوية فاسترجع الحسين (عليه السلام) ثم قال الوليد: «إنّ يزيد استحب اقتراح البيعة فماذا ترى؟» فأجابه الحسين: «إنّ البيعة تحسن من مثلي لمثل يزيد أن تكون علانية وبملأ من الناس، فالأولى أن تؤجلها إلى موعد اجتماع الناس في المسجد» فأجابه الوليد بكل لين وتساهل، غير أنّ مروان عكر صفو السلم، وقال: «يا أمير لا تدع حسيناً يخرج من عندك بلا بيعة فيكون أولى منك بالقوة وتكون أولى منه بالضعف، فاحبسه حتى يبايع أو تضرب عنقه» فوثب عندئذ حسين المجد قائلاً: «يا ابن الزرقاء! أنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله ولئمت» ثم انصرف هو وبنو هاشم.

كان الوليد ومروان كلاهما يبغيان إخضاع الحسين (عليه السلام) ليزيد ولكن ذاك بالسياسة وهذا بالتهديد، وكأنّ الوليد أراد أن يستميل قلب الحسين ويسترق من لسانه كلمة القبول ـ ولو سرا ـ لعلمه أنّ الحسين رجل الصدق والثبات، فلا يعدل عن كلمته وليس بذي لسانين، إسرار وجهار، ولا ذا وجهين محضر ومغيب.
أمّا مروان فكأنّه علم أنّ المسلمين إذا اجتمعوا في مسجد النبي بين قبره </span>
الصفحة 74 ومنبره، وحضر لديهم ريحانة النبي وبنو هاشم وقوف وبنو الأنصار جلوس، فإن المؤثرات المعنوية والحسية لا تسفر إلاّ عن البيعة للحسين وخسران صفقة يزيد.

وبالجملة فإنّ مروان نقض على الوليد أمراً كان قد أبرمه، غير أنّ الخبر لم ينشر خارج المدينة لمراقبة الوالي وفقد وسائل المخابرات. أما الحسين (عليه السلام) فقد عرف أنّ مروان سوف يخابر يزيد على عزل الوالي أو يحمل الوالي على الوقيعة بالحسين وآله، وأنّ يزيد وحزبه ينقادون لإرادات مروان بشخصيته البارزة في الحزب السفياني، وقديم عدائه للنبي وآله. وقد كان هو وأبوه طريدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعلونين على لسانه(1) فلا بد وأن ينتقم من ريحانة الرسول (صلى الله عليه وآله) بالمثل أو يزيد، فلم يجد الحسين (عليه السلام) بدّاً سوى الهجرة الى حرم الله.

____________
1) قال الجاحظ في رسالة المفاخر: إنّ مروان بن الحكم كان هو وأبوه ملعونين على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) وطريديه من المدينة مدة حياته، ثم في عهد أبي بكر وعمر كلما تشفّع عثمان فيهما وفي إيوائهما لم يجد حتى ولي عثمان فآوي مروان إلى المدينة على كره المسلمين ذلك حتى كان هذا الأمر أحد أسباب قيام المسلمين على عثمان وقتله».

الصفحة 75
نظرة في هجرة الحسين


يصف الواصفون لتاريخ الحسين (عليه السلام) أشد ليالي حياته عليه ليلة مقتله في الطف، تلك الليلة التي حوصر فيها هو وذووه في بقعة جرداء وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ومُنع حتى من شرب الماء المباح فلم تهجع عيناه حتى الصباح، ولا يبعد أن يكون أشد ليالي الحسين ليلة مرجعه من مجلس الوالي في المدينة وحيرته في سيرته مع القوم الظالمين، إذ كان الحسين (عليه السلام) ليلة مقتله على بصيرة من أمره، وأن ليس بينه وبين الجنة سوى سويعات; لكنما الحسين (عليه السلام) في ليلة هجرته من مدينة جدّه كان في جهاد فكري وألم عقلي يفكر في مبايعته ليزيد وكونها ضرباً من المحال، ثم يفكر في بقائه في حرّم جدّه، ولكن ذلك استسلام لمروان فيما يفعل به وبأسرته من قتله المستلزم لقتال رجاله وذبح أطفاله ونهب أمواله وإرسال بناته مع رأسه إلى يزيد.
كان مروان ممن يفعل ذلك ويزيد عليه تشفيّاً لنفسه وانتقاماً لأمية وتزلفاً ليزيد. ولم يكن ابن مرجانة بأوتر منه ولا أشقى، إذن فبماذا يصنع الحسين (عليه السلام)؟ إلاّ أن يهاج إلى مكة ابتغاء الابتعاد من المنطقة المروانية، ولقاء وجوه المسلمين في الحج، وانتظار الفرج. ولكن كيف يهاجر بأسرته الوفيرة العدد بلا عُدد؟ والهجرة بالأهل ليس بالسهل، لا سيما في مسالك وعرة غامضة الحال مبهمة </span>
الصفحة 76 الاستقبال. وفي النهاية اختار الحسين (عليه السلام) هذا الرأي الأخير على حراجته، وأوصى بذلك إلى إخوانه ورجال أُسرته وهم يلبونه فيما يرغب مهما كانوا كارهين مع التأهب لما يجب كما يجب إلاّ محمّد بن الحنفية فإنّه سأل أخاه البقاء في حرم جدّه بين أنصاره، فأجابه الحسين (عليه السلام) بمبلغ عداوة يزيد معه وسوء نيّته فيه وضعف ثقته في ناصريه.

فقال ابن الحنفية: «إن كان ولا بدّ من ذلك فما معنى حملك النسوة والذرية؟» فلم يجد الحسين (عليه السلام) مقنعاً لأخيه إلاّ أن يقول له: إنّه من فرط الحب المتبادل بينه وبينهن لا يستطيع فراقهن كما لا يرضين بفراقه، ولو جرى عليهن ما شاء الله أن يجري، فقال ابن الحنفية: «إنك يا أخي أحب الناس إليّ وأعزهم عليَّ، ولست أدخر النصيحة لغيرك، تنح ببعيتك عن يزيد، ثم ابعث رسلك إلى الناس، فإن بايعوك حمدت الله وإن اجتمعوا على غيرك لم ينقص دينك ولا فضلك ولم تذهب به مروتك» قال الحسين (عليه السلام): «فأين أذهب يا أخي؟» قال: «انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فيه وإلاّ لحقت بالرمال والجبال، ومن بلد إلى بلد حتى تنظر ما يصير إليه الناس فتكون أصوب رأياً» فجزاه الحسين خيراً.
وقد استبقاه أخوه لضرورة وجود من يعتمد عليه في مركزه عماداً للبيت ومحافظاً لودايع أهله كما استبقى على مثل ذلك ابن عمه عبد الله بن جعفر الطيار.
وكان عبد الله بن جعفر ختن الحسين على أخته وشقيقته زينب العقيلة بنت علي (عليه السلام). ولما علم عبد الله بتوجه الحسين من مكة نحو العراق، ألحقه بولديه عون ومحمّد(1) وكتب على أيديهما إليه كتاباً يقول فيه: «أما بعد; فإنّي اسألك بالله لما
____________
1) في مقاتل الطالبيين: «إن عون بن عبد الله بن جعفر أُمه زينب العقيله إلى أن قال: والعقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة (عليها السلام) في فدك فقال: «حدثتني عقليتنا زينب بنت علي» أمّا أم محمّد فهي الخوصاء.

الصفحة 77 انصرفت حين تنظر في كتابي، فإنّي مشفق عليك من الوجه الذي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستيصال اهل بيتك، وإن هلكت اليوم طفي نور الأرض، فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالمسير فإنّي في أثر كتابي والسلام».

وسار عبد الله إلى عمرو بن سعيد فسأله أن يكتب للحسين (عليه السلام) أماناً ويمنيه ليرجع عن وجهه. فكتب إليه عمرو بن سعيد ولحقه بحيى بن سعيد وعبد الله بن جعفر بعد نفوذ ابنيه ودفعا إليه الكتاب وجهدا في الرجوع فقال: «إنّي رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المنام وأمرني بما أنا ماض له» فقالا: «فما تلك الرؤيا؟» قال: «ما حدثت أحداً بها ولا أنامحدث حتى ألقى ربّي عزّ وجلّ» فلما آيس منه عبد الله بن جعفر أمر ابنيه عوناً ومحمّداً بملازمة الحسين والمسير معه والجهاد دونه.
لقد فشل ابن سعيد ـ والي الحجاز بعد الوليد ـ في تدابيره لاقناع الحسين بالرجوع إلى مكة كي يحصره فيها وفي منطقه نفوذه، وقنع عبد الله بن جعفر الطيار عن الإمام بإجازة بقائه في وطنه وقنع الحسين (عليه السلام) منه بإرسال شبابيه الباسلين، وقد كانا ناصريه بالنفس والنفيس وكانت أُمهما زينب نصيرته في نهضته، وخليفته على صبيته، وسلوته من كل أحزانه، ومديرة أمر عياله وبيوت أصحابه ورجاله، ولولاها لا نفرط عقد يتماه بعد قتله، ولولاها لانتشر نظام أهله بعد انتهاب رحله، ولولاها لقضي على خلفه العليل وانقرض نسله الأصيل.
</span>
الصفحة 78 </span>الصفحة 79
هجرة الإمام من مدينة جدّه


سار حسين النهضة من حرم جدّه ولم يقتصر في الوداع على قبره الطاهر إذ المسافر يوادع من وطنه المحبوب كلما وقع نظره عليه من صحاب وأحباب وغيرهما حتى الماء والتراب، أما ركب الحسين (عليه السلام) فكانوا يوادعون الربوع وداع من لا يأمل الرجوع.
خرج الحسين من حرم جدّه (صلى الله عليه وآله) خائفاً يتقرب يناجي ربه لينجيه من فراعنة مصره ونماردة عصره ذكراه رحمة ربه، ومبدؤه خوف ربه، وغايته ببيت ربه. سائراً في المنهج الأكبر ـ أي الشارع السلطاني ـ فقيل له: «لو تنكبت الطريق كما فعل ابن الزبير لئلا يلحقك الطلب» فقال: «لا والله لا أُفارق الطريق الأقوم حتى يقضي الله ماهو قاض» ونزل مكة يوم الجمعة ثالث شعبان وهو يتلو: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
</span>
الصفحة 80 </span>الصفحة 81
الهجرة الحسينية وانقلابات حول الستين


للحوادث أدوار تتعاقب كالليل والنهار، والتاريخ يعيد نفسه باختلاف الأطوار، فما اشبه هجرة الحسين (عليه السلام) بأهله من المدينة إلى مكة خوفاً من اّل أبي سفيان بهجرة جدّه محمّد (صلى الله عليه وآله) بأهله إلى المدينة من مكة خوفاً من أبي سفيان وحزبه، وبين اليومين نحو ستين عاماً، كذلك مجد أُمية وأبي سفيان انقرض في فتح مكة على يدي محمّد بن عبد الله النبي الهاشمي (صلى الله عليه وآله) وانقرضت ثانيةً دولة آل أبي سفيان بعد مقتل الحسين (عليه السلام) ببضع سنين، وبين اليومين نحو ستين عاماً،.. ثم بنيت على أنقاضها حكومة مروانية عاشت نحو ستين عاماً، ثم انقرضت هي وكل مجد لأُمية على يدي محمّد بن عبد الله القائد الهاشمي.
وأولوا المبادىء والهمم والعلماء بمجاري الحركات في العالم لا تبرد عزائمهم مهما خابت مساعيهم ويواصلون المسعى بالمسعى وإن فشلوا والدهر دوار، وللتاريخ تكرار، وللنفوس إقبال وإدبار. فالناهض بفكرة صالحة لابدّ وأن يثابر على نشرها والدعوة إليها ثابت العزم راسخ القدم لا تزحزحه عواصف العواطف ولا تزلزله قواصف المخاوف. ولكن عليه أن يستخدم في سبيلها العبر والغير والأحوال، وبقاء الحال محال، حتى لو وجد محيطه بالغ الفساد غير صالح للإصلاح استبدل عن المكان بمكان، وعن الجيران بجيران، تلك سنّة الأنبياء </span>
الصفحة 82 والمصلحين حتى إذا فاز بهيئة صالحة وقوة مسلحة عاد إلى مركزه ـ والعود أحمد ـ كذلك محمّد (صلى الله عليه وآله) من مكة ثم اليها وذياك موسى من مصره ثم إليه.

وليس حسين التاريخ بدعاً من رسل الإصلاح إذا هاجر من موطنه خوفاً على مسلكه أو أملاّ بنهضته وكيف كان فقد سمعت الأسباب التي دعت حسيناً أن يغادر يثرب خائفاً يترقب فاسمع الآن آثار هذه الهجرة وحسن انعكاسها في العالم الإسلامي، وقد سبق أنّ المخابرات بين المدينة والمدن كانت تحت المراقبة ومفقودة الوسائل والوسائط فصارت حركة الحسين (عليه السلام) قضيه ذات بال تناقلتها المحافل والقوافل والناس بعد حلول أم القرى ومن حولها سوابل جاريةً إلى الجهات. فانتشر الخبر بأهمية لا مزيد عليها حتى صار حدث كل اثنين يجتمعان.
س ـ ما وراك؟
ج ـ هاجر الحسين (عليه السلام) من مدينة جدّه.
س ـ لماذا؟
ج ـ لأنّ يزيد قصد إرغامه على مبايعته.
س ـ نعم! نِعم ما صنع الحسين (عليه السلام) فإنّه لو بايع يزيد الجائر المتجاهر بفسقه فعلى الإسلام السلام، إذاً ماترى أن يكون؟
ج ـ ليس سوى اجتماع المسلمين حوله ونصبه خليفة كأبيه علي (عليه السلام) ليحيي بعلمه معالم دين جدّه، ويحامي بغيرته الهاشمية عن مصالح المسلمين، وينفذ بقوة إيمانه العلوي أحكام القرآن النازل في بيته.
هذه وأمثالها كانت أحاديث أكثر المجاميع يومئذ في الحجاز أولاً وفي سائر الأقطار بعده، وما فاز الحسين بهذه الإذاعة والإشاعة إلاّ بخروجه من المدينة مظلوماً وناقماً على الظالمين.
</span>
الصفحة 83
الحسين وابن الزبير


استقوت بحركة الحسين (عليه السلام) عزائم ابن الزبير، وجهر بخلاف يزيد، ورفض بيعته، ولازم مكة أُم القرى يسلك مسلك الحسين، إلاّ أنّ غايته كانت الدعوة إلى نفسه في حين أنّ الحسين (عليه السلام) لم يصرِّح بالدعاء إلى شخصه وإنما أجهر برفض بيعة يزيد فقط، وبالتقيّة من شرّ أمية راضياً بأن يخلّى له السرب كي ينفذ إلى ثغر من الثغور، كذلك الشريعة تقضي على المسلم إذا لم يسعه إظهار دينه في بلده أن يهاجر منها إلى مأمن لا يضطر إلى التقيّة، وسبط الرسول (صلى الله عليه وآله) أحرى بالتزام شريعته. وكان يتسع نطاق شيعته يوماً فيوم لإخلاص الحسين (عليه السلام) في أمره، وجلي فضله، وسمو شرفه، وكرم محتده.
لكن حزب ابن الزبير ـ وإن كان صغيراً ـ قد نفع الحسين في تنفير العامة من بني أُمية وكانت لابن الزبير وأبيه سابقة سوء مع علي (عليه السلام) في بدء خلافته بالرغم من القربى الماسة بينهم حتى قال عنهما علي: «لم يزل الزبير منا حتى نشأ ابنه عبد الله» لكنما الغاية المشتركة من خوف وضعف اتجاه العدو القوي دعتهما إلى تجديد عهود الولاء ونسيان سوالف البغضاء، فصار يزور كل منهما الآخر عشية وضحاها وقد صار لمظهر اتحاد ابن الزبير مع الحسين أثر حسن ورهبة في نفوس من عاداهم ومن عداهم، وذهبت الرسل من الحرمين الى يزيد بأخبار مذعرة </span>
الصفحة 84 وبصورة مكبرة دعته إلى التأهب عليهما بكل ما أُوتي من قوة ومكيدة، فأرسل عمرو بن سعيد والياً على المدينة وأميراً على الموسم مزوداً بالتعاليم وموعوداً بالتأييد، فقدم مكة ليلة التروية.

</span>
الصفحة 85
وضعية الإمام في مكة


حل الحسين في حرم الله مستجيراً به ممن يريدون إرغامه على مبايعته لرجل الجور والفجور، وقد استحسن المسلمون اعتصامه بالتقاليد المقدسة عند المسلمين فأخذ القادمون إلى الحجّ يتهافتون عليه، ويهتفون بالدعوة اليه، ويطوفون حوله هذا يلتمس العلم والحديث وذاك يقتبس منه الحكم النافعة والكلم الجامعة ليهتدي بأنوارهما في ظلمات الحياة والرجل بينهم مرآة الكرامة والشهامة ومثال الحكمة والسلامة، فطارت في الأقطار أخباره وآثاره، وتواترت الكتب والرسل والوعود والوفود لا سيما من كوفة العراق ـ عاصمة أبيه ـ من وجوه شيعته ومواليه إذ بلغهم هلاك معاوية فأرجفوا بيزيد وعرفوا خبر الحسين وامتناعه من بيعته وما كان من أمر ابن الزبير في ذلك وخروجهما إلى مكة، فاجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي فذكروا معاوية فحمد الله سليمان وأثنى عليه ثم قال:
«إنّ معاوية قد هلك وإنّ حسيناً أعلن على القوم خلافه وخرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا اليه، وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه.
قالوا: لا، بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه».
</span>
الصفحة 86 كتبوا إليه في أواخر شعبان، وشذّ أن ترى في الكتب المرسلة إليه كتاباً بإمضاء الواحد والاثنين، وإنما هي رقاع «مضابط» موقعة بأسماء آحاد وعشرات من وجهاء ورؤساء وشيوخ يعترفون بإمامته ويتمنون قدومه إليهم. بألفاظ جذابة ولكنها كذابة، ومواعيد جلابة لكنها خلابة، المشهور أحصوا عليه في أيام قلائل اثني عشر ألف كتاباً، فاختلفت عند ذلك الإشارات عليه من أصحابه وخاصته: فمنهم المشير عليه بإقامة مكة وإرسال عمّاله ودعاته إلى الجهات، ومنهم المشير عليه بالذهاب إلى اليمن منبت الإخلاص والإيمان ومهب الحكمة والعروبة. وقد سبق منهم لأبيه ولاؤهم الصادق منذ ولايه النبي (صلى الله عليه وآله) عليهم ـ لولا أنّ المتوجه إلى اليمن ينقطع خط رجعته كما تنقطع مواصلاته مع الآفاق ـ ومنهم المشير عليه بالمسير إلى العراق، عاصمة أبيه، وموطن أصحابه ومواليه، ومعدن الفروسية والفراسة، ومنبت الأموال والرجال، وهما قوام كل حكومة.

</span>
الصفحة 87
الحسين يختار الكوفة


كانت خطة الحسين (عليه السلام) إلى حين تواتر الرسل والكتب إليه خطة دفاع عن نفسه والالتجاء من اّثام بيعة يزيد إلى ملجأ حصين.
غير أنّ صريخ البلاد والعباد وهتاف الأنصار والأمصار به وله وإليه حوّلا فكره من دفاع محدود إلى دفاع وسيع النطاق، رجاء نصرة الدين ودفع عادية الظلمة عن المسلمين فاستخار الله وندب إلى العراق ـ بعد ما كتب إليهم ـ ليث بني عقيل مسلماً ابن عمّه حتى إذا وجدهم على ما كتبوا إليه توجه إليهم بنفسه وأهله.
وكان مسلم كبقية آل علي رجل الصدق والصفاء ومثال الشجاعة والإيمان، فقام لأمر صهره وسيّده الحسين (عليه السلام) وماقدم الكوفة إلاّ وتكوّنت جماهير الرؤساء لأخذ يمينه يبايعونه نائباً عن الحسين وقد كان لآل علي (عليه السلام) وفي صدورهم عتاب مع أهل الكوفة في خذلانهم الحسن بن علي (عليه السلام) واغترارهم بدراهم معاوية. إلاّ أنّ حسن استقبالهم لمسلم محا كل عتاب وكفّر كل ذنب، لا سيما وأنّ الكرام سريعو الرضا والمصلح لا يحفظ غلاً أو حقداً.
فكتب مسلم إلى الحسين (عليه السلام) بإقبال العامّة وإخلاص الخاصّة، نادمين على ما فرّطوا في جنب البيت الهاشمي الذي كان سلطانه أنفع لدينهم ودنياهم. وحث الحسين (عليه السلام) على القدوم إلى العراق ليجدد على ربوعه معالم أسلافه.
</span>
الصفحة 88 </span>الصفحة 89
بنو أُمية والخطر الحسيني


أخذت قضية الحسين (عليه السلام) تحرك العزائم وتنبه المشاعر في الدوائر الأُموية، وساد القلق على حلفائهم وأوليائهم وهم عالمون أنّ حسيناً يضرب على أيدي الجائرين ولا يولّي فاسقاً أمر المسلمين، فغدت رجال الحكم الأموي ألسنة وعيوناً وأقلاماً وسيوفاً ضد الحركة الحسينية ـ لا سيما في مناطق العراق والحجاز ـ واستفزوا قبل كلّ شيء حكومة الشام والهيئة المركزية بالتأهب للخطر الهاشمي.
فكتب عمر بن سعد وعمارة بن عقبة وعبد الله بن مسلم وأضرابهم إلى يزيد: «أما بعد، فإن مسلم بن عقيل قدم الكوفة وبايعته الشيعة للحسين (عليه السلام) فإن يكن لك حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك، فإن النعمان بن بشير ـ والي الكوفة ـ رجل ضعيف أو يتضعّف» وكأنهم ورسلهم استلفتوا أنظار حكومة الشام إلى أنه إذا رسخت أقدامه بين النهرين وأهلوهما شيعة أبيه ومدائن كسرى تواليه ـ منذ وليها سلمان وتزوج بشاه زنان ـ فأنوار مبادئه تشعّ ربوع إيران فيكون له منهم أنصار المال، وأنصار الحرب، وأنصار الرأي والإدارة، وأنصار لنشر معارف القرآن وعلوم شرع جدّه الزاهر. فإذا توفق بهم على تكوين حكومة راقية صار أولى من أُمية بالولاية على الأقطار حتى الحجاز والشام; لأنّ المهيمن على العراق يهدد الحرمين وخطوط مواصلات الشام إليهما، وربما يجدد العراق على الشام حرب صفين حينما أرض الشام خالية من الداهيتين معاوية </span>
الصفحة 90 وابن العاص.

أما يزيد فلم يكن منه بادىء بدء سوى استشارة «سرجون» مولى أبيه معاوية في كتب القوم إليه، فأشار عليه باستعمال عبيدالله بن زياد على العراق، وكانت بينه وبين يزيد برودة وأبرز سرجون ليزيد عهداً كان معاوية قد كتبه في هذا الشأن قبيل وفاته حسب ما ذكره المؤرخون(1) فوافق يزيد على ذلك وأنهى إلى ابن زياد عهده وكتب إليه: «أما بعد، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفها وتوثقه أو تقتله أو تنفيه» فأخذ ابن زياد من كتاب يزيد ورسوله قوة وبصيرة وصلاحية واسعة في المال وبث المواعيد.
رأت حكومة يزيد من الدهاء والحزم سكوتها عن ابن الزبير موقتاً حتى يحسم الزمان أمر الحسين (عليه السلام) الذي أصبح يهدد كيان أُمية أي تهديد، فإذا قضت أُمية لبانتها من الحسين سهل أمر ابن الزبير عليها; لأنّ الرعب يسود على أضداد يزيد بعد الإجهاز على الحركة الحسينية; ولأنّ موقع ابن الزبير في النفوس ليس كموقع الحسين منها، لا سيما وابن الزبير شحيح ـ ولا يسود إلاّ من يجود ـ ولأنّ ابن الزبير لم يرتبط ببلاد ذات خيرات وبركات كالعراق حتى يستفيد من ميزتها وذخيرتها لجيشه لو انتضى له جيش. فلو فرض استمراره على خلاف يزيد بعد الحسين فجند أُمية تحاصره في بلاد الحجاز القاحلة بين الجبال والرمال حتى يسلم هو وجنده أو يقاتل وحده، والوحيد مغلوب.

____________
1) كما في العقد الفريد ج2 ص306 وإرشاد المفيد ص84.

الصفحة 91
الكوفة بنظر الحسين


شاعت مبايعة العراق للحسين (عليه السلام) بالإمامة ففرح أولياءه وأهل الحرمين وتفاؤلوا من ذلك بعود الحق إلى أهله، عسى أن تموت البدع وتحيا السنن. لكن خاصة الحسين ـ بعد الاطلاع على سفرمسلم إلى العراق ـ كانوا بين محبذ ومخطّىء ويمثل الأخير عبد الله بن عباس فجاء إلى الحسين (عليه السلام) يحذّره من الرواح إلى العراق ويذكّره بخذلانهم أخاه وعصيانهم أباه في حين أنّهم لم يكونوا يحلمون بإمام كأبي الحسن (عليه السلام) أشرف الناس، وأذكاهم، وأفصحهم وأسخاهم، وأعلمهم، وأتقاهم يلبس الخشن ويكسوهم حلله، ويبيت طاوياً وينفق عليهم مأكله، ويكد من سعي وسقي، وتصدق على الفقراء. وإذا شنّت علهيم الغارات فهو في مقدمة المدافعين عنهم، يخوض بنفسه حومة الوغى حتى يهزم الجمع ويولون الدبر. فأي إمام يكون لهم كعلي وكيف كافئووه وأهله في حياته وبعد وفاته؟!
نعم; ابن عباس كان حبر الأُمّة وولي الأئمة، ربّاه أميرالمؤمنين (عليه السلام) وعلّمه وأسرّ إليه من صفوة معارفه، وكان راجح العقل والفضل والخلق، وكان من أعز أقرانه على الحسين، فإنّ علياً قام في سنوات اعتزاله الخلافة بتربية غلمة في المدينة من أُسرته وأحبّته.
لكن الإمام لم يأخذ برأي محذّر إذ كان يحسب نفسه فيواد والمحذّر في واد.
</span>
الصفحة 92 فحسين الفتوّة ـ ونفس أبيه بين جنبيه ـ لا يسعه إلاّ أن يلبّي المستغيث به ولا يطيق الصبر على محق الدين وسحق الموحّدين ولو ذاق في جهاده الأمرّين.

إنّ غاية ما كان يراه (عليه السلام) في تحذير المحذّرين أنّ العراق لا يفي بوعده ولا يقوم على عهده، فهب أنّ ذلك كذلك فما ضرّ الإمام أن يتم الحجّة عليهم قبل أن يتموا الحجّة عليه، فإن ظفر بمطلبه من إبادة الظالمين فبها ونعمت وإلاّ سار عنهم إلى الثغور القاصية حتى يفتح الله عليه بالحق وهو خير الفاتحين، أو يأتيه الموت فيلاقي ربّه غير خاضع لأعدائه.
أمّا رحل الحسين (عليه السلام) وفتيته فكانوا كلّما ذكروا العراق تجلّت لديهم ذكرياته الحسنى، وتذكّروا حنانه نحو الغريب وطلاوة الحديث الجذاب والعواطف الرقيقة، وذكروا عذوبة مائة وطيب هوائه علاوة على ذكر من لقوه بالكوفه ممن تبودلت بينه وبينهم الحقوق والنعم والعواطف الحسنات.
فكانت هذه والتي سبقت خواطر مهمة أدّت إلى المسير نحو العراق وقبول ما استدعاه وكيله الأمين مسلم في كتابه، غير أن الجميع واثقون من أن الرحيل إلى العراق لو كان; فإنّما يكون بعد فريضة الحج وبعد الأضحى.


توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس
قديم 2014/08/04, 02:49 PM   #4
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي

الكوفة تقاد إلى الحرب


خضعت الكوفة لدهاء ابن زياد بعد مقتل مسلم، وانقادت إليه أحياؤها ورؤساؤها، وذللت صعابها تذليلاً لكنه لم يزل قلق البال لعلمه بمبلغ تأثير الدعوة الحسينية في المجامع والمسامع وماله في العراق من سابقة ولاء وأولياء. وكان ابن زياد محنكاً قد درس هو وأبوه حالة العراق الروحيّة وسرعة انقلاب هوائه وأهوائه، وأنّ لأبنائه نائمة وقائمة، كم اغترت بهما أولياء الأمور والساسة، فجائز أن يأتيها الحسين (عليه السلام) بجنود لا قبل له بها، أو يتمركز بالقادسية فتلتف حوله قبائل بادية الشام وعشائر الفرات ـ ما بين الكوفة والبصرة ـ أو يحدث من اقترابه دوي ينعكس صداه في داخل الكوفة فيستفز الحسيات والنفسيات فيثورون عليه ويستخرجون من سجونه وجوه الشيعة ورؤوس القبائل، فلا يمسي ابن زياد إلاّ قتيلاً أو أسيراً.
وعلى أي يتهدّم كل ما بناه ولا يعود عليه التسامح إلاّ بالخسران، وعليه اندفع ابن زياد بجميع قواه إلى تأمين الخارج بعد تعزيز الأمن في الداخل وتحشيده الكوفيين لمحاربة الحسين (عليه السلام)، فبادر إلى احتلال القادسية قبل أن يسبقه إليها الحسين والنقاط المهمة في الحدود على خطوط سابلة الحجاز، ومالبث أن ورد عليه كتاب الحر الرياحي وأتته البشائر تترى على أنّ الحسين (عليه السلام) </span>
الصفحة 112 ورد وأبعد عن حدود الكوفة إلى جهة الشمال الغربي مسافة قاصية هو ونفر قليل من خاصته، بحيث لا يعود من الممكن أن يهيمن على ضواحي الكوفه فضلاً عما بينه وبين البصره، وأنّ جيش الحر الرياحي أصبح يراقبه في المسير وهو كاف بصدّه أور دّه.

بات ابن زياد ليلته هادىء البال، وكتب بذلك إلى يزيد لتأمين خواطر الهيئة المركزية، والمبادرة بتسجيل خدماته عند سلطانه. وكأنّي به قد نبّه على ميلان الحر وصلاته بجيشه مع الحسين (عليه السلام) وقال ابن رسول الله جذاب النفوس بهديه ومستملك القلوب بحديثه، فلا يبعد أن يعلن الحر في صحبته ولاءه وانضمامه اليه، ويسري نبأ تمرّده في أمثاله من أركان القيادة العسكرية، ويتسع الخرق على الراقع، أو يتمركز الحسين في الأنبار يحصر على ابن زياد الميرة والذخيرة، ولا يسع ابن زياد أن يحاصره بسبب شكل النهر، وموالاة عشائر البر، وقربه من مدائن كسرى.
وأينما حلّ سبط الرسول (صلى الله عليه وآله) ناشراً دعوته الصالحة سواء العراق أو إيران ـ فإنّها تصادف انتشاراً ولا تعدم أنصاراً. فوثب ابن زياد يبث المواعيد ثانية ويوزع الأموال بين العشائر والأكابر ليؤلف منها أجناداً وقواداً.
</span>
الصفحة 113
ولاية ابن سعد وقيادته


كان التخوفّ من تسرب الدعوة الحسينية إلى وراء الفرات وحدود العجم لا يقصر عن التخوّف من قدومه الكوفة، لأنّ القطرين العراقي والفارسي بينهما علائق متواصلة ومصالح متبادله. حتى لقد كان اعزام عمر بن سعد حرب الحسين (عليه السلام) مع ترشحه لولاية الري بعض فصول هذه الرواية المحزنة، فإن ولاية إيران لا تكاد تستقر لابن سعد والحسين (عليه السلام) متوجه إليها بدعوة نافعة وحجة بالغة وعائلة من لحمة النبي (صلى الله عليه وآله) وبين الحسين وبين الفرس مصاهرة في العائله المالكة المنقرضة.
وكلّ هذه عوامل قويّة لنفوذ الدعوة الحسينية في بلاد كسرى، فلم يجد والي العراقين سبيلاً إلى إماتة هذه الظنون خيراً من ترشيح عمر بن سعد لولاية الري، وقد كان أبوه سعد بن أبي وقاص من قواد جيشها الفاتح، فلهم من شهرته كل الرعب وله تمام الرغبة فيهم، إذ كانت ولاية جمة المنافع متنوعة المطامع، ظاهر أنّ ولايتها يومئذ كانت ذات صلة قوية بإيقاف الحركة الحسينية ليتسنى لواليها حرية الإدارة والإرادة، لذلك لما رأى من ابن سعد تزلفاً إليه والى يزيد، ونقمة على نهضة الحسين (عليه السلام) يوم كتب إلى يزيد بقوة أمر مسلم في الكوفة، ويوم أفشى إلى ابن زياد سر ابن عقيل في وصيته اليه أقنع ابن زياد عمر بأخذ التدابير اللازمة لإخضاع حسين الشرف قبل التوجه إلى مهمته الأولى في إيران.
نعم، وجد ابن زياد عمر أصلح الناس لإخضاع الحسين (عليه السلام) سواء بغرض الإخضاع أو الإقناع، إذ كان يومئذ أمس الكوفيين رحماً بالحسين (عليه السلام) وعليه </span>
الصفحة 114 مسحة شرف من قريش ونسبة الى الحرمين، فسرّحه لمقابلة الإمام خداعاً واستطماعاً ـ وأكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع ـ.

أما ابن سعد فقد استمهل ابن زياد ليلته ليفكر مستعظماً إقدامه على مقابلة الحسين (عليه السلام) لعلمه أنّ الحسين داعية حق، وأنه كأبيه علي (عليه السلام) أفضل من أن يخدع وأعقل من أن ينخدع ولا يسع ابن سعد إذا قابله أن يقاتله، بل يقضي عليه واجبه الدنيي والرحمي أن ينضم إليه ويقاتل خصومه بين يديه. غير أنّ له في ملك الري قرة عين، وبهجة نفس، وراحة عائلة، وتأمين مستقبل مديد فبات قلقاً أرقاً بين جاذب ودافع، يجيل فكرته بين المضار والمنافع، ويردد أبياته المعروفة:


فوالله ما أدريوإني لحائرأفكر في أمري على خطرينأأترك ملك الري والري منيتيأم ارجع مأثوماً بقتل حسينحسين ابن عمي والحوادث جمةلعمري ولي في الري قرّة عينإنّ إله العرش يغفر زلتيولو كنت فيها أظلم الثقلينألا إنّما الدنيا بخير معجلوما عاقل باع الوجود بدينيقولون إنّ الله خالق جنةونار وتعذيب وغل يدينفإن صدقوا فيما يقولون إنّنيأتوب الى الرحمن من سنتينوإن كذبوا فزنا بدنياً عظيمةوملك عقيم دائم الحجلين


وكأنّ خاطره الأخير حدثه بأنّه: ان أُظهر على الحسين (عليه السلام) فبها، وإلاّ فحسين الفتوّة أكرم من أن يعاقبه أو ينتقم منه.
وبالجملة: فلم يشعر بنفسه إلاّ قائداً جيشاً كثيفاً الى حرب الحسين (عليه السلام) في نينوى، إذ بها يلتقي الخط العراقي الإيراني بالخط العراقي الحجازي وهي المرحلة المشرفة على نقطة الأنبار، فبلغه نزول الحسين (عليه السلام) بكربلاء قبله بيوم مع قائد المفرزة الحر الرياحي.
</span>
الصفحة 115
منزل الحسين بكربلاء


إنّ عوامل اليأس التي تبعت نعي مسلم وسوء صنيع الكوفة به لم تؤثر في عزيمة الحسين (عليه السلام)، ولا ما بلغه من فاحش فعلهم برسوليه عبد الله ابن يقطر وقيس بن مسهر الصيداوي، ولا ما رآه في ملتقاه بجيش الحرّ، لأن داعي الحق لا يقنط من روح الله. ولكنما جيش الكوفة هو الذي صدّه عنها وعن كل آماله فيها فسلك ركبه وموكبه سبيلاً وسطاً لا يدرون الغاية ولا يعرفون النهاية. الحر يساير الإمام كي يخرجه عن حدود أميره حتى يعود إليه ببشارة تؤمّن باله وتطمّن خياله.
ويُخيّل للناظر في الحركة الحسينية أنّ في خلد الإمام أن يعبر الفرات الى الأنبار والمدائن عسى أن يجد لدعوته أنصاراً وشيعة وبيئة وسيعة، فبيناهم والحر في تيامن وتياسر إذ لحقهم راكب متنكب قوسه فسّلم على الحر وأصحابه ودفع اليه كتاب ابن زياد، فقرأه الحر على الحسين (عليه السلام) وإذا فيه: «أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا، ولا تتركه إلاّ بالعراء في غير خضر وعلى غير ماء».
فعرضوا عليه النزول فسأل الحسين (عليه السلام) عن اسم الأرض فقيل: كربلاء فقال: «نعوذ بالله من الكرب والبلاء، هل لها اسم غير هذا؟» فقيل له: العقر فقال: «نعوذ بالله من العقر، ما شاء الله كائن» ثم قال للحر: «دعنا ننزل في هذه القرية ـ يعني نينوى ـ، </span>
الصفحة 116 أو هذه يعني الغاضرية أوهذه ـ يعني الشفيثة ـ «. فقال الحر: «هذا رجل قد بعث إلي عيناً عليّ». فقال زهير بن القين: «إنّي والله لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلاّ أشد ماترون، وإنّ قتال هؤلاء القوم ألساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به» فقال الحسين (عليه السلام): «ما كنت لأبدأهم بالقتال» ثم نزل وذلك يوم الخميس ثاني محرم.

</span>
الصفحة 117
جغرافية كربلاء القديمة


إن لهذا البحث صلة قوية بوضوح مقتل الحسين (عليه السلام) وحوادثه التاريخية. واستيفاء هذا البحث يكلّف صاحبه، إذ لا يجد المصادر الوافية بالتفاصيل الجغرافية عن كربلاء القديمة في أيام قتل الحسين (عليه السلام).وإنّي أجتزىء في أداء هذا الواجب بالممكن، بحسب ما أظنّه.
إنّ كربلاء اسم قديم مأثور في حديث الحسين وأبيه وجدّه (عليهم السلام) ومفسّر بالكرب والبلاء، وأنّ كربلاء منحوتة من كلمة: كور بابل العربية، بمعنى مجموعة قرى بابلية منها نينوى القريبة من أراضي سدّة الهندية، ثم الغاضرية ـ وتسمى اليوم أراضي الحسينية ـ، ثم كربلة ـ بتفخيم اللام بعدها هاء ـ وتقرب اليوم من مدينة كربلاء جنوباً وشرقاً ثم كربلاء أو عقر بابل وهي قريبة من الشمال الغربي من الغاضريات وبأطلالها آثار باقية، ثم «النواويس»(1) وكانت مقبرة عامة قبل الفتح الإسلامي، ثم الحير ويسمى الحائر وهو اليوم موضع قبر الحسين (عليه السلام) الى
____________
1) جمع ناووس، وهو ظرف من خزف او من خشب. كان البابليون يضعون موتاهم فيها، يدفنوها، والنواويس مقبرة في كور بابل.
وقد جاء في خطبة الحسين (عليه السلام) المروية في الإرشاد: «وكأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء... الخ».

الصفحة 118 حدود رواق روضته المشرّفة أو حدود الصحن. وكان لهذا الحائر وهدة فسيحة محدودة بسلسلة تلال ممدودة(1) وربوات تبدأ من الشمال الشرقي متصلة بموضع باب السدرة في الشمال وهكذا الى موضع الباب الزينبي من جهة الغرب، ثم تنزل الى موضع الباب القبلي في جهة الجنوب، وكانت هذه التلال المتقاربة تشكّل للناظرين نصف دائرة مدخلها الجبهة الشرقية حيث يتوجه منها الزائر الى مثوى سيدنا العباس بن علي (عليهما السلام) ويجد المنقّبون في أعماق البيوت المحدقة بقبر الحسين (عليه السلام) آثار ارتفاعها القديم في أراضي جهات الشمال والغرب، ولا يجدون في الجبهة الشرقية سوى تربة رخوة واطئة، الأمر الذي يرشدنا الى وضعية هذه البقعة وأنّها كانت في عصرها القديم واطئة من جهة الشرق(2).

ورابية من جهتي الشمال والغرب على شكل هلالي، وفي هذه الدائرة الهلالية حوصر ابن الزهراء (عليه السلام) في حربه حين قتل كما سيأتي.
وأمّا نهر الفرات فكان عموده الكبير ينحدر من أعاليه يسقي القرى الى ضواحي الكوفة، وكذلك ينشق من عمود النهر «الشط» من شمالي المسيب نهر كفرع منه يسيل على بطاح ووهاد شمالي شرقي كربلاء حتى ينتهي الى قرب
____________
1) ويستنبط شكل الحائر على هذه الوضعية مما ثبت في تاريخ المتوكل العباسي عندما أجرى الماء على قبر الحسين لمحو مزاره وآثاره، فحار واستدار حول القبر والماء بطبعه يجري على الأرض المنخفضة وجوانب الحائر كانت ولا تزال نواشر لا يعلوها الماء غير الجانب الشرقي مما يلي نهر الفرات يومئذ، حيث كان الفيضان يشكل فيه من المشرعة احواراً وآجاماً، ثم يعود طفاً أيام الفيضان.
2) ويؤيد هذا ما رواه جعفر بن قولويه في كامل الزيارة، وشيخه الكليني في الكافي، والمجلسي في مزار البحار ص145 عن الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام): «إنّ زائر الحسين يغتسل على نهر الفرات ويدخل من الجانب الشرقي الى القبر... الخ».

الصفحة 119 مثوى سيدنا العباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ ثم الى نواحي الهندية، ثم ينحدر فيقترن بعمود الفرات في شمال غربي قرية ذي الكفل ويسمى حتى اليوم العلقمي، وكان هذا الفرات الصغير من صدره الى مصبه يسمى العلقمي. والطف اسم عام لأراضي تنحسر عنها مياه النهر وسميت حوالي نهر العلقمي البارزة من شواطئه طفاً لذلك، وسميت حادثة الحسين (عليه السلام) فيه بواقعة الطف.

</span>
الصفحة 120 </span>الصفحة 121
الإمام مصدود محصور


حلّ حرم الحسين (عليه السلام) حدود كربلاء في ثاني محرم سنة 61 هـ، وأنزل في بقعة منها جرداء بعيدة عن الماء والكلاء وصار معسكره زاوية مثلث يقابله جيش الحر في الغاضريات وجيش ابن سعد في نينوى. وكان الحر يرى مهمته المراقبة على مسير الحسين (عليه السلام) فقط غير مهتم في اخضاعه ولا في إقناعه ولا في إرجاعه، حتى وافاه عمر بن سعد مهتماً في إقناعه واخضاعه، فصار هو والحسين (عليه السلام) يتبادلان الروابط ابتغاء الوصول الى حلّ مرضي.
وكلّف ابن سعد من بين حاشيته رجالاً لمواجهة الإمام فأبوا معتذرين أنّهم من كتبوا إليه يدعونه، فعمّ يتساؤلون؟ فأرسل ابن سعد الى ابن الرسول (صلى الله عليه وآله) رسوله الحنظلي، فجاء الى الإمام وسأله على لسان أميره عن موقفه ومسيره فأجابه الحسين: «قد كتب إليَّ أهل مصركم يدعونني إليهم، أمّا إذا كرهتم ذلك فأنا أنصرف عنكم».
قال حبيب بن مظاهر للرسول ـ وهو من أخواله ـ: «ويحك يا قرة أن ترجع الى القوم الظالمين؟ انصرف هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة».
فقال له الحنظلي: «أرجع الى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي».
ثم انصرف الى عمر بن سعد وأخبره الخبر، فقال عمر: «أرجو أن يعافيني الله </span>
الصفحة 122 من حربه وقتاله» ثم كتب الى ابن زياد ما جرى بينه وبين الحسين (عليه السلام) وأنّ الإمام مستعد للانصراف عن العراق وعن كلّ أمل فيه.

قال حسان العبسي: كنت عند ابن زياد حينما جاءه هذا الكتاب وقرأه فقال:


الآن إذ علقت مخالبنا بهيرجو النجاة ولات حين مناص(1)


ثم اجتمع الحسين (عليه السلام) بعمر بن سعد تحرّياً منه للسلم واحتراماً للدماء فتناجيا طويلاً فكتب هذا الى ابن زياد:
«أمّا بعد، فإنّ الله قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمة، هذا حسين قد أعطاني عهداً أن يرجع الى المكان الذي أتى منه أو يسير الى ثغر من الثغور، فيكون رجلاً من المسلمين له مالهم وعليه ما عليهم».
ولما تلاه ابن زياد قال: «هذا كتاب ناصح مشفق على قومه» يعني على قريش، فقام شمر بن ذي الجوشن قائلاً: «أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك؟ والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة، فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت أولى بالعقوبة وإن عفوت كان ذلك لك». فلما رأى ابن زياد في شمر التجاءً الى قوته وتحزباً لحكومته واستخفافاً بعدوّه الحسين وعصبته قال له: «نعم ما رأيت والرأي رايك، اخرج بكتابي الى ابن سعد فإن أطاعني فأطعه وإلاّ فأنت أمير الجيش
____________
1) وفي الإرشاد كتب الى ابن سعد: «أمّا بعد! فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه فإذا هو فعل ذلك رأينا والسلام» فلما ورد الجواب على ابن سعد قال قد خشيت أن لا يقبل ابن زياد العافية. وورد كتاب ابن زياد في الأثر الى ابن سعد: «أن تحل بين الحسين (عليه السلام) وأصحابه وبين الماء فلا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان».

الصفحة 123 واضرب عنقه». وكتب الى عمر كتاباً يقول فيه: «إنّي لم أبعثك الى الحسين شفيعاً، ولا لتمنّيه السلامة، ولا لتعتذر عنه، فإن نزل هو وأصحابه على حكمي فابعث بهم إليّ وإلاّ فازحف عليهم واقتلهم ومثّل بهم، فإنّهم بذلك مستحقون، وإن قتلت حسيناً فأوطىء الخيل صدره وظهره، فإنّه علق ظلوم، ولست أرى أنّ هذا يضر بعد الموت شيئاً ولكن على قوله قد قلته».

جاء شمر بكتابه الى ابن سعد ـ والرجل السوء يأتي بالخبر السوء ـ فلما قرأ ابن سعد كتاب أميره وتلقّى أسوأ التعاليم من نذيره تغيّر وجهه وقال: «لعنك الله يا شمر، لقد أفسدت علينا أمراً كنا نرجو إصلاحه» لكنما ابن سعد بعد ما حسب شمراً رقيباً عليه ومهدداً له تجاهر إذ ذاك بلزوم اخضاع حسين العلا، فتبدّلت منه لهجته وفكرته وهيئته، فانتقل بجنوده الى مقربة من الحسين (عليه السلام) وثلث جبهات الحرب فصار هو في القلب بين الحيرة والنهر لصدّ الحسين من عبور النهر، ومن الورود منه، فإذا وجد الحسين (عليه السلام) سبل سيره مقطوعة ومشارع وروده ممنوعة اضطر الى النزال معهم أو النزول على حكمهم وهم واثقون من الغلبة عليه في الحالين.
ولما رأي الإمام ذلك علم أنّه مقتول لا محالة إذ هو نازل بالعراء في منطقة جرداء لا ماء فيها ولا كلاء، فإن انتظر قدوم الأنصار من أقاصي الأمصار هلكت صبيته وماشيته وتفرّقت حاشيته، ولقي من الجوع والعطش أشدّ مما يلقاه من عدوّه، وإن خضع للقوم وبايع أمية فقد باع الأمة والشريعة بعدما انعقدت فيه الآمال، وإن بدأ بحربهم خالف خطته الدفاعية حين لا مأمل في الانتصار عليهم في ظاهر الحال والحر إن لم يستطع أن يعيش عزيزاً فأحرى به أن يموت كريماً.
</span>
الصفحة 124 </span>الصفحة 125
الحسين مستميت ومستميت من معه


في مكارم الأخلاق تتلألأ خلة التضحية تلألؤ القمر البازغ بين النجوم الزواهر، فإذا شوهد في أمرء شعور التضحية اكتفى الناس بها عن أي مكرمة فيه أو أية مأثرة له، ولا عجب، فإنّ الصدق إذا عدّ أصل الفضائل فإن شعور التضحية هو من أجل مظاهر الصدق والمستميت يميت مع نفسه كل شبهة وشائبة من سمعة أو رياء أو مكر أودهاء.
إذاً فشعور شريف كهذا ينجم في تربة الصدق ويسقى بماء الإخلاص لابد وأن يثمر لأهل الحق بالخير الخالد، وإذا كان الموت ضربة لازب لا مهرب منه ولا محيد عنه فاشتر بهذا العمر القصير نفعا عاماً وخيراً خالداً. هي هي والله صفقة رابحة وتجارة لن تبور، فخير الموت الفداء، وأفضل الأضاحي من أمات هيكله البائد لإحياء نفع خالد.
كذلك الشهداء في سبيل إصلاح الأمة أو تحريرها من أسر الظالمين، وسيدّ هؤلاء الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام) الذي أحيى ـ هووالذي معه ـ مجد هاشم، ودين محمّد (صلى الله عليه وآله)، ومعارف القرآن، وشعائر الإسلام، وأخلاق العرب في وثباتهم ضدّ سلطة الجور والفجور. فلم تختلف لهجته، ولا تخلّفت سيرته، ولا وهنت عزيمته، ولا ضعفت حركته، ولا ضيَّع مصالح أعوانه لترضية عدوانه. ونفس قوية </span>
الصفحة 126 وأبية مثل هذه أضحت كالمغناطيس جذابة إليها أمثالها ومن على شاكلتها في الإخلاص والتضحية ـ وشبه الشيء مجذوب اليه ـ فالتفّ حول الحسين الحق من صحبه وآله من نسجوا على منواله بتضحية النفس والنفيس في سبيل الدين وصالح المؤمنين، حتى أنّه يوم أحس بالصد والحصار بكربلاء وأنه مقتول لا محالة عزّ عليه أن يقتل بسببه غيره(1) فأذن لأهله وصحبه بالتفرّق عنه، حيث إنّ القوم لا يريدون غيره يدرأ عنهم الموت، ويحلّ بيعته عن ذممهم، فخطب فيهم قائلاً:

«أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وافئدة، فاجعلنا من الشاكرين أمّا بعد; فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ من بيعتي، ليس عليكم حرج منّي ولا ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً»... الخ.
فقال له إخوانه وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: «لم نفعل ذلك لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبداً» فقال الحسين (عليه السلام): «يا بني عقيل حسبكم من القتل ما صنع بمسلم، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم». قالوا: «سبحان الله! فما نقول للناس ويقولون لنا؟

____________
1) في العقد الفريد ج2 قال: «لمانزل ابن سعد بالحسين وأيقن انهم قاتلوه قام في اصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد نزل بي ما ترون من الأمر وان الدنيا قد تغيرت وتنكرت وادبر معروفها واشمأزت فلم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الاناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون الحق لا يعمل به والباطل لا ينهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله فاني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ ذلاً وندماً»... الخ.

الصفحة 127 أنّا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك».

وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: «أنحن نخلي عنك؟ وبم نعتذر الى الله في أداء حقك؟ حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضربهم بسيفي ماثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك، أما والله لو قد علمت أنّي أُقتل ثم أحيى ثم أُحرق ثم أحيى ثم اُذرى يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، هي الكرامه التي لا نفاذ لها أبداً».
وقام زهير بن القين فقال: «والله لوددت أنّي قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت حتى اُقتل هكذا ألف مرّة وأنّ الله عز وجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن نفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك».
وتكلّم جماعة من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً فيوجه واحد، فجزاهم الحسين خيراً.
وروي أن رجلاً جاء حتى دخل عسكر الحسين (عليه السلام) فجاء الى رجل من أصحابه فقال له: «إنّ خبر ابنك فلان وافى، أنّ الديلم أسروه فتنصرف معي حتى تسعى في فدائه». فقال: «حتى أصنع ماذا؟ عند الله احتسبه ونفسي». فقال له الحسين: «انصرف وأنت في حلّ من بيعتي أنا اُعطيك فداء ابنك» فقال:: هيهات أن اُفارقك ثم أسال الركبان عن خبرك، لا يكون والله هذا أبداً ولا اُفارقك»(1).

____________
1) انظر الإرشاد ومقاتل الطالبيين وغيرهما.

الصفحة 128


توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس
قديم 2014/08/04, 02:52 PM   #5
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي

توبة الحرّ وشهادته


من يدرس أحوال البشر من وجهتها النفسية ويسبر غورها يجد الأخيار صنفين: صنف يتطلب مصالحه الشخصية في ظل أحياء عقيدته واحترامها ـ وهؤلاء أكثر الأخيار ـ ثم أرقى منه صنف يقّدم إحياء عقيدته حتى على حياته الشخصية. وقد كانت وضعية الحر الرياحي بادىء بدء تنزل منزلة من يحب احترام مصالحه الذاتية في ضمن احترامه لعقيدته في الحسين بن فاطمة (عليها السلام)، زعماً منه أنّ الحسين لابد وأن سيصالح أمية القوية أو يسامحونه بمغادرته بلادهم، فيكون الحر حينئذ غير آثم بقتال الحسين، وغير خاسر جوائز الولاية وترفيعاتهم. وعليه فقد كان يساير الحسين بالسماح والتساهل ويصاحبه بتأدب واحترام. غير أنّ المظاهرات القاسية التي قام بها جيش الكوفة من جهة والمظاهرات الدينية الأخلاقية التي قام بها حسين الفضيلة من جهة أخرى أنارتا فكرته وأثارتا عاطفته، فارتقى في استكمال نفسه الى العلو أو الغلو في حب السعادة والشهادة، فجاء الى ابن سعد قائلاً: «أمقاتل أنت هذا الرجل؟».فأجابه: «نعم قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي» فقال الحر: «أفمالكم فيما عرضه عليكم رضىً؟». فأجابه: «أما لو كان الأمر إليّ لفعلت لكن أميرك قد أبى». فرجع الحر وهو يتمايل ويرتعد، وأخذه مثل الأفكل، إذ شعر بأنّه كان السبب لحصر الإمام.
</span>
الصفحة 154 قال له من يجاوره وهو يحاوره: «إنّ أمرك لمريب! فوالله لو سُئلت عن أشجع أهل العراق لما عدوتك، فماذا أصابك يابن يزيد؟» فأجابه الحر: «ويحك! إنّي أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا اختار على الجنة شيئاً، وإن قطعت وحرّقت» قال هذا وضرب بجواده الى الحسين (عليه السلام).

وصادف قرّة بن قيس فقال له: «يا قرّة هل سقيت فرسك؟» قال قرّة: قلت له: «لا» وظننت أنّه يريد أن يتنحى أو ينتحي القتال،كراهة أن يشهده، فوالله لو أطلعني على الذي يريد لخرجت معه الى الحسين...
أخذ يدنو الحر من الحسين رويداً رويدً ـ وكان ذلك منه خجلاً لا وجلاً ـ حتى وقف قريباً منه فقال: «جعلت فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم، ووالله لو علمت أنّهم ينتهون بك الى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، وإني تائب الى الله مما صنعت، فهل ترى لي من توبة؟» فأجابه الحسين (عليه السلام): «نعم يتوب الله عليك فانزل» فقال الحر: «أنا لك فارساً خير مني لك راجلاً، أقاتلهم على فرسي ساعة ويصير النزول آخر أمري». فقال له الحسين: «فاصنع يرحمك الله ما بدا لك».
قابل الحر بعدئذ جيش ابن سعد وصاح بهم: «يا أهل الكوفة! لأمكم الهبل! دعوتم هذا العبد الصالح لتنصروه حتى إذا جاءكم أسلمتموه، وكتبتم إليه أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه تقاتلونه، وأملكتم بنفسه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه في بلاد الله العريضة، فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، وحلأتموه ونساءه وصبيته عن ماء الفرات الجاري تشربه اليهود والنصارى والمجوس وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه، فهاهم قد صرعهم العطش، </span>
الصفحة 155 بئس ما خلفتم محمّداً في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ». فساد القوم السكوت كأنّ على رؤوسهم الطير، ثم لم يجيبوه بسوى النبال فحمل عليهم وهو يرتجز ويقول:



إنّي أنا الحر ومأوى الضيفأضربكم ولا أرى من حيف


وقاتلهم قتالاً شديداً حتى عقروا فرسه وتكاثروا عليه، فلم يزل يحاربهم وهو راجل حتى أثخنوه بالجراح وصرعوه فنادى: السلام عليك يا أبا عبد الله وقد أبّنه الإمام (عليه السلام) عند مصرعه بقوله: «أنت كما سمتك أُمك حرّاً، حرٌ في الدنيا وسعيد في الآخرة» فطوبى له وحسن مآب.
</span>
الصفحة 156 </span>الصفحة 157
أصدق المظاهر الدينية


ليس في التعبير عن الحسين (عليه السلام) بآية الحق أو رمز السلام أو نحوهما مبالغة ما إذ كان ـ والحق يقال ـ مثال الحق والإسلام في كل أحواله وأفعاله وأعماله، فلم تكن المرآة المواجهة للشمس أصدق حكاية عنها من الامام (عليه السلام) عن الإسلام. ولابدع فإنّ الناهض حقاً بحقيقة يجب أن يمثّلها بكل أطواره وأدواره، والحسين بن علي غدا في نهضته أُمثولة الحق الصارع وحاكياً عنه حكاية الزجاج عن المصباح، فأظهر الحقيقة في كتبه وخطبه وأقواله وأحواله، فقدم خطورة الدين على خطورة السكن والوطن، وقدم حرمة حرم اللهوحرم رسوله (صلى الله عليه وآله) على حرمة نفسه وحرمه، وأجاب دعوة من لا يوثق بولائهم ودعائهم، وخسر في سبيل أُمته صفوة أحبته ونخبة عشيرته، وضايق نفسه حفظاً لظواهر الدين، واستفرغ وسعه وقواه في نصيحة أعداء الدين وبذل النفس والنفيس في سبيل مصلحة الدين.
كل ذلك وغيره ليذكرهم الله ويستهديهم بكتاب الله حتى حانت ساعة القيام بأصدق المظاهر الدينية ـ وهي ساعة الصلاة والشمس في الهاجرة من ظهيرة اليوم العاشر من المحرم ـ ولم يكن الحسين (عليه السلام) ممن ينسى أو يتناسى الصلاة الموقوتة ـ ولو في أحرج ساعاته ـ قدوة بأبيه علي (عليه السلام) رجل الإيمان، فإنّه لم يؤخّر صلاته المفروضة في أحرج ساعات الوغى ليلة الهرير في صفين، فصف </span>
الصفحة 158 قدميه لوجه الله مصلياً والحرب ثائرة من حوله ودائرة، ولما لاموه عليها أجاب: «ألسنا نحارب لإقامة الصلاة؟!».

كذلك ابنه الحسين (عليه السلام) ـ والشبل من ذاك الأسد ـ فاهتم بها عندما صاح مؤذنه أبو تمامة الصيداوي،وصلّى بأصحابه ولكن صلاة الخوف قصراً وسهام الأعداء تترى عليه بالرغم من استمهالهم.
أيخشى الإمام (عليه السلام) قتله في الصلاة وقد مضى أبوه قتيلاً في محرابه؟ أم يخشى الموت صحبه وهم يتسابقون إليه تسابق الجياع الى القصاع ويحبذون الموت بوجه الله وفي سبيله مع ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ولكن كانت صلاة الحسين (عليه السلام) من أصدق مظاهر إخلاصه لله وتمسكه بالشريعة، وبعيدة عن كل شبهة أو شائبة، وإذا كانت المظاهرات الحسينية تكشف مساوىء أخلاق أعدائه ومبلغ حرمانهم من الإنسانية فإنّ مظاهرة صلاة الخوف بين أولئك المعارضين برهنت على سوء نية العدو واستهانته بشريعة الإسلام. فهي إن لم تبطل سحر العدو في أعين الناظرين فقد أبلغت حجة الحسين (عليه السلام) الى مسامع الغائبين، حيث إنّ العدو كان متذرّعاً بحبائل الدين ضّد الدعوة الحسينية، يوهم البسطاء والحمقاء أنّ يزيد خليفة النبي بمبايعة من أكثر المسلمين وأنّ حسيناً خارج على إمام زمانه لغايات دنيوية فيجب إعدامه أو إرغامه ـ واسم الدين قد يغش العامة ولو كان يقصد محو الدين ـولكم تذّرع المبطلون بأسلحة الحق ضّد أهل الحق فخدعوا بذلك العامة ـ كما انخدع الخوارج ضد أميرالمؤمنين بشبهة رفع المصاحف ومخالفته للدين وأي دين؟ أهو ذلك الدين الذي قام واستقام بخدمات علي (عليه السلام) ومعاركه ومعارفه؟ ـ وكان شمر الخارجي وأشباهه من بقايا الخوارج قائمين بحركات أسلافهم في تمويه حقائق الدين بالظواهر الخداعة </span>
الصفحة 159 مستعملين اسم الإسلام آلة لاجراء منوياتهم في الحسين (عليه السلام) ولكن إقامة الإمام (عليه السلام) صلاة الخوف في أحرج المواقف والمواقيت بين الأسنة والحراب بين العدى والردى كانت أقوى آلة فعّالة في إبطال سحرهم ومكرهم، فإنّهم لم يمهلوا الحسين (عليه السلام) وصحبه ان يتعبّدوا لله في حين أنّ الدين يفرض إمهال المتعبدين والعبادة شعار الموحدين، فما عذرهم عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) في موقفه بعد موقفهم هذا؟ أفلم يروا ريحانته يصلي الى قبلة الإسلام مع صحبه المسلمين؟ أفلا تحترم الصلاة وهي حرم الله؟ أولم يسمعوا كلام الله: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً} وصحب الحسين (عليه السلام) ألقوا السلاح، وأظهروا السلام والإسلام، واستمهلوا للصلاة، واستأمنوهم لذكر الله فهل ترى مظهراً للدين والحق أصدق من هذا؟ لكن أعداء الحسين (عليه السلام) قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فلم تعد تؤثر فيهم مظاهر إسلامية أو عواطف إنسانية سوى السيف المخيف أو الرغيف، وقد كانا يومئذ في يد أعداء الهدى {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}.

</span>
الصفحة 160 </span>الصفحة 161
الطفل الذبيح


إذا وصف القرآن قربان إبراهيم بالذّبح العظيم نظراً لآثاره الباقية في الحج والإسلام، فإنّ المظاهرة الأخيرة التي قام بها الحسين (عليه السلام) أثّرت تأثيراً عظيماً من بين مجاهداته الأدبية في كشف حقائق النزعة الأموية، وهذه الحادثة الأليمة بالرغم من استحقاقها التوسّع فإنني لا استطيع فيها سوى الإيجاز، فالحسين (عليه السلام) بعدما خلى رحله من الماء وطال على أهله الظمأ ـ حتى جفت المراضع وشحت المدامع ـ تناول طفله الرّضيع ـ واسمه علي أو عبد الله ـ ليقدّمه الى العدو وسيلة لرفع الحجر من الماء، فأشرف على الأعداء بتلك البينة المعصومة من أية جانحة أوجارحة قائلاً: «يا قوم! إنّ كنّا في زعمكم مذنبين فما ذنب هذا الرضيع؟ وقد ترونه يتلظى عطشاً، وهو طفل لا يعرف الغاية ولم يأت بجناية، ويلكم اسقوه بشربة ماء فقد جفت محالب أمه». فتلاوم القوم بينهم بين قائل: «لا بد من إجابة الحسين (عليه السلام) فإنّ أوامر ابن زياد بمنع الماء خصت الكبار دون الصغار ـ والصغير استثنته الشرائع والعواطف من كل جريمة وانتقام، حتى لو كان من ذراري الكفار» وقائل: «إنّ الحسين قد بلغ الغاية من الظمأ والضرورة، فإن صبرتم عن سقايته سويعة أسلم أمره إليكم وتنازل لكم».
فخشي ابن سعد من طول المقام والمقال أن يتمرّد عليه جيشه المطيع فقال </span>
الصفحة 162 لحرملة: «إقطع نزاع القوم» وكان من الرماة القساة، فعرف غرض ابن سعدفرمى الرضيع بسهم نحره به، وصار الحسين (عليه السلام) يأخذ دمه بكفه وكلما امتلأت كفه دماً رمى به الى السماء قائلاً: «اللهم لا يكونن أهون عليك من فصيل» يعني فصيل ناقة صالح.

ولما أحسّ الرّضيع بحرارة الحديد وألمه فتح عينيه في وجه أبيه وصار يرفرف كالطير المذبوح، وطارت روحه رافعة شكاية الحال الى العدل المتعال، وترك القلوب دامية من مصيبته المفتتة للأكباد. وقد بلغ أمر الرضيع الذبيح مبلغاً من قوة الدّلالة على انحراف قلوب القوم عن سنن الإنسانية وعلى سفالة أخلاقهم بحيث يئس الحسين عند ذلك من رشدهم وعاد عنهم خائباً، وربما كانت مصيبته في خيبته أعظم عليه من مصيبته في الرضيع، فاستقبلته صبية قائلة: «يا أباه لعلك سقيت أخي ماء؟» فأجابها: «هاك أخاك ذبيحاً» ثم حفر الأرض بسيفه ودفن الرضيع ودفن معه كل آماله.
وكان حسين الحقّ لم يدخر فيوسعه أي قوة ولم يضيّع أي فرصة في إفشاء سرائر الحزب السفياني، فإن قتل الذراري وذبح الأطفال كانت الشرائع والعادات تمنع عنه أشد المنع، وقد روى المحدّثون أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) بعث سرية فقتلوا النساء والصبيان فأنكر النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك عليهم إنكاراً شديداً، فقالوا: «يا رسول الله إنّهم ذراري المشركين». فقال: «أوليس خياركم ذراري المشركين». وإن خالد بن الوليد لما قتل بالعميصاء الأطفال رفع النبي (صلى الله عليه وآله) يديه حتى رأى المسلمون بياض إبطيه وقال: «اللهم إنّي ابرأ إليك مما صنع خالد» ثم بعث علياً (عليه السلام) فوأدهم، فلم يعهد ذبح الأطفال بعد ذلك إلاّ ما كان من معاوية في قتله أطفال المسلمين في الأنبار وفي اليمن على يد عامله بسر بن أرطأة، وكان فيمن قتلهم ولدان لعبيدالله بن عباس، </span>
الصفحة 163 وكررت ذلك أشياعه في الطف فذبحوا من الصبية والأطفال ما ظهروا عليهم وظفروا بهم بغير رحمة منهم ودون أدنى رقة أو رأفه، الأمر الذي برهن على غلوّهم في القسوة والفسوق عن الدين، وأوضح بلا مراء ولا خفاء أنّ قصد التشفّي والانتقام بلغ بهم الى العزم على استئصال ذرية الرسول (صلى الله عليه وآله) وقطع نسله ومحو أصله.

أمّا علي بن الحسين العليل فلم يفز بالنجاة من أيديهم العادية لا لصغر سنّه، ولا بتعلق عمته به قائلة: «لا يُقتل إلاّ واُقتل معه» ولا بشفاعة حميد بن مسلم وأشباهه فيه، بل إنّما نجا من حدّ الحديد لشدّة مرضه وقوة علته وضعف أملهم بحياته، ونجا الحسن بن الحسن باختفائه وهو جريح طريح وفاء من الله بوعده وحفظه لنسل نبي الرحمة بإكثار المصلحين في الأمة وهدايتها بعلوم الأئمة.
</span>
الصفحة 164 </span>الصفحة 165
العطش ومقتل العباس


يقف العقل حائراً كلما فكر في النظام العائلي أو الداخلي لأُسرة الحسين (عليه السلام) وحسن تربيته لآله وعياله، فكانوا ـ حتى في الشدائد ـ أتبع له من ظلاله وأطوع من خياله، ولا ينهض بأمر لجماعة مثل حسن الطاعة ولست مغالياً في قولي: «اطاعة الزعيم فيما تكره ولا عصيانه فيما تحب» فالانكسار كان أبعد شيء من مثل هذه الجماعة لو لم تصبهم فاقة جوع او عطش. فلا ترى شمراً مبالغاً في قوله لقومه عن الحسين (عليه السلام) وأهله: «انّهم إذا وصلهم الماء أبادوكم عن آخركم» فكان منع جيش الحسين (عليه السلام) عن الماء أقوى أسلحة عدوه عليه ـ ومن عدّ الصبر على الجوع متعسراً يعد الصبر على العطش متعذراً ـ لا سيما من فحولة هاشم وسيوفهم في أيمانهم والماء في أعينهم، ويسمعون بآذانهم ضجة صبيتهم عطاشى ومرضى ونخص من بينهم الفتى الباسل أبا الفضل العباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقد أثرت عليه الحالة وأثارت عواطفه، فتقدّم الى أخيه الحسين (عليه السلام) يستميحه رخصة الدفاع معتذراً بأنّ صدره قد ضاق من الحياة ويكره البقاء.
نعم، شيء لا أشهى من الحياة وأطيب، لكنما الحي إنّما يحبها مادامت منطوية على مسرات ولذات أمّا إذا خلت من تلكما الحسنيين وأمست ظرف آلام لا تطاق استحالت الحياة الحلوة كأساً مرة. غير أنّ أقوياء النفوس لو أفضى الزمان </span>
الصفحة 166 بهم الى مثل هذه الحالة العصبية وعجزوا عن سلوان أنفسهم بمهل التاريخ فإنهم يختارون الموت في سبيل دفع الموت، ويفضلونه على الموت في سبيل انتظار الموت. أجل، إنّ الموت في سبيل دفاعه أفضل وأحوط من الموت في سبيل انتظاره، وقد كان الحسين (عليه السلام) مستميتاً ومستميتاً كل من كان معه، وكانت أنفسهم الشريفة متشربة من كأس التضحية وريانة من معين التفادي. وفي مقدمة هؤلاء أبو الفضل أكبر أخوة الحسين (عليه السلام) الممتاز في الكمال والجمال، وقمر بني هاشم، وحامل راية الحسين، وعقيد آماله في المحافظة على رحله وعياله. ولذلك شق على الحسين أن يأذن له بالبراز الى الأعداء، غير أنّه يأمل في مبارزته القوم إبلاغ الحجّة وإحياء الذريّة، وأن يعين على حياة العائلة بالسقاية والرواية ـ كما سبق منه ذلك ـ ولذلك صارت له درجة تغبطه عليه الشهداء، وإنّ أخبث رؤساء جيش العدو (شمر الكلابي) وهو على شقائه أمّن لعباس وأشقّائه ـ لنسبة بينه وبين أُم العباس أُم البنين ـ ولأنّ عباس الفتوة إذا عهدت اليه السقاية يعود منها بعودته الى الحسين (عليه السلام) فمن هذا وذاك وذياك كان جوابه لأخيه العباس: «إذن فاطلب من القوم لهؤلاء الأطفال جرعة من الماء».

فتوجّه العباس بن علي (عليه السلام) نحو الجيوش المرابطة حول الشرائع، فأخذوا يمانعونه عن الماء ويستنهض بعضهم بعضاً على معارضته ومقاتلته خشية أن يصل الماء الى عترة النبي (صلى الله عليه وآله). ولم يزل العباس يقارعهم ويقاتلهم ويقلب فئة على فئة، ويقلّ العصابة تلو العصابة حتى كمنوا له وراء نخلة من الغاضرية فقطعوا يمناه، فتلقى السيف بيسراه مثابراً على الدفاع غير مكترث بما أصابه، وهو يتلو الأراجيز،ويذكّر القوم بمآثر أهل البيت وحَسَبهم ونسبهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكمنوا له ثانية من وراء نخلة وضربوه بالسيف على يساره فقطعوه، فأضحى </span>
الصفحة 167 كعمه جعفر الطيار (رضي الله عنه) يدافع عن نفسه وهو مقطوع اليدين، وكأن القوم قطعوا بيديه يدي الحسين (عليه السلام) فعند ذلك تقّدم إليه دارمي غير هيّاب له وضربه بعمود من حديد فخر صريعاً وصارخاً: «يا أخاه أدرك أخاك». ولم يدرك الحسين (عليه السلام) ظهيره ونصيره إلاّ بعد اختراق الجموع والجنود، وفي آخر لحظة منه نادباً له وقائلاً له: «الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوي».

</span>
الصفحة 168 </span>الصفحة 169
الشجاعة الحسينية


كانت هيئة الحسين (عليه السلام) وصحبه تجاه عداه دفاعية وسلسلة تحفّظات وتحوّطات عن سفك الدم أو هتك الحرم، مثل هجرته عن حرم الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، ثم مصافاته مع الحر والمحايدة عن طريق الكوفة، ثم تقديمه ابن سعد لدى ابن زياد للكفاف عنه حتى يعود من حيث أتى أويغادر الى ثغور العجم والديلم، ثم طلبه الإفراج عن حصاره ليذهب بنفسه الى يزيد يذاكره في مصيره ومسيره، ثم تحصنه خلف الروابي والهضاب ستراً على العائلة من العادية، ثم مطالبته السقاية والرواية بواسطة رجاله، والتشفّع لَديهم بأطفاله،وإيفاد رسل النصح والسلام إليهم، وإلقاء الخطب عليهم.. الى غيرها من شواهد مسلكه الدفاعي الشريف. غير أنّ عداه تناهوا في خطط الاعتداء عليه في جميع المشاهد والمواقف، وبرهنوا للملأ الإسلامي أنّهم لا يقصدون به سوى التشفّي والانتقام بكل قسوة وفظاعة، وكانت خاتمة مدافعاته عند الذود عن حياض شرفه بالسلاح حينما يئس ولم يبق له في هدايتهم مطمع وغدت أبواب رجاء الحياة وآمالها موصدة في وجهه، ورأى بعينيه مصارع صحبه وآله من جهة ومن الجهة الأُخرى مصرع العباس أخيه وذخيرته الوحيدة لنائبات الزمان، وأيقن بتصميم القوم على ممانعة الماء عنه وعن صبيته بكل جهد وجد حتى يميتوها ويميتوه عطشاً، فجاده جهاد الأبطال </span>
الصفحة 170 ونكس فرساناً على رجال عندما عاد من مصرع أخيه، وحال القوم بينه وبين مخيّمه، ولم يُرَ مكثور قط قتل ولده وإخوانه ومن معه أربط جأشاً وأمضى جناناً من الحسين (عليه السلام)،وإنّه كانت الرجال لتشد عليه فيشد عليها ثم تنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد عليها الليث، ويفرون من بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر وهو يقول:



أنا الحسين بن عليآليت أن لا أنثني


فذكّرهم أيام أبيه في صفين والجمل، ورددت أندية الأخبار ذكرى الشجاعة الحسينية بكل إعجاب واستغراب، إذ حفّت بحالته حالات شذّ أن يصاف بطل واحدة منها: من عطش مفرط، وحرم مهدد، وافتجاع بجمهور الأحبة والأرحام، وتفرده غريباً بين ألوف المقاتلين، ولكن شبل علي (عليه السلام) لم يحسب لجمهرتهم أي حساب ولم تبد منه في مثل هذه الحالة الرهيبة العصيبة ما ينافي الشرف ولا يخالف الدين ولا ما يحاشي الإنسانية.هي والله معجزة البشر وإنّها لإحدى الكبر وينشد في كراته:


اذا كانت الأبدان للموت أُنشأتفقتل امرىء في الله أولى وأفضل


ولم يزل يدافعهم في متسع من الأرض فئة بعد فئة حتى أدّت الأفكار والأحوال الى فكرة حصاره أثناء الكرّ والفرّ في دائرة تلال الحائر، وسدّوا في وجهه منافذ خروجه، وافترقوا عليه أربع فرق من جهاته الأربع: فرقة بالسيوف وهم الأدنون منه، وفرقة بالرماح وهم الجوّالة حوله، وفرقة بالنبال وهم الرماة من أعالي التلال، وفرقة بالحجارة وهم الرجّالة المنبثة حوالي الخيّالة.وأثخنوا جثمان سبط النبي (صلى الله عليه وآله) بالجروح الدامية وأكثرها في مقاديمه، وأضحى جلده </span>
الصفحة 171 كالقنفذ، وكلما تمايل ليهوي الى الأرض توازن معه فرسه ـ وكان من الجياد الأصائل ـ حتى إذا ضعفت هي أيضاً بما أصابها من الجروح خرّ من سرجه على وجهه، وأقبل فرسه نحو مخيّمه يصهل ويحمحم، فخرجت زينب من فسطاطها واضعة أصابعها على رأسها قائلة: «ليت السماء أطبقت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل» ثم صاحت بابن سعد قائلة: «يا عمر أُيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟». فدمعت عينا عمر وسالت دموعه على لحيته لكنه صرف بوجهه عنها، ثم أقبل شمر على الحسين (عليه السلام) يحرّض الجيش عليه، والحسين يحمل عليهم فينكشفون عنه وهو يقول: «أعلى قتلي تجتمعون؟ وأيم الله أرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون. أما والله لو قتلتموني لألقى الله بأسكم بينكم ثم لا يرضى بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الأليم» ولم يزل يدافع عن نفسه ويقاتلهم راجلاً قتال الفارس المغوار يتقي الرمية ويقترض العوار لكنه يقوم ويكبو والرجالة تفر من بين يديه ثم تكرّ عليه.

</span>
الصفحة 172 </span>الصفحة 173
مصرع الإمام ومقتله


لقد توالت على ابن النبي (صلى الله عليه وآله) جروح دامية من مطاردة الأبطال ومضاربة الفرسان، وأثناء مناصرته لأنصاره ومكاشفة الجيش عن أهل بيته، وعندما بلغ المسناة رمى ابن نمير بسهم فجرح ما بين فمه وحنكه وملأ كفيه دماً فحمد الله وقال: «اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، ولا ترض الولاة عنهم أبداً». ثم ضربه كندي على رأسه بالسيف فقطع البُرنس وأدمى رأسه وامتلأ البرنس دماً فقال الحسين: «لا أكلت بيمينك وحشرك الله مع الظالمين» وألقى البرنس ولبس القلنسوة، ثم شج جبينه أبو الحتوف الخارجي بالحجارة، فسالت الدماء على وجهه وأفضت الإصابات والعصابات الى هُويّه نحو مصرعه، وأقبل شمر برجاله يحول بين الحسين (عليه السلام) ورحاله، واغتنمت رجّالة الجيش عندئذ فرصة مصرعه لاغتنام ما في رحله، وما على أهله ـ اولئك الذين فقدوا في تلك الساعة الرهيبة حامي حماهم ـ فاستفزت ضجتهم مشاعر الحسين الهادئة، فرفع رأسه وبصره وإذا بأجلاف القوم زاحفون من سفح التلال نحو مخيمه للسلب والنهب، فأثارت الغيرة في حسين المجد روحاً جديدة، فنهض زاحفاً على ركبتيه قائلاً: «يا شيعة آل أبي سفيان: إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم وراجعوا أحسابكم وأنسابكم إن كنتم عرباً».
</span>
الصفحة 174 فصاح شمر: «ما تقول يا ابن فاطمة؟» قال الإمام: «أقول أنا الذي أُقاتلكم وتقاتلوني، والنساء ليس عليهن جناح، فارجعوا بطغاتكم وجهالكم عن التعرّض لحرمي» فقالوا: ذلك لك ورجعوا.

ومكث الإمام (عليه السلام) صريعاً يعالج جروحه الدامية والناس يتقون قتله وكل يرغب في أن يكفيه غيره، فصرخ بهم شمر قائلاً: «ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل، اقتلوه ثكلتكم أُمهاتكم» فهاجوا على الحسين واحتوشوه فضربه زرعة على عاتقه بالسيف.
وأقبل عندئذ غلام من أهله وقام الى جنبه ـ وقد هوى ابن كعب بسيفه ـ فصاح به الغلام: «ياابن الخبيثة أتقتل عمي؟» وانتقى السيف بيده فأطنها وتعلقت بالجلدة فنادى الغلام: «يا أُماه» فاعتنقه الحسين قائلاً: «صبراً يا ابن أخي على ما نزل بك، فإن الله سيلحقك بآبائك الطاهرين الصالحين، برسول الله وبعلي وبالحسن» ثم قال: «اللهم امسك عنهم قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض، اللهم إن متّعتهم الى حين ففرّقهم فرقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا تُرضي عنهم الولاة أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا فغدوا علينا يقتلونا».
ثم تضاعفت الرجّالة والخيالة على الحسين (عليه السلام) وطعنه سنان برمحه وقال لخولي: «احتز الرأس» فضعف هذا وأرعد، فقال له سنان: «فتّ الله عضدك» ونزل وذبح الإمام ودفع رأسه الى خولي، وسلبوا ما على الحسين (عليه السلام) ـ حتى سراويله ونعليه ـ ثم تمايل الناس الى رحله وثقله وما على أهله، حتى أنّ الحرة كانت لتُجاذب على قناعها وخمارها،والمرأة تُنتزع ثوبها من ظهرها فيؤخذ منها، والفتاة تعالج على سلب قرطها وسوارها، والمريض يُجتذب الأديم من تحته.
ثم نادى ابن سعد في أصحابه: «من ينتدب الى الحسين فيوطىء الخيل صدره </span>
الصفحة 175 وظهره؟» فانتدب عشرة فوارس، وداسوا بحوافر خيلهم جنازة الإمام، ورضّوا جناجن صدره. وصلى ابن سعد على قتلى جيشه ودفنهم، وترك الشهداء الصالحين على العراء {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ}.

</span>
الصفحة 176 </span>الصفحة 177
بعد مقتل الحسين


قتل الظالمون حسين الفضيلة وفرحوا بمقتله فرحاً عظيماً، إذ حسبوا أنّهم قتلوا به شخصيته ودعوته وصرعوا به كلمته، وحسبوا أنّهم أخذوا به ثأر أسلافهم وانتقام أشياخهم، داسوا بخيلهم جناجن صدر الحسين (عليه السلام) وسحقوا جثمانه، وزعموا أنّهم سحقوا به كلمة الحسين ومحقوا دعوته.
تركوا جسد الحسين وأجساد من معه عراة على العراء بلا غسل ولا كفن ولا صلاة عليها ولا دفن، زاعمين أنّهم أهملوا بذلك شخصية الحسين وأهمية الحق والإيمان، مثّلوا بجثة الحسين ـ وقد منع الإسلام عن المثلة ـ زاعمين أنّهم جعلوا داعية العدل وآية الحق أُمثولة الخيبة والفشل، وأنّه سيضرب به المثل، لعبوا برأسه على القنا وبرؤوس آله وصحبه أمام العباد والبلاد، زاعمين أنّهم سيلعبون بعده بعقائد العباد ومصالح البلاد وما داموا ودامت، سلبوه وسلبوا أهله ونهبوا رحله وأحرقوا خيمه وأبادوا حُرمه، زاعمين أنّها هي الضربة القاضية، فلن ترى بعدئذ من باقية.
ظن ذلك القوم وأيّدهم كل شواهد الأحوال يومئذ حتى دفن ابن سعد جميع قتلى جنده في يومه، ودفن معهم كل خشية أو خيبة كانت تجول في واهمته، ورحل عن كربلاء برحل الحسين (عليه السلام) وأهله والرؤوس الى ابن زياد، وترك أشلاء حامية الحق وداعية العدل جرداء في العراق بين لهيب الشمس والرمضاء </span>
الصفحة 178 وعرضة للنسور والعقبان. ومما يثير الشجون والأحزان أنّ عليّ الإيمان حارب البغاة من أقطاب الحركة الأموية في صفين والجمل، وبعد قتلهم أجرى عليهم سنن التجهيز والدفن مراعياً حرمة الإسلام وحشمة الشهادتين، أمّا المنتقمون من حسين الحق وصحبه فلم يحترموا فيه أي شعار ديني أو أدب قومي، قنعوا منهم بدمائهم عن التغسيل وبالترب عن التحنيط وبنسيج الرياح عن التجهيز.

وليت شعري! ماذا يصنع أولياء الحق بصلاة أولياء الشيطان؟ وحسبهم منهم أن صلّت على جسومهم سيوفهم، وشيّعت أجسادهم نبالهم، وألحدت أشلاءهم العوادي والعاديات، فعليهم وإليهم صلوات الله والصالحين ودعوات طلاب العدل وعشاق الحق ما لاحت الإصباح وروحت الرياح.
هذا وما عتمت عشية الثاني عشر من محرم إلاّ وعادت الى أرياف كربلاء عشائرها الطاعنة عنها بمناسبة القتال وقطان نينوى والغاضريات من بني أسد ـ وفيهم كثير من أولياء الحسين (عليه السلام) وقليل ممن اختلطوا برجّالة جيش الكوفة ـ فتأملوا في أجساد زكية تركها ابن سعد في السفوح وعلى البطح تسفي عليها الرياح، وتساءلوا عن أخبارها العرفاء فما مرت الأيام والأعوام إلاّ والمزارات قائمة، وعليها الخيرات جارية، والمدائح تتلى، والحفلات تتوالى، ووجوه العظماء على أبوابها، وتيجان الملوك على أعتابها، وامتدت جاذبية الحسين (عليه السلام) وصحبه من حضيرة الحائر الى تخوم الهندوالصين وأعماق العجم وما وراء الترك والديلم والى أقصى من مصر والجزيرة والمغرب الأقصى يرددون ذكرى فاجعته بممر الساعات والأيام، ويقيمون مأتمه في رثائه ومواكب عزائه، ويجدون في إحياء قضيته في عامة الأنام،ويمثلون واقعته في ممر الأعوام، هذا بعض ما فاز به حسين النهضة من النصر الآجل والنجاح في المستقبل {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ
الصفحة 179 وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}</span>.

أمّا الحزب السفياني فقد خاب فيما خاله وخسرت صفقته وذاق الأمرّين بعد مقتل الحسين (عليه السلام) في سبيل تهدئة الخواطر وإخماد النوائر حتى صار يعالج الفاسد بالأفسد ويستجير من الرمضاء بالنار، كقيامه باستباحة مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) وإخافة أهلها، وقتله ابن الزبير في مكة حرم الله والبلد الأمين، حتى حاصروه ورموه بالمنجنيق، وقطعوا سبل الحج على المسلمين، وهتكوا معظم شعائر الدين.
ونهض المختار الثقفي وزعماء التوابين العراقيين طالبين ثأر الحسين (عليه السلام) فقتلوا ابن زياد وابن سعد وأشياعهما شرّ قتلة، وأهلكوا شمراً بكل عذاب، وأحرقوا حرملة حيّاً، وتتبعوا قتلة الحسين (عليه السلام) ومحاربيه في كل دير ودار، وقتلوهم تحت كل حجر ومدر، وأصلوهم الحميم والجحيم، واستجاب الله دعوة الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء إذ قال: «وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبّرة».
ولم تزل عليهم ثائرة إثر ثائرة ونائرة حرب تلو نائرة حتى أذن الله سبحانه بزوال ملك أمية وسقوط دولة بني مروان على يدي السفاح الهاشمي أبي العباس بن عبد الله العباسيوإخوته وأعمامه، والقائد الباسل أبي مسلم الخراساني، وثلة من فحولة هاشم، فثلّت عروش تلك الدولة الجائرة، ودكّت أركان حكومتها الغدّارة، واستأصلوا شأفتهم وأبادوهم رجالاً ونساءً حتى لم يبق منهم آخذ ثار ولا نافخ نار، وأحرقوا من آثارهم حتى الرميم المنبوش، ولُعِنوا حيثما ذُكروا، وقُتلوا أينما ثُقِفوا، فتجد حتى اليوم قبر يزيد الجور في عاصمة ملكه كومة أحجار ومسبة المارة، لا يذكر في شرق الأرض وغربها إلاّ بكل خزي وعار.
هذه عاقبة الجائر الفاجر وتلك عقبى المجاهد الناصح {إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.


توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس
قديم 2014/08/04, 02:55 PM   #6
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي

زينب في عاصمة أبيها


إن كان أبو حفص أوّل من اختط الكوفة للجند والمؤونة فأبو الحسن (عليه السلام) أوّل من مصّرها وعمّرها ومدّنها واتخذها عاصمة لحكومته(1) فصارت في أيامه مشهد القضاء والخطابة، ومعهد العلم والعبادة، وكانت ابنته زينب أميرة الكوفة حينماكان أبوها أمير المؤمنين، ومعزز مجدها إخوتها الأمجاد، وزوجها سيّد الأجواد عبد الله ابن عمها جعفر الطيارـ الذي اشتهر بالجود ـ حتى أنّه أقرض شخصاً واحداً ـ وهو الزبير ـ ألف ألف درهم ثم وهب الصك لابن الزبير.
وبيت زينب في الكوفة ملجأ الفقراء والأُمراء، حتى كان أبوها يضيف عندها أحياناً ـ كماروي ذلك عنه في ليلة مقتله ـ فإلى مثل هذا البلد أو الى مقر عزها وعاصمة أبيها كان سبي زينب الخطوب وعقيلة بني هاشم، وتدخلها بجملة ربائب الخدر من آل الرسول، وحولها يتامى وذراري أبيها علي، على محامل غير مجللة بالغطاء، وهنّ لا يملكن من السواتر غير الحياء، يسوقهنّ الجيش المنتصر أمام الركاب كالإماء، وأهل الكوفة في عَبرة وعِبرة من هذا المشهد الغريب، يضجون ويعجون مما جرى على آل الرسول، وفيهم من يناولون الأطفال بعض الخبز
____________
1) روي ذلك القرماني في أواخر الدول.

الصفحة 182 والتمر رأفة ورحمة.

فحري بالحرة الهاشمية سليلة الرسول أن تصرخ بهم وتقول: «إنّ الصدقة محرَّمة علينا أهل البيت» ونساء الأزقة والسطوح باكيات على هؤلاء.
قال خزيمة الأسدي: دخلت الكوفة فصادفت منصرف علي بن الحسين بالذرية من كربلاء الى ابن زياد، ورأيت نساء الكوفة يومئذ قياماً يندبن، متهتكات الجيوب، وسمعت علي بن الحسين وهو يقول بصوت ضئيل قد نحل من شدة المرض: «يا أهل الكوفة إنّكم تبكون عليناً فمن قتلنا غيركم؟» ورأيت زينب بنت علي (عليه السلام) فلم أر والله خَفِرَةً أنطق منها كأنّما تفرغ عن لسان أميرالمؤمنين، فأومأت الى الناس أن اسكتوا، فسكتت الأنفاس وهدأت الأجراس فقالت:
«الحمد لله والصلاة على محمّد وآله الطيبين الأخيار، أمّا بعد: يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرّنّة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم. ألا وهل فيكم إلاّ الصّلف النّطف، والصّر الشّنف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أوكفضة على ملحودة: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}.
أتبكون وتنتحبون؟ إي والله! فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل أبداً. وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، وسيّد شباب أهل الجنة، وملاذ خبرتكم ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم، ومُدرة سنّتكم. ألا ساء ما تزرون وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السّعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضُربت عليكم الذلة والمسكنة.
ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم، وأي كريمة له أبرزتم، وأي دم له سفكتم، وأي حرمة له انتهكتم؟ ولقد جئتم بها خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو ملأ </span>
الصفحة 183 السماء أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ولعذاب الآخرة وأنتم لا تنصرون.

فلا يستخفنّكم المهل فإنّه لايخفره البدار، ولايخاف قوة الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد».
يقول راوي هذه الخطبة: «فوالله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم. ورأيت شيخاً واقفاً الى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته وهو يقول: بأبي أنتم وأمي، كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا ينزى».
</span>
الصفحة 184 </span>الصفحة 185
السبي النبوي في قصر الإمارة


نزلوا بالسبايا في قصر الإمارة على عبيدالله وقد سبقها رأس الحسين (عليه السلام) لأنّ ابن سعد ساعة ما قتل الحسين أرسل رأسه الى ابن زياد مع خولي الأصبحي. فبات في بيته وأصبح عنده في طست بين يديه ـ ومجلسه مكتظ بالشيوخ ورؤساء الأحياء ـ فصار يبتسم من عظيم سروره وابتهاجه، وينكت رأس الحسين بقضيب في يده ويضرب شفتيه، غير مكترث ولا محتشم لأحد، ولا أحد ينكر عليه فعلته هذه إلاّ الصحابي العظيم زيد بن أرقم، صرخ قائلاً:
«ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين، فقد والله رأيت رسول الله يضع شفتيه على هاتين ويقبّلهما» ثم بكى. فسبه ابن زياد وقال له: «أبكى الله عينيك، فلولا أنّك شيخ كبير قد كبرت وخرفت لضربت عنقك» فخرج زيد يقول للناس: «أنتم يا معشر العرب عبيد بعد اليوم، تقتلون ابن فاطمة وتؤمّرون ابن مرجانة».
ولما أدخلوا سبايا الحسين (عليه السلام) على ابن زياد تنكرت أخته زينب بين النساء وحفت بها جواريها لكي لا تعرف، فقال ابن زياد: «من هذه المتنكرة المتكبرة؟» فلم تجبه ثم كررها ثلاثاً وهي لاتكلمه، فقالت له إحدى الجواري: «هذه زينب بنت فاطمة». فقال ابن زياد: الحمدلله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أُحدوثتكم!! فقالت زينب: «الحمدلله الذي كرّمنا بمحمّد وطهّرنا تطهيراً لا كما تقول، وإنما يفتضح </span>
الصفحة 186 الفاسق ويكذب الفاجر هو غيرنا». فقال ابن زياد: «كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟» فقالت: «هؤلاء كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتخصمون عنده فتنظر لمن الفلج».

فغضب ابن زياد واستشاط، فقال له عمر بن حريث: «يا أمير إنّها امرأة، والمرأة لاتؤاخذ بشيء من منطقها». فقال ابن زياد لزينب: «شفى الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك». فقالت: «لعمري لقد قتلت كهلي، وأبرزت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك فقد اشتفيت». قال ابن زياد لجلسائه: «هذه سجاعة وقد كان أبوها أسجع منها».
ثم التفت الى علي بن الحسين قائلاً: «ما اسمك؟» قال: «علي بن الحسين» قال: «أوليس الله قد قتل عليّاً؟» قال: «كان لي أخ يُسمّى علياً قتله الناس». قال ابن زياد: «بل قتله الله». قال علي (عليه السلام): «الله يتوفّى الأنفس حين موتها، وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن الله». فغضب ابن زياد وأمر بقتله، فتعلقت به عمته زينب قائلة: «حسبك يا ابن زياد من دمائنا! أما رُويت واشتفيت، وهل أبقيت منا أحداً؟ اسألك بالله إن كنت مؤمناً أن تقتلني معه إن كنت قاتله». فنظر ابن زياد إليهما طويلاً ثم قال: «عجباً للرحم، تود أن تقتل دونه، دعو الغلام ينطلق مع نسائه».
ثم كثر الزّحام على ابن زياد من الطامعين والطامحين، إذ أزفت ساعة الوفاء بالوعود وتأدية أجور الاملين، لكن ابن مرجانة رأى أنّ الخزانة لا تفي بمصرف الجنود فضلاً عن الوفاء بالوعود، وإنّما أغراهم بالمواعيد دهاءً ومكراً. وطبيعة الكوفة أنها تنصب رقابها سلماً لرقبائها قبل إبرام الوثائق، فتمسي ولها الوزر ولغيرها الأجر، فغدر ابن زياد بهم بعد مقتل الإمام، وحَرَم الكثير منهم حتى عن القليل بأقل بادرة وأدنى حجة، ونكث عهد ابن سعد بولاية الري.
</span>
الصفحة 187 ولما جاءه سنان بن أنس قائلاً:



إملأ ركابي فضة وذهباًإنّي قتلت السيّد المحجّباقتلت خير الناس أُمّاً وأباوخيرهم إذ ينسبون النسبا


ردّه عبيدالله قائلاً: «فلم قتلته لو تعرفه كذلك؟» وأحال ابن زياد قسماً من هؤلاء العاملة الى أميره يزيد في الشام ليستوفوا الجوائز هناك، وجهز معهم سبايا الحسين، وقائد الركب زجر وقائد الجند المحافظ لهم شمر، ومعهم كافة الرؤوس، وذلك لأنّه عرف أنّ الكوفة سريعة التبدل، وشعر ببوادر انقلاب القلوب مما ذكرناه في بقاء آل الرسول في الكوفة خطر، والسجون مشحونة بشيوخ القبائل.
وليس ابن زياد كيزيد يلهو بالحالة الحاضرة عما ورائها ويضيع الفرص على نفسه، فاستعجل بارسال أهل الحسين الى الشام، فضلوا يعانون مشاقّ السّفر حتى وصلوا دمشق الشام في أوائل شهر صفر.
</span>
الصفحة 188 </span>الصفحة 189
في الشام عاصمة أُمية


الحوادث في النهضة الحسينية سلسلة مصائب تؤخذ بدايتها في الأكثر من مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) وتنطفي شعلة الختام في الشام. إلاّ أنّ المتأمل في فصولها يعسر عليه في أكثر الأحيان ربط الحلقات وتعليل الحوادث ومعرفة المؤثّرات، فيقف التاريخ بالقارئ غالباً وقفة الحائر واضعاً سبابته على شفتيه بدل أن يضعها على جملة تاريخية كهيئة المشير الى السبب، وكيف لا تستولي عليه الحيرة وحوله ما يدهش اللب ويقضي بالعجب، إذ عن اليمين فضائل جمة تمركزت في شخصية الحسين (عليه السلام) هي ذي مآثر فُضلى تستوجب إكرام صاحبها ـ قام أو قعد ـ بينما عن يسار المتأمل صحيفة سوداء، للخصوم هي ذي مآثم تستدعي احتقار صاحبها ولعنه ـ أينما سار أو وقف ـ وأمام المتأمل فجائع وفضائع وما لا يستحله عدد من ألد أعدائه من إيذاء صبية، وذبح ذرية، وسبي نساء، وقتل أبرياء، وضرب المرضى، وسب الموتى وإحصار الضعفاء على ظمأ، ومثلة بأشلاء الى غيرها مما تقشعر منه الجلود.
فهل هذا كله لأحقاد أورثتها الجدود للأحفاد؟ حينما نرى الخصومات تنتهي في العرب وغير العرب في ساعة الغلب، فلا يبقى بعد ذلك في المنظر أثر حقد على المنكسر، بل يصون منه الحرمة، وتتحول فيه النقمة الى الرحمة.
</span>
الصفحة 190 لكنما المؤسف كل الأسف أنّ يزيد لم يعامل خصمه من آل الرسول (صلى الله عليه وآله) معاملة خصوم العرش والتاج، ولا وقفت مظالمه فيهم عند حد الغلب والسلب، حتى أسر النسوة بكل قسوة وسيرها عشرات المنازل من كربلاء الى الشام سبايا على أقتاب المطايا، وأوقفهن بين يديه كالإماء شعث الشعور متربة الوجوه ممزقة الثياب، الأمر الذي يدعو الى الاعتقاد بأنّ القضية قضية الأحقاد لا قضية العرش والتاج، ولا سيما عندما أظهر التشفي حين نكت بخيزرانة في يده ثغر الحسين وشفتيه قائلاً: «يوم بيوم بدر» فأنكر عليه أبو بردة الأسلمي قائلاً: «ويحك يا يزيد، أتنكت ثغر الحسين ابن فاطمة؟! أشهد لقد رأيت النبي يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول: أنتما سيّدا شباب أهل الجنة، فقتل الله قاتلكما ولعنه».

فغضب يزيد وأمر بإخراجه سحباً ثم تمثل بأبيات ابن الزبعرى المعروفة «ليت أشياخي ببدر شهدوا...الخ» وزاد عليها ـ كما في رواية الشعبي وغيره ـ أبياتاً منها هذا البيت:


لست من خندف إن لم أنتقممن بني أحمد ما كان فعل


ثم صارت فاطمة بنت الحسين من ورائه تطاول رأسها لترى رأس أبيها ويزيد يطاول برأسه لئلا تراه، وصار يتمثل بأبيات الحصين المري:


نفلِّق هاماً من رجال أعزّةعلينا وقد كانوا أعقّ وأظلما


فصاح علي بن الحسين ـ وكان مغلول اليدين ـ: «يا يزيد! ما ظنّك برسول الله لو رآنا على هذه الحالة؟» فأمر يزيد بإطلاق يديه وقال: «أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني في سلطاني فصنع الله به ما قد رأيت». فأجابه علي: {مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبة فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَاب مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال </span>
الصفحة 191 فَخُور}.

وقام شامي أحمر وأشار الى فاطمة بنت الحسين قائلاً: «يا أمير هب لي هذه الجارية». فارتعدت فاطمة وتعلقت بعمتها زينب، فصاحت زينب الفصاحة: «مه! ليس ذلك لك ولا لأميرك». فغضب يزيد وقال: «إنّ ذلك لي ولو شئت لفعلت».فأجابته زينب: «كذبت والله، ليس ذلك لك إلاّ أن تخرج عن ملتنا وتدين بغير ديننا». فاستطار يزيد غضباً وقال: «إياي تستقبلين بهذا؟ إنّما خرج عن الدين أبوك وأخوك». فقالت: «بدين الله ودين أبي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلماً، وإنّما أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك».
ثم لم تقنع بنت أميرالمؤمنين في تلك القاعة الرهيبة التي لا تقصر مهابة عن ميادين الوغى، بل عمدت الى كشف القناع عن مخازي القوم وبيان صلاتها بصميم الإسلام، فقامت مصليّة على رسول الله قائلة:
الحمدلله رب العالمين، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين.
صدق الله: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}.
أظننت يا يزيد! حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة، ؤانّ ذلك لعظم خطرك، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا.
مهلاً مهلاً! أنسيت قول الله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}؟!
أمن العدل يا ابن الطلقاء! تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله </span>
الصفحة 192 سبايا، قد هُتكت ستورهن، وأُبديت وجوههن، تحدوّ بهنّ الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرف وجوههنّ أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من رجالهنّ ولي ولا من حماتهن حمي.

وكيف يُرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟ وكيف يستبطىء في بغضنا ـ أهل البيت ـ من نظر إلينا بالشنف والشّنآن والإحن والأضغان؟!
ثم تقول ـ غير متأثم ولا متعظم:


لأهلّوا واستهلّوا فرحاًثم قالوا يا يزيد لا تشل


منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرية محمّد (صلى الله عليه وآله) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك زعمت أنّك تناديهم، فلتردنّ وشيكاً موردهم، ولتودّن أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت.
اللهم خذ بحقنا، وانتقم من ظالمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا.
فوالله ما فريت إلاّ جلدك، ولا حززت إلاّ لحمك، ولتردنّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما تحمّلت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم، ويأخذ بحقهم.
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.
حسبك بالله حاكماً، وبمحمد خصيماً، وبجبريل ظهيراً. وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيّكم شر مكاناً وأضعف جنداً.
ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك إنّي لاستصغر قدرك، واستعظم تقريعك، واستكبر توبيخك، لكنّ العيون عبرى، والصدور حرّا.
</span>
الصفحة 193 ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنظف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفوا أُمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدن وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت، وما ربّك بظلام للعبيد، فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل.

فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك. فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فند، وأيامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين.
فالحمد لله الذي ختم لأولّنا بالسعادة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب.
</span>
الصفحة 194


توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس
قديم 2014/08/04, 02:59 PM   #7
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي

طلائع الانتباه


لقد كان لخطبة زينب في تلك الحفلة الرهيبة ـ التي كانت تضم بين جنبيها عدداً كبيراً من مختلف الناس ـ صدىً عظيم، بحيث نبّهت الناس وأيقظتهم من نومتهم، كأنهم كانوا في سبات عميق ذهبت بعقولهم ومشاعرهم.
أزاحت ربّة الخدر حجب الشبهات عن عيون أعيان الشام الذين كانوايزعمون أنّ هؤلاء من سبي الروم والتتر، حتى كان أحدهم يطالب يزيد إحدى بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) تكون أمة له وخادمة في بيته، فانكشفت لأعيان الشام حقيقة السبي وأنّه من العنصر الهاشمي الزكي والبيت النبوي الطاهر; فعندما أمر يزيد بالحبال فقطعت من أعناقهن وأيديهن، وتوجه بالحنان الى زين العابدين وطلب منه أن يصعد المنبر ويعتذر ليزيد من أمر أبيه الحسين (عليه السلام) ; فرقى ابن الخيرتين المنبر فحمدالله وأثنى عليه وذكر الرسول فصلّى عليه ثم قال(1):
«.. أيها الناس أُعطينا ستّاً وفُضِّلنا بسبع: أعطينا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبة في قلوب المؤمنين. وفُضّلنا بأنّ منّا النبي المختار محمّداً، ومنا الصديق، ومنا الطيّار، ومنا أسد الله وأسد رسوله ومنّا سبطا هذه الأمة
____________
1) إنّ هذه الخطبة العظيمة التي أُلقيت على مسامع أهل الشام كانت مفصّلة جداً رأينا اختصارها بمقتضى هذا الكتاب وانتخبنامنها بعض الجمل والفصول فقط. وتفصيل هذه الخطبة مذكورة في كتاب بحار الأنوار ج10.

الصفحة 196 ومنا مهديّ هذه الأمة. من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي:... أنا ابن محمّد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى.. أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء...». وهكذا لم يزل يقول أنا ابن، أنا ابن حتى ضج الناس بالبكاء وخشي يزيد أن تحدث فتنة وانقلاب، فأمر المؤذن أن يؤذن حتى ينقطع كلام الإمام، فجعل المؤذن يؤذن حتى قال: «اشهد أنّ محمّداً رسول الله» التفت العليل من فوق المنبر الى يزيد وقال: «محمّد هذا جدّي أم جدك يا يزيد؟! فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدّي فلم قتلت عترته؟!».

هذه الخطبة الرنّانة تمكّن علي بن الحسين (عليه السلام) أن يوجّه نحوه وجوه أهل الشام ـ كما أثّرت من قبل خطبة عمّته زينب في أعيان الشام ـ.
ومما مضى نعلم أنّ النهضة الحسينية ـ التي دار محورها حول تنبيه الأُمة على سيئات بني أُمية ـ لم ينقطع سيرها بانقطاع حياة الحسين في طف كربلاء ـ كما قلنا ذلك في الفصل السابق ـ بل قامت مقامه شقيقته زينب وأزالت الستار عن مخازي بني أُمية الجور حتى في عاصمتهم، وفي نوادي ابن زياد ويزيد،وكذا قام بدوره علي شبل الحسين السبط في هذه المواضع الرهيبة منبهاً للغافلين، وناقماً على الظالمين، ومبشراً بمبادىء جدّه الأمين ـ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيي عن بينة.
عند ذلك قلب يزيد ظهر المجن، وأظهر الندم من قتل الحسين قائلاً: «لعن الله ابن مرجانة، لقد كنت اكتفي منه عن الحسين بأقل من هذا» وطلب من علي ابن الحسين أن يعرض عليه حاجته، فقال له: «أُريد منك أن تريني وجه أبي، وأن تعيد على النساء ما أُخذ منهن، ففيها مواريث الآباء والأُمهات، وإذا كنت تريد قتلي فأرسل مع العيال من يؤدي بهن الى المدينة» فأجابه بقوله: «أمّا وجه أبيك فلن تره، وأما ما أُخذ </span>
الصفحة 197 منكم فيرد إليكم، وأمّا النسوة فلا يردهن غيرك، وقد عفوت عن قتلك».

هنا وفي هذه الساعة انطفأت جذوة الانتقام ـ التي كان لهبها يستعر في صدر يزيد من قبل ـ، وهنا خاتمة المصائب.
هنا أذن يزيد لأهل البيت النبوي إقامة العزاء لفقد سيّدهم لياليوأياماً، وعلت من بيوت يزيد ونسوته أصوات البكاء والعويل ـ كحمامات الدوح يتجاوبن النوح مع النوادب من آل الرسول على سيد شباب أهل الجنة ـ.
ثم أمر يزيد الخنا النعمان بن بشير أن يسير بآل الرسول الى المدينة المنورة في العشرين من صفر، وينزل بعيداً عنهم، ويسير كذلك ولا ينزل إلاّ بأمرهم ولا يرحل إلاّ بمثله، وأن يراعي في حسن خدمتهم كل ما فيوسعه من عطف ورأفة.
بلغ السبي النبوي المدينة ولكن بأية حالة؟! تعرف مبلغ التأثير في أهل البيت مما خاطبت زينب المدينة قائلة:


مدينة جدّنا لا تقبلينافبالحسرات والأحزان جيناخرجنا منك بالأهلين جمعاًرجعنا لا رجال ولا بنيناوكنا في الخروج بجمع شملرجعنا حاسرين مسلبيناوكنا في أمان الله جهراًرجعنا بالقطيعة خائفيناومولانا الحسين لنا أنيسرجعنا والحسين به رهينافنحن الضائعات بلا كفيلونحن النائحات على أخيناونحن السائرات على المطايانشال على جمال المبغضينا


ثم أخذت بعضادتي باب مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) وقالت بلهفة: «يا جدّاه! إنّي ناعية إليك أخي الحسين» ولازالت بعد ذلك لا تجف لها عبرة، ولا تفتر من البكاء والنحيب، وكلما نظرت الى علي بن الحسين (عليه السلام) تجدد أحزانها وزاد وجدها.
</span>
الصفحة 198 </span>الصفحة 199
محرم.. وتاريخ العزاء الحسيني


في التاريخ مصارع كثيرة.. وفجائع مثيرة يذهل الفكر أمامها حائراً.. ولكن فاجعة «كربلاء» قد أجمع المؤرخون بأنها من أشد الفجائع أثراً في النفوس... وأقسى المصارع وقعاً على القلوب.. ذلك لما وقع على ساحة الطف في كربلاء بالعراق من مجزرة بآل النبي وأصحابهم يوم العاشر من محرم سنة إحدى وستين للهجرة الموافق لسنة 85 ميلادية. حيث حوصر فيها الإمام أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو وآله وفتية من بني هاشم وجملة من أصحابه من أهل العراق والحجاز..واستُشهدوا جميعاً من قبل الجيش الأموي بقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص وبأمر من عبيدالله بن زياد عامل يزيد على الكوفة.. لا لذنب سوى تمسكهم القوي بمبادئهم القويمة.. وإحساسهم القوي بالمسؤولية الملقاة على عواتقهم إزاء السياسة الأموية القائمة...
لذلك كلما بدت طلعة العام الهجري(1) تذكّر المسلمون ببالغ الأسى وعظيم
____________
1) يعتقد فريق من المسلمين ضرورة الاحتفال بهلال محرم الحرام باعتباره مفتتح العام الهجري، وأنّه يلزم أن يكون موضع فرح وسرور ساعة حلوله.. وأن يتخذ له مظاهر الأنس والابتهاج أسوة بسائر الأقوام التي اتخذت من مفتتح أعوامها أبهج يوم أو أعظم عيد... ولذلك بدأت بعض الأقطار الإسلامية تأييد هذا التقليد بإقامة مباهج الاحتفاء ومجالس التكريم بهذه المناسبة ليلة الأول من شهر محرم ويومه باعتبار هذا اليوم يوم الهجرة النبوية.. ويحلق المتحدثون تحت هذا العنوان.. عامدين على اتخاذه عيداًدونما اعتناء بمشاعر الآخرين..وتقام على هذا الأساس مظاهر الزينة ومعالم الأفراح في بعض الأقطار العربية.. وتتبادل التهاني (بيوم الهجرة) أو «بعيد الهجرة» في حين أنّ يوم الهجرة النبوية كان بإجماع المؤرخين دونما اختلاف في يوم الاثنين من مطلع شهر ربيع الأوّل من سنة 622 ميلادية وإنّ الرسول صلوات الله عليه ترك مكة ليلاً وهاجر مع صاحبه «أبي بكر» الى المدينة وترك ابن عمه علياً في فراشه تلك الليلة.. وليس هناك من رابط بين هذه الهجرة وأول شهر محرم ولم يرد في التاريخ الإسلامي ذكر للاحتفال بهذه المناسبة في مطلع شهر محرم.. وإنّما في عهد «عمر» جرى الاتفاق على اعتبار هجرة الرسول بداية لتدوين التاريخ الإسلامي.. واعتبار أول محرم كما كان المعتاد بداية للعام الهجري لغرض الحساب.. وأمّا الاحتفال به كعيد لرأس السنة الهجرية وعطلة رسمية... فهي فكرة حديثة ومن محدثات السنين الأخيرة.

الصفحة 200 التأثر مصارع آل الرسول وأهل بيته وما أمعنه الجيش الأموي فيهم من القتل والتنكيل والتمثيل.. وتذكروا كيف دكّت حوافر خيول هذا الجيش جناجن صدورهم وظهورهم بشكل لم يشهد التاريخ نظيرها فظاعة وبشاعة.. وكيف ساروا برؤوس القتلى على الرماح مع نساء الرسول سبايا الى الكوفة فالشام باسم سبايا الروم ثم الى مدينة جدّهم يثرب عاريات في أحزن منظر(1)..كل هذا والدين الحنيف في أول عهده.. والإسلام في ربيع حياته..

لذلك حين يحل هذا التاريخ من كل عام.. ويهل هلال محرم الحرام يستعد المسلمون في معظم أنحاء المعمورة للتعبير عن شعورهم إزاء هذه الذكرى الدامية
____________
1) وقد استقبلهم بنو هاشم بصورة لا ينساها المسلمون والعلويون من حيث الروعة والبكاء والعويل.. وقد أنشدت بنت عقيل بن أبي طالب هذه الأبيات تصف بها الحالة:


مـاذا تـقـولـن إن قـال النـبي لكم؟مــاذا فـعـلـتـم وأنـتـم آخـــــر الأمـــمبـعـترتي وبـأهـلــي بعـد مفتقديمــنـهـم أسارى وصرعى ضرجوا بدمما كان هذا جزائي إذ نصحت لكمأن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي



تاريخ العلويين ـ محمّد غالب الطويل

الصفحة 201 وخاصة في يوم العاشر من محرم.. المعروف بيوم «عاشوراء» حيث يحتفل المسلمون فيه بهذه المناسبة الأليمة متذكرين مصارع آل النبي في كربلاء في حزن عميق وشجن عظيم.. يستعرضون مواقف الإمام الحسين ومن استشهد معه بما يناسبها من الإشادة والتكريم... ومنهم من يبالغ في إظهار شعائر الحزن والأسى حسبما يتصوره ويرتاح اليه حسب تأثره ومعتقده اتجاه هذ الفاجعة الدامية.. التي أثرت في العالم الإسلامي تأثيراً بالغاً ما ظل ملازماً له منذ ذلك الحين أي قبل ألف وقرون الى يومنا هذا... الى ما شاء الله من أيام الدهر.

وقد يتصور البعض أنّ هذه الشعائر والمظاهر التي تقام في العشرة الأولى من محرم الحرام من كل عام من قبل المسلمين في مختلف أنحاء الأرض وبمختلف أشكالها إنّما هي من محدثات العصور الأخيرة في حين أنّ هذا التعبير عن شعور التأثر والتألم تجاه مصرع الإمام الحسين(1).. إنّما يرقى تاريخه الى عهد قديم في الإسلام أو هو قريب العهد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.. غير أنّه كان في أول أمره محدوداً جداً وصغير الحجم يقام بمحضر أخص الناس بالحسين كالأعلام من ذريته.. للتسلية والمؤاساة.. وللتخفيف عن لوعة المصيبة.

____________
1) لقد كان مصرع الحسين أعظم مصيبة نزلت في الإسلام.. فلقد قتل من قبل عمر وعثمان وعلي... وقتل في وقعتي الجمل وصفين جموع غفيرة من المسلمين ولكن ذلك لم يؤثر على المسلمين مثل ما أثرت شهادة الحسين. وقد أدّت هذه المحنة الى تفرقتهم ولا يزالون الى هذا اليوم متفرقين.. وقد انقرضت دولة الأمويين باسم الانتقام لهذا الحادث وانقرض العباسيون باسم إعادة الحقوق المغتصبة في الحادث نفسه. وقتل تيمورلنك أهل الشام انتقاماً لدم الحسين... ـ تاريخ العلويين ـ.

الصفحة 202 </span>الصفحة 203
مظاهر العزاء لآل البيت في العصر الأموي


وكما كان الآفاق العربية يومها تردد صدى هذه الفاجعة المؤلمة(1).. وقسوة ما اقترفه الأمويون بآل الرسول في كربلاء.. كانت العائلة النبوية تجدد ذكراها
____________
1) مرّ سليمان بن قتة العدوي بكربلاء بعد قتل الحسين (عليه السلام) بثلاث فنظر الى مصارعهم واتكأ على فرس له عربية وأنشأ يقول:


مررت على أبيات آل محمّدفلم أرها أمثالها يوم حلتألم تر إنّ الشمس أضحت مريضةلفقد حسين والبلاد اقشعرتوكانوا رجاء ثم أضحوا رزيةلقد عظمت تلك الرزايا وجلتوتسألنا قيس فنعطي فقيرهاوتغتابنا قيس إذا النعل زلتوعند غني قطرة من دمائناسنطلبهم يوماً بها حيث حلتفلا يبعد الله الدّيار وأهلهاوإن أصبحت منهم برغمي تخلفتوإنّ قتيل الطف من آل هاشمأذلّ رقاب المسلمين فذلتوقد أعولت تبكي السماء لفقدهوأنجمها ناحت عليه وصلت


ومرّ ابن الهبارية الشاعر بعده بكربلاء فجلس يبكي على الحسين (عليه السلام) وأهله وقال بديهاً:


أحسين والمبعوث جدّك بالهدىقسماً يكون الحق عنه مائليلو كنت شاهد كربلاء لبذلت فيتنفيس كربك جهد بذل الباذلوسقت حد السيف من اعدائكعللاً وحد المهري اذابللكني أُخّرت عنك لشقوتيفبلابلي بين الغري وبابلهبني حُرمت النصر من أعدائكمفأقل من حزن ودمع سائل


ويقال نام مكانه فرأى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: جزاك الله عني خيراً. أبشر فإنّ الله قد كتبك ممن جاهد بين يدي الحسين (عليه السلام) عن المجالس السنية للسيد العاملي ج1 ص42 ـ 43.

الصفحة 204 صباحاً ومساء في حزن عميق وشجن عظيم... وتبكي عليه رجالاً ونساءً.. وكلما رأوا الماء تذكروا عطش قتلاهم.. فلم يهنأوا بطعام ولا بمنام(1)..

وكان وجوه المسلمين والموالون لآل البيت يفدون على بيوت آل النبي (صلى الله عليه وآله) بالمدينة معزين ومؤاسين وكان الواحد منهم يعبّر عن مشاعره وأحزانه بأبلغ ما أُوتي من روعة القول وقوة البيان وحسن المؤاساة لهذه المصيبة.. حتى تركوا ثروة أدبية رائعة في أدب التسلية والمؤاساة..
وبقيت بيوت آل البيت مجللة بالحزن والسواد ولا توقد فيها النيران.. حتى نهضت في العراق ثلة من فتيانه الأشاوس ومن زعماء العرب الأقحاح أمثال المختار الثقفي وإبراهيم بن مالك الأشتر النخعي وسليمان الخزاعي والمسيّب الفزاري وغيرهم حيث أخذوا ثأر الحسين وقتلوا جميع قتلة الحسين أمثال ابن زياد وابن سعد وسنان وشمر وحرمله وغيرهم(2)... فخفت من ذلك لوعة
____________
1) قالت فاطمة بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام): ما تحنّات امرأة منّا ولا أجالت في عينها مروداً ولا امتشطت حتى بعث المختار برأس ابن زياد الى علي بن الحسين (عليه السلام).وقال الإمام الصادق: ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت ولا رؤي في دار هاشمي دخان حتى قتل عبيد الله بن زياد.. وكان الإمام علي بن الحسين «السجاد» شديد الحزن كثير البكاء على شهداء الطف يتذكر قتلاهم في حزن عظيم.. فواساه يوماً مولاه أن يقلل من البكاء فأجاب: ويحك إنّ يعقوب بن إسحاق كان نبياً وابن نبي له اثنا عشر ولداً.. فغيّب الله واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن واحدودب ظهره من الغم وذهب بصره من البكاء وابنه حي في دار الدنيا. وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين ثم رؤوسهم على القنا.. فكيف ينقض حزني ويقل بكائي...

المجالس السنية للسيد محسن العاملي ج1

2) روى ابن الأثير في الكامل عن الترمذي في جامعه أنّه «لما وضع رأس ابن زياد أمام المختار جاءت حية صغيرة فتخللت الرؤوس حتى دخلت في فم عبيدالله بن زياد ثم خرجت من منخره ودخلت منخره وخرجت من فيه.. فعلت هذا مراراً.. ثم بعث المختار برأس عبيدالله بن زياد الى علي بن الحسين (عليه السلام) وكان يومئذ بمكة فأدخل عليه وهو يتغدى فسجد لله شاكراً وقال: الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من عدوي. وجزى الله المختار خيراً.. لقد أُدخلت على ابن زياد وهو يتغذى ورأس أبي بين يديه.. فقلت اللهم لا تمتني حتى ترني رأس ابن زياد..وكان قتل ابن زياد وأشياعه في يوم عاشوراء في اليوم الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام) ولم يقتل من أهل الشام بعد وقعة صفين مثلما قتل في هذه الوقعة.. حيث قتل المختار منهم سبعين ألفا.

المجالس السنية للسيد العاملي ج1


توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس
قديم 2014/08/04, 03:00 PM   #8
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي

الأشجان في بني هاشم.. وهدأ منهم نشيج الزفرات ونزيف العبرات.. فصارت المآتم منهم وفيهم تقام في السنة مرة بعدما كانت مستمرة..

ففي ذلك العهد ـ عهد السلف الصالح ـ يحدثنا التاريخ الإسلامي عن أعلام أهل البيت النبوي، أنهم كانوايستشعرون الحزن كلما هلّ هلال محرم... وتفد عليهم وفود من شعراء العرب(1) لتجديد ذكرى الحسين (عليه السلام) لدى أبنائه الأماجد..

____________
1) وذكر السيد الأمين في كتابه المجالس السنية ج1 فقال:
قال الإمام الصادق لأبي عمارة المنشد يا أبا عمارة أنشدني في الحسين بن علي قال فأنشدته فبكى ثم أنشدته فبكى ومازلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار فقال: يا أبا عمارة من أنشد شعراً في الحسين بن علي (عليهما السلام) فأبكى فله الجنة..
ودخل جعفر بن عفان على الصادق (عليه السلام) فقربه وأدناه ثم قال يا جعفر بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين (عليه السلام) وتجيد فقال نعم جعلني الله فداك.. قال: قل: فأنشده:


ليبكِ على الإسلام من كان باكياًفقد ضيّعت أحكامه واستحلتغداة حين للرماح دريئةوقد نهلت منه السيوف وعلتوغودر في الصحراء لحماً مبدداعليه عتاق الطير باتت وظلتفما نصرته أمة السوء إذ دعالقد طاشت الأحلام منها وضلتألا بل محوا أنوارهم بأكفهمفلا سلمت تلك الأكف وشلتوناداهم جهدا بحق محمّدفإنّ ابنه من نفسه حيث حلتفما حفظوا قرب النبي ولا رعواوزلت بهم أقدامهم واستزلتأذاقته حر القتل أمة جدّههفت نعلها في كربلاء وزلتفلا قدس الرحمن أمة جدّهوإن هي صامت للإله وصلتكما فجعت بنت النبي بنسلهاوكانوا كماة الحرب حين استقلت


فبكى الإمام الصادق ومن حوله حتى انتشرت الدموع على وجهه ولحيته ثم قال: يا جعفر والله لقد شهدت ملائكة الله المقربين ها هنا يسمعون قولك في الحسين (عليه السلام) ولقد بكوا كما بكينا وأكثر ولقد أوجب الله تعالى لك يا جعفر في ساعتك هذه الجنّة.. وغفر لك.. يا جعفر ألا أزيدك.. قال نعم يا سيدي... قال ما من أحد قال في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكى وأبكى به إلاّ أوجب الله له الجنة وغفر له...

الصفحة 206 وقد ألقوا روائع في فن الرثاء والتسلية والتذكير بأُسلوب ساحر أخاذ ما ظل شعرهم خالداً رغم كرّ العصور.

فقد كان الشاعر العربي «الكُميت بن زيد الأسدي» من شعراء العصر الأموي والمتوفى سنة 126 للهجرة قد جعل معظم قصائده في مدح بني هاشم وذكر مصائب آل الرسول (عليهم السلام).. حتى سميت قصائده «بالهاشميات» وكان ينشد معظمها في مجالس الإمام الصادق وأبيه الباقر محمّد وجدّه علي بن الحسين (عليهم السلام).ومن تلك القصائد التي ألقاها بين يدي الإمام علي بن الحسين السجّاد (عليه السلام) قصيدته المشهورة التي مطلعها:


من لقلب متيم مستهامغير ما صبوة ولا أحلاموقتيل الطف غودر عنهبين غوغاء أمة وطغامقتلوا يوم ذاك إذ قتلوهحاكماً لا كسائر الحكامقتل الأدعياء إذ قتلوهأكرم الشاربين صوب الغمامولهت نفسي الطروب إليهمولهاً حال دون طعم الطعام


</span>
الصفحة 207 فلما بلغ آخرها حتى قال السجاد (عليه السلام) له «ثوابك نعجز عنه.. ولكن الله لا يعجز عن مكافأتك...» فقال الكميت: سيدي إن أردت أن تحسن إليّ فادفع لي بعض ثيابك التي تلي جسدك أتبرّك بها.. فنزع الإمام ثيابه ودفعها إليه. ودعا له..

ومن تلك القصائد قصيدته التي ألقاها في مجلس الإمام الصادق (عليه السلام) والتي مطلعها:


طربت وما شوقاً الى البيض أطربولا لعباً منّي وذو الشيب يلعبولكن الى أهل الفضائل والنهىوخير بني حواء والخير يطلب


الى أن يقول:


ومن أكبر الأحداث كانت مصيبةعلينا قتيل الأدعياء الملحّبقتيل بجنب الطف من آل هاشمفيالك لحماً ليس عنه مذبّبومنعفر الخدين من آل هاشمألا حبذا ذاك الجبين المترّب


وقد نال هذا الشاعر الجوائز الكثيرة من أئمة آل البيت (عليهم السلام) حتى أن الإمام الصادق (عليه السلام) أكرمه مرّة على قصيدة ألف دينار وكسوة فقال الكميت: والله ماأحببتكم للدنيا.. ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه.. ولكني أحببتكم للآخرة.. أمّا الكسوة فأقبلها لبركتها وأمّا المال فلا أقبله.
ومثله الشاعر السيد إسماعيل الحميري أحد الشعراء المشهورين في العصر الأموي فقد جعل معظم قصائده في آل البيت وفي هذا المصاب.. وقد دخل على الإمام الصادق (عليه السلام) مرّة يستأذنه أن ينشد له من شعره فأذن الإمام فأنشد:
</span>
الصفحة 208
أُمرر على جدث الحسينوقل لأعظمه الزكيةيا أعظماً ما زلت منوطفاء، ساكبة رويةوإذا مررت بقبرهفأطل به وقف المطيةوابكِ المطهر للمطهروالمطهرة النقيةكبكاء معولة أتتيوماً لواحدها المنية


فما بلغ هذا الحد حتى أخذت الدموع من الإمام تنحدر على خديه وارتفع الصراخ من داره... فأمره الإمام بالإمساك فأمسك.. ثم أوصله بهدية ثمينة..
وهكذا كان الشعراء يقصدون مجالس آل البيت النبوي وسائر مجالس الهاشميين في هذا الموسم لإلقاء خيرة ما نظموه حول هذا الموضوع على سبيل العزاء.. من مديح وثناء.. وينالون عليه خير العطاء...
</span>
الصفحة 209
مظاهر عزاء الحسين في العصر العباسي


لقد كانت لمجالس الهاشميين دورها الفعّال في جمع صفوفهم من الطالبيين والعلويين والعباسيين وأنصارهم الموتورين من الحكم الأموي القائم.. وتنظيم الحملة ضدّهم وانطلقت الألسنة بإعادة الحكم لآل هاشم وتقاضي الحكم الجائر... وقد حدّثنا التاريخ الإسلامي.. أنّ تأسيس الدولة لعباسية كان قائماً على دعوة الهاشميين على أساس الثأر النهائي لقتلى الطف والانتقام للعلويين بالقضاء على الأمويين.. وكان الشعراء لم يعدو فرصة تفلت أومناسبة تمرّ إلاّ ذكّروا بهذا الثأر، الى أن هيّأ الله لهم ذلك ومكّنهم من الأمر وقضوا على الحكم الأموي وتربّع أبو العباس السفاح على الحكم كأوّل خليفة هاشمي.. يذكّرنا التاريخ بوليمته المشهورة التي حضرها ثمانون رجلاً من عيون الأمويين وهم على سمط الطعام فدخل شبل مولى بني هاشم على السفاح فأنشد في الحال قصيدته المشهورة والغيظ قد أخذه:


أصبح الملك ثابت الأساسبالبهاليل من بني العباسأنت مهدي هاشم وهداهاكم أُناس رجوك بعد أُناسطلبوا وتر هاشم فشفوهابعد ميل من الزمان وياسلا تقبلن عبد شمس عثاراًوارمها بالمنون والاتعاس


</span>
الصفحة 210
واذكرن مصرع الحسين وزيداًوقتيلاً بجانب المهراس


فقام السفاح في الحال مغتاضاً وقتلهم جميعاً ثم أباد الأمويين عن آخرهم... وهكذا اتسع المجال أمام الشعراء في رثاء آل البيت النبويوذكر مصابهم في قتلى الطفوف.
ومن هؤلاء الشاعران المشهوران دعبل بن علي الخزاعي وإبراهيم بن العباس اللذان قصدا من بخراسان.. فقدم الأوّل على الإمام الرضا(1) علي بن موسى بن جعفر أيام ولاية عهده في خلافة المأمون العباسي 203 للهجرة فأنشد قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها(2):
تجاوبن بالأنّاة والزفرات.. الى أن يقول:

____________
1) قال الإمام الرضا (عليه السلام) كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكاً... وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي العشرة الأولى من محرم فإذا كان اليوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه.

عن المجالس السنية للسيد العاملي (رحمه الله) ج1
2) قال دعبل الخزاعي دخلت على سيّدي ومولاي علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في أيام عشر المحرم فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب وأصحابه من حوله فلما رآني مقبلاً قال لي: «مرحباً بك يا دعبل، مرحباًبناصرنابيده ولسانه.. ثم إنّه وسّع لي في مجلسه.. وأجلسني الى جانبه ثم قال لي: يا دعبل أُحب أن تنشدني شعراً فإنّ هذه الأيام أيام حزن كانت علينا أهل البيت أيام سرور كانت على أعدائنا خصوصاً بني أمية... يا دعبل من بكى أو أبكى على مصابنا كان أجره على الله.. يا دعبل من ذرفت عيناه على مصاب جدّي الحسين (عليه السلام) غفر الله له ذنوبه.. ثم نهض (عليه السلام) وضرب ستراً بيننا وبين حرمه وأجلس أهل بيته من وراء الستر ليبكوا على مصاب جدّهم الحسين (عليه السلام) ثم التفت إليّ وقال لي: يا دعبل ارث الحسين فأنت ناصرنا مادمت حياً قال دعبل: فاستعبرت وسالت عبرتي وانشأت أقول:


أفاطم لو خلت الحسين مجدلاًوقد مات عطشاناً بشط فرات



الصفحة 211
مدارس آيات خلت من تلاوةومنزل وحي مقفر العرصاتأفاطم لو خلت الحسين مجدّلاًوقد مات عطشاناً بشط فراتإذن للطمت الخدّ فاطم عندهوأجريت دمع العين بالوجناتأفاطم قومي يا ابنة الخير واندبينجوم سماوات بأرض فلاتديار رسول الله أصبحن بلقعاًوآل زياد تسكن الحجرات... الخ


وقد أجازه الإمام الرضا ـ بعد أن بكى هو وأهله ـ بعشرة آلاف درهم من المسكوك باسمه الكريم، وخلع عليه جبته.. فكان هذا خير رمز للتقدير والإعجاب. وقد اشترى القميون «الجبة» من دعبل أثناء عودته الى العراق بألف دينار.
وهكذا زميله الشاعر إبراهيم بن العباس(1) فقد أنشد الإمام الرضا (عليه السلام)
____________
1) روى الصدوق في «العيون» عن البيهقي عن الأصولي عن هارون بن عبد الله المهلبي: أنّه لما وصل إبراهيم بن العباس ودعبل بن علي الخزاعي الى الرضا (عليه السلام) وقد بويع له بولاية عهده أنشده دعبل: مدارس آيات خلت من تلاوة... الخ وأنشد ابراهيم بن العباس قصيدته: «أزال عزاء القلب بعد التجلد...» فوهب لهما عشرين ألف درهم من الدراهم التي عليها اسمه وكان المأمون قد أمر بضربها في ذلك الوقت.. دعبل ذهب بالعشرة آلاف التي حصته الى قم فباع كل درهم بعشرة دراهم. فحصلت له مائة ألف درهم وأما إبراهيم فلم تزل عنده بعد أن أهدى بعضها وفرّق بعضها على أهله الى أن توفي رحمة الله عليه... فكان كفنه وجهازه منها ـ مجلة المرشد ـ.

الصفحة 212 قصيدته الدالية المشهورة التي يقول في مطلعها:



أزال عزاء القلب بعد التجلدمصارع أولاد النبي محمّد


فأكرمه الإمام بمثل ما أكرم به زميله الخزاعي.
وكانت جوائز أئمة البيت النبوي في هذا المجال مشهورة بالسخاء والبركة حتى ذهبت مثلاً: «ما بلغت صرة من موسى بن جعفر لأحد إلاّ استغنى» لذلك كان الشعراء يتفننون في هذا الباب الى جانب تأثرهم بروعة فاجعة الطف وفظاعة وقعها.. وكذلك تأثروا بأقوال أئمة أهل بيت النبي في شأن من يرثي الحسين.. وماله من فضيلة عند الله سبحانه.. فقد قال الإمام جعفر الصادق لجعفر بن عفان: «مامن أحد قال في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكى وأبكى به إلاّ أوجب الله له الجنة وغفر له...».
وهكذا كان الشعراء يتبارون في الرثاء والمواساة والإبداع فيها بهذه المناسبة، في مجالس آل البيت النبوي ومجالس الطالبيين. وما من شكّ أن هذا العزاء كان فيه العزاء لكل مظلوم وكل ذي حق مهضوم بأعظم السلوان تأسياً بالحسين (عليه السلام).
وكيفما كان في هذا العزاء عرض لتلك المأساة فإنّه لم يخل من فرض لجور الحاكمين وتعريض لضروب الظلم الذي أصاب آل البيت النبوي منهم وتهديد الظالمين بالعاقبة الوخيمة لفتكها بأعلام بيت النبوة.. وماناله الظالمون من سوء المنقلب كل ذلك على لسان الشعراء والخطباء وفي أروع أسلوب مما كان له أثره في جذب النفوس وتقوية القلوب.. حتى قال أحد الشعراء:


تالله ما صنعت أميّه فيكممعشار ما صنعت بنو العباس


</span>
الصفحة 213 وكانت السلطات الحاكمة يومها وفي فترة من الزمن وراء هذه المجالس تطارد الملقين وتفتك بالحاضرين ولقي الموالون لآل البيت من الشدة ضروب العذاب..

وأُتلفت معظم تلك القصائد والأشعار وغيرها من الآثار ذات العلاقة بالإمام الحسين (عليه السلام). ولو كانت باقية لكانت ثروة أدبية رائعة عن تلك الفترة.
وقد وصف ابن الأثير حوادث دموية مسببة عن ذكرى عزاء الحسين (عليه السلام) جرت بصورة فظيعة بين الحزب المتشيع لآل البيت وبين الحزب المخالف له ببغداد عاصمة الهاشميين يوم ذاك.. كانت تتسع وتتقلص حسب لون السياسة الحاكمة واجتهاد الحكام ذهبت بسببها ضحاياً كثيرة لا لشيء سوى التعصب الممقوت. وبسبب الجهل بمكانة آل البيت من الرسول... وعدم تقديرهم لشعائر الود والمحبة لصاحب الرسالة وأهل بيته.
وكان «عزاء الحسين» رغم جميع هذه الأحوال قائماً كل عام في موسمه من محرم الحرام وانّما يختلف تقلصاً واتساعاً حسب الظروف ولكنه في جميع الأحوال كان يزداد تمكناً في النفوس واستقراراً في القلوب وكان للشعراء الفضل الأكبر في تقوية هذا العزاء وجذب القلوب إليه.. بقصائدهم الغر في تصوير مصاب الحسين وأهل بيته... حتى أنّ غالبية الموالين لآل البيت كانوا لا يحفلون بقسوة الحكام قدر اهتمامهم للحضور الى مجالس العزاء كائناً ما يكون المصير...
</span>
الصفحة 214 </span>الصفحة 215
مجالس النياحة لعزاء الحسين


ولما توسّع التشيع وخفت وطأة السلطات المعادية التي أتلفت معظم تلك القصائد والآثار.. صار الموالي لآل الرسول (صلى الله عليه وآله) يقم ذلك العزاء باسم «النياحة» أو الرثاء بمشاهد الأئمة من عترته أو بمحضر من يوثق بتشيّعه وموالاته.. وما يجدر ذكره أنّه لم يكن في القرن الأول أي القرن الذي قتل فيه الحسين أثر ولا عين من جماعة أهل العزاء سوى الراثين والنائحين في بيوت أهل البيت النبوي فقط وكذا الحال في القرن الثاني.. الى أن ظهر في القرن الثالث اسم النائح علماً لمن يرثي الحسين ويقرأ الشعر على حسابه.. ويقيم النياحة عليه من أمثال دعبل الخزاعي الى علي الناشيء الأصغر.
فأصبحت المجتمعات تنعقد باسم «النياحة على الحسين» على ماهم فيه من التستر فيبكون على مصاب الحسين وينوحون عليه بقريض ينشؤه أو ينشده الناشد ويسمى «النائح» ويذكر المؤرخان الشهيران ياقوت الحموي في معجمه(1)
____________
1) جاء في ترجمة علي بن عبد الله الناشىء «حدثني الخالع قال كنت مع والدي في سنة 246 هـ وأنا صبي في مجلس الكبوذي في المسجد بين الوراقين والصاغة.. وهو غاص بالناس وإذا برجل قد وافى وعليه مرقعة وفي يده سطحيه وركوة ومعه عكاز وهو شعث. فسلّم على الجماعة بصوت مرتفع وقال: أنا رسول فاطمة الزهراء صلوات الله عليها.. فقالوا مرحباً بك وأهلاً ورفعوه فقال: أتعرّفون لي أحمد النائح؟ قالوا هاهوجالس.. فقال: رأيت مولاتنا (عليها السلام) في النوم فقالت امضي الى بغداد واطلبه وقل له نح على ابني شعر الناشىء الذي يقوله فيه:


بني أحمد قلبي لكم يتقطعبمثل مصابي فيكم ليس يسمع


وكان الناشىء حاضراً فلطم لطماً عظيماً على وجهه وتبعه المزوق والنّاس كلّهم... وكان أشد الناس في ذلك الناشىء، ثم المزوق ثم ناحوا بهذه القصيدة في ذلك اليوم الى أن صلّى الناس الظهر وتقوض المجلس وجهدوا بالرجل أن يقبل منهم شيئاً فقال: والله لو أُعطيت الدنيا ما أخذتها.فإنّني لا أرى أن أكون رسول مولاتي (عليها السلام). ثم آخذ عن ذلك عوضاً وانصرف ولم يقبل شيئاً... قال ومن هذه القصيدةوهي بضعة عشر بيتاً...


عجبت لكم تفنون قتلاً بسيفكموبسطو عليكم من لكم كان يخضعكأنّ رسول الله أوصى بقتلكموأجسامكم في كل أرض توزع


قال: وحدثني الخالع قال اجتزت بالناشيء يوماً وهوجالس في السارجين فقال لي قد عملت قصيدة وقد طلبت وأُريد أن تكتبها بخطك حتى أخرجها فقلت أمضي في حاجة وأعود. وقصدت المكان الذي أردته.وجلست فيه فحملتني عيني. فرأيت في منامي أباالقاسم عبدالعزيز الشطرنجي النائح فقال أحب أن تقوم فتكتب قصيدة الناشىء البائية. فإنّا قد نحنا بها البارحة بالمشهد.. وكان هذا الرجل قد توفى وهو عائد من الزيارة.. فقمت ورجعت اليه وقلت هات البائية حتى أكتبها.. فقال الناشىء ومن أين علمت أنّها بائية وما ذاكرت بها أحداً! فحدّثته بالمنام فبكى وقال لاشك أنّ الوقت قد دنا فكتبتها وكان مطلعها:


رجائي بعيد والممات قريبويخطىء ظني والمنون تصيب



ـ عن مجلة المرشد ـ

الصفحة 216 وابن خلكان في وفياته قضية الناشيء الأصغر على الشاعر المشهور ومجالس النياحة على الحسين.. وفيها مايدل على أنّ هذه المجتمعات كانت تنعقد في ذلك الزمن باسم «النياحة على الحسين». وليس هذا في العراق فحسب، بل في الحجاز وبلاد فارس ومصر...

ثم تطورت مجالس العزاء عقب النياحة بقراءة المقاتل لابن نما وابن طاووس ونحوهما فسموا بالقراء أو قارىء الحسين لا يزالون يعرفون حتى اليوم بهذا الاسم في بلاد العرب.
</span>
الصفحة 217
بدء المواكب والحسينيات


وقد سجل التاريخ اهتمام معزالدولة البويهي وسائر الملوك البويهيين في الدولة العباسية ببغداد عام 352 هجرية بشأن إقامة مآتم الحسين وإبرازها في هيئة مواكب خارج البيوت... فكانت النساء يخرجن ليلاً ويخرج الرجال نهاراً.. حاسري الرؤوس حفاة الأقدام... تحيتهم التعزية والمواساة بمأساة الحسين (عليه السلام) ولا تزال هذه العادة الى الآن في مدن العتبات المقدسة في العراق وإيران. وبعد مادالت الأيام بالدولة إلى آل محمّد واتباعهم سواءً في حكومة الفاطميين في مصر أيام المعز لدين الله الفاطمي أو في حكومة الحمدانيين في حلب أيام سيف الدولة الحمداني أو في حكومة الصفويين في إيران أوملوك في ممالك أُخرى من بلاد الترك والهند.. أنشىء للنياحة بيوت أحزان في كل مكان لتعازي الحسين سمّيت عند العرب «بالحسينيات» كما سمّيت عند الهنود بـ «إمام بان»(1) وعند الفرس والترك «بمأتم سراي» كما كانت تسمى هاتيك المجالس «بالمآتم» أو «تعازي الحسين» وخصصت لها أوقات وصدقات جارية لا يستهان بها وبأرباحها الوفيرة..

____________
1) الدلائل والمسائل ج1 للسيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني جواب عن تاريخ العزاء الحسيني.

الصفحة 218 فأخذ العزاء الحسيني دوراً متسع النطاق في ظل عناية الهيئات الحاكمة.. ونال الموالون لآل البيت كل حريتهم في إظهار رغباتهم وشعائرهم.

فالناظر إليها لأول وهلة يخالها تشكيلات تولدت من عهد الملوك الصفوية أوهي من مستحدثات الأعاجم.. لكنما المتصفح لكتب التاريخ والآثار يجد لهذا الأمر أدواراً أو أطواراً في عصور سابقة على العصر الصفوي.. وفي أمم لا مساس لها بالعجم... بل هي من غروس العراق القديمة وأشجارها الصلبة التي نبعت في ضفاف الرافدين قبل أية أمة أخرى.. ثم تسربت وامتدت الى الأمم الأخرى...
وكل من جاب عواصم الأمم الإسلامية وغير الإسلامية يرى في الكثير منها إن لم يكن فيها كلّها سيما المجتمعات الموالية لآل بيت الرسول.. المباني الضخمة التي خصصت لإقامة هذه المجالس في هذا الموسم لإحياء ذكرى شهيد الحق الإمام الحسين (عليه السلام).
</span>
الصفحة 219
اهتمام الأقطار الإسلامية بعزاء الحسين


وهكذا أصبح المسلمون في اليوم العاشر من محرم كل عام يحتفلون بذكرى «عاشوراء» إحياءً لذكرى شهيد الطفوف الإمام الحسين (عليه السلام) في جميع الأقطار الإسلامية.. ويُعتبر هذا اليوم عطلة رسمية لدى معظم هذه الدول ويشترك كثير من رؤساء الدول الإسلامية في مراسيمه.
وحين تمر هذه الذكرى بالمسلمين سواء في العشرة الأولى من محرم أو في اليوم العاشر منه فإنّها تغمر غالبية العالم الإسلامي بموجة من الأسى ويخيم عليه سحاب من الحزن، كأنّ الإمام الحسين قد قتل حديثاً وكأنّ أشلاء آله وأنصاره.. لا تزال على منظرها المؤلم فوق تلك الترب وكأنّ دم اولئك الضحايا من الشهداء لم يزل يفور على تلك الأرض.. فيثير في نفوس المسلمين كل تلك المشاعر والأحزان... مما جعلت معظم الحكومات العربية والإسلامية أن تحافظ على حرمة هذه المناسبة.. وتلاحظ شعور المسلمين نحوها.. ومن أجل ذلك تصدر أوامرها بغلق دور اللهو واللعب وحانات الخمور والشراب والمسارح وأمثالها مما تحمل طابع اللهو والطرب.. كما تقلص على غرارها ما في برامج الإذاعة والتلفزيون خلال العشرة الأُولى من محرم ببرامج تتسم بالطابع الديني والروحي والعلمي مجرداً من كل أسباب اللهو والطرب.. كل ذلك رعاية لشعور المسلمين </span>
الصفحة 220 واحتراماً لمكانة هذه الذكرى. كما هو الحال في العراق وإيران وفي الهند والباكستان وعديد من الدول الإسلامية الأخرى.

والمسلمون إذ يحتفلون بهذه الذكرى الدامية ببالغ الأسى وعظيم الألم.. إنّما يشيدون فيها على موقف الإمام الحسين في ساحة الطف ويمجدون مواقف آله وأصحابه وما قدموه في ذلك الموقف من جسيم التضحية وعظيم البسالة التي أدهشت الأجيال وأذهلت التاريخ.
ثم إذ يعبرون في إحيائهم لهذه الذكرى الدامية عن شعورهم نحو الإمام الشهيد فإنّهم يختلفون في هذا التعبير حسب معتقداتهم فيه وفي حركته واستشهاده وباختلاف مداركهم وعاداتهم.
فمنهم من يعتبره عيداًمجيداً لأنّ الفضيلة فيه قد انتصرت على الرذيلة وأنّ الإمام الحسين بموقفه ذاك من يزيد قد أسند تعاليم جدّه سيّد الرسل.. وجدد مجد شريعته السمحاء... كما هو الحال لدى المسلمين في الشمال الإفريقي والمغرب العربي الذين يعتزون بهذه الذكرى.
ومنهم من يندفع مع العاطفة الى إيلام نفسه وإيذائها بمختلف الوسائل والأساليب كضرب نفسه بالسلاسل أو بالتطبير ظناً منه أنّ هذا النحو من الإيذاء لمن دلائل المواساة أو الاقتداء بأولئك الشهداء.. كما هو الحال في بعض أنحاءالعراق وإيران والهند والباكستان.
</span>
الصفحة 221
عزاء الحسين في أمريكا الوسطى


ومنهم من يحصرها في هودج كبير ضخم كما هو الحال في(1) أمريكا الوسطى وفي مدينة بورت أو اسباين عاصمة جزيرة في ترينيداد الواقعة في البحر الكاريبي من شمال أمريكا الجنوبية حيث يزين المسلمون هذا الهودج بالذهب والفضة وبأزهى الألوان الوهاجة وأحلاها ويشترك المسيحيون والهنود مع المسلمين في احتفالاتهم العظيمة بيوم عاشوراء في مسيرة عظيمة في طليعتها هذا الهودج الفخم... وتسير الجماهير وراءه تحف بها الطبول وآلات الموسيقى بأنغامها الحزينة تطوف شوارع العاصمة وبين تعالي العويل والهتاف بحياة الحسين (عليه السلام) سيّد الشهدا ءفي ذكرى مصرعه يلقى بالهودج الى البحر الصاخب فتحمله الأمواج الى الأعماق الزرقاء المجهولة.. ويعود الجميع الى مجالس العزاء بذكرى الحسين (عليه السلام)... وأغلب الظن أن هذه الظاهرة انتقلت الى هذه الجزيرة مع الهنود المسلمين... حيث يمارسون على غرارها في الهند تعبيراً عن عواطفهم نحو هذه الذكرى.. على هذا النحو في معظم الأقطار الإفريقية
____________
1) من مجلة الأسبوع العربي في عددها 515 من السنة العاشرة بتاريخ 21 ـ 4 ـ 1969 بقلم بهجت منصور.

الصفحة 222 والآسيوية يعبّر المسلمون عن مشاعرهم حسب تصورهم ومعتقداتهم في هذه المناسبة..

ومنهم من ينحوبها كعرض لذلك المسرح الحزين يوم الطف بالمنطق الرزين.. وبأرق الأساليب الأخّاذة بالمشاعر مستوحين من قدسية ذلك اليوم التاريخي ضروب العبر وأنواع البطولة والإيمان بالحق.. فينتزعون من ذكراه أروع الصور وأبلغ الدروس، وأسمى العظات، وإن كانت منهم مجرد سرد وترديد.
</span>
الصفحة 223
عزاء الحسين في مدن العتبات المقدسة


والى جانب ما تقدم تلبس مدن العتبات المقدسة في العراق وإيران والمساجد المهمة والأماكن المتبركة في الهند والباكستان وغيرها من الأقطار والمناطق التي يتعصب أهلها في الحب والولاء لآل البيت النبوي حلّة من السواد كشعار للحزن والحداد.. وتبتعد عن مظاهر الزينة والبهرجة ومباعث الأُنس والانشراح...
هذه هي الحالة في العشرة الأولى من شهر محرم الحرام عند المسلمين بالنسبة لهذه الذكرى إن لم يكن الشهر كلّه من كلّ عام ومن الأقطار الإسلامية كالعراق وإيران والهند والباكستان الى مابعد العشرين من صفر حيث تستكمل هذه الذكرى يومها الأربعين. ولها زيارتها الخاصة ومراسيمها المختصة في كربلاء بالعراق... حيث يؤمها أكثر من مليون زائر في يوم واحد لزيارة قبر الحسين والطواف حول ضريحه في ذكرى أربعينه.. وتطوف المواكب الزاخرة حول مشهده لليُمن والبركة.
هذا وتواصل مجالس العزاء الحسيني خلال شهري محرم وصفر(1) في مدن
____________
1) وتقام مجالس العزاء الحسني إضافة على شهري محرم وصفر في شهر رمضان وذلك في لياله وفي سائر أيام السنة على سبيل النية والنذر لحاجة من الحاجات قضاها الله فيقيم صاحبها مجلس عزاء ليوم واحد أو لثلاثة أيام أو لأسبوع أو عشرة أيام أو أكثر حسب ما نوى وتوزّع فيها الخيرات للفقراء والمساكين وكثيراًما ترافق مجالس العزاء الحسيني إطعام أوخيرات للحاضرين إليها.

الصفحة 224 العتبات المقدسة وغيرها حيث تجذب هذه المجالس الى ساحتها كالمغناطيس شتات المسلمين إخواناً على سرر متقابلين تصفّ أجنحتها حول منبر يرتقي عليه الخطيب فيفتتح الكلام بآي من الذكر الحكيم وتفسير علومها من أحاديث الرسول الكريم.. ثم يتلو ذلك بفصول من التاريخ الإسلامي أو تواريخ الرسل السالفين.. ويختم كلامه بتاريخ الحسين وما جدى عليه وعلى آل بيت المصطفى صلوات الله عليهم(1).. ولا بد أن يتخلل هذه الخطابة وعظ وإنذار وتلطيف القرائح بلطيف الأشعار مما يجعل مجلسهم هذا أشبه بمدرسة علم أو مجمع تهذيب.. ودروسها ما يهم المسلمين من أُمور الدنيا والدين... اللهمّ إلاّ بعض الجاهلين ممن يتولّون الخطابة بغير علم ولا هدى وممن لا يجتنبون قول الزور فيذهبون بذلك الى سرد أحاديث ما أنزل الله بها من سلطان بغية إثارة الأشجان في نفوس المستمعين لمصاب الحسين (عليه السلام) استدراراً للأكف واستجلاباً للمنافع...

وهكذا ألحق بهذا العز وضمن تطوراته طوال السنين كثير من الغرائب شأن كل قضية فازت بقوة النمو في منبت خصيب وتربة صالحة.. مما يحتم على أهل العلم أن ينظروا الى تعديله أو إجراء إصلاح فيه.. خاصة ونحن أقرب الأمم الى حادثة الطف مكاناً وشأناً.. وأوفر حرية من غيرنا وأقدر.. لذلك يلزم على أعلامنا
____________
1) ومنهم من يتخذ عاشوراء يوم عيد وفرح وسرور.. وإنّها لسنّة أموية وقد اتبعها جهلاً بالحال.. وإلاّ فلا يظن بمسلم أن يفرح في يوم قتل فيه ابن بنت نبيه الذي لو كان حياً لكان هو المعزّى به والباكي عليه...

الصفحة 225 أئمة الهدى وشيبنا وشبابنا رسم الخطة الصالحة لإقامة هذه الذكرى الكريمة خالية من الشوائب ومما يسيء أو يشين.. وأن نسير بها على أحسن وجه ونهج.. خدمة للاُمة وتوجيهاً للجيل.. وعسى أن تحذوا حذونا شعوب مسلمة أُخرى فتنال أجزل النفع.. ولعلنا بهذا نحقق بعض آمال الحسين من نهضته وتضحيته.


توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس
قديم 2014/08/08, 10:01 PM   #9
يالثارات الحسين

موالي برونزي

معلومات إضافية
رقم العضوية : 1691
تاريخ التسجيل: 2013/07/06
الدولة: العراق
المشاركات: 519
يالثارات الحسين غير متواجد حالياً
المستوى : يالثارات الحسين is on a distinguished road




عرض البوم صور يالثارات الحسين
افتراضي

اللهم ألعن آل آمية قاطبة
والعن كل من اتبعهم ونصرهم ودافع عنهم الى يومنا هذا
بحق رأس الحسين

بارك الله فيك وجعلها الله في موازين حسناتك


توقيع : يالثارات الحسين
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
رد مع اقتباس
قديم 2014/08/09, 05:07 AM   #10
الجمال الرائع


معلومات إضافية
رقم العضوية : 799
تاريخ التسجيل: 2012/12/12
المشاركات: 857
الجمال الرائع غير متواجد حالياً
المستوى : الجمال الرائع is on a distinguished road




عرض البوم صور الجمال الرائع
افتراضي

العفو اخي يا لثارات الحسين جعلنا وإياكم من الطالبين بالثأر تحياتي لكم


توقيع : الجمال الرائع
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)



الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
مواضيع للبنات وبس خادمة ألكوثر بنات الزهراء 2 2014/02/08 03:20 AM
مواضيع حلوة وغريبة زينب الارشيف والتكرار 11 2013/03/09 07:07 PM
لكي تدرك مواضيع قيمه علي مولاي المواضيع العامة 10 2012/12/08 11:58 AM
مواضيع جميله ومفيده علي مولاي المواضيع العامة 5 2012/10/15 09:59 PM
مواضيع من هنا وهناك البيرق الصــور العامة 9 2012/07/27 05:23 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024
جميع الحقوق محفوظة لـ منتديات شيعة الحسين العالمية اكبر تجمع اسلامي عربي
|

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى || SiteMap Index


أقسام المنتدى

المنتــديات العامة @ السياسة @ المناسبات والترحيب بالأعضاء الجدد @ منتديات اهل البيت عليهم السلام @ سيرة أهـل البيت (عليهم السلام) @ الواحة الفاطمية @ الإمام الحجّة ابن الحسن صاحب العصر والزمان (عج) @ الادعية والاذكار والزيارات النيابية @ المـدن والأماكن المقدسة @ المـنتـديات الأدبيـة @ الكتاب الشيعي @ القصة القصيرة @ الشعر الفصيح والخواطر @ الشعر الشعبي @ شباب أهل البيت (ع) @ المنتـديات الاجتماعية @ بنات الزهراء @ الأمومة والطفل @ مطبخ الاكلات الشهية @ المنتـديات العلمية والتقنية @ العلوم @ الصحه وطب أهل البيت (ع) @ الكمبيوتر والانترنيت @ تطبيقات وألعاب الأندرويد واجهزة الجوال @ المنتـديات الصورية والصوتية @ الصوتيات والمرئيات والرواديد @ الصــور العامة @ الابتسامة والتفاؤل @ المنتــــديات الاداريـــة @ الاقتراحات والشكاوي @ المواضيع الإسلامية @ صور اهل البيت والعلماء ورموز الشيعة @ باسم الكربلائي @ مهدي العبودي @ جليل الكربلائي @ احمد الساعدي @ السيد محمد الصافي @ علي الدلفي @ الالعاب والمسابقات @ خيمة شيعة الحسين العالميه @ الصــور العام @ الاثـــاث والــديــكــورآت @ السياحة والسفر @ عالم السيارات @ أخبار الرياضة والرياضيين @ خاص بالأداريين والمشرفين @ منتدى العلاجات الروحانية @ الابداع والاحتراف هدفنا @ الاستايلات الشيعية @ مدونات اعضاء شيعة الحسين @ الحوار العقائدي @ منتدى تفسير الاحلام @ كاميرة الاعضاء @ اباذر الحلواجي @ البحرين @ القران الكريم @ عاشوراء الحسين علية السلام @ منتدى التفائل ولاستفتاح @ المنتديات الروحانية @ المواضيع العامة @ الرسول الاعظم محمد (ص) @ Biography forum Ahl al-Bayt, peace be upon them @ شهر رمضان المبارك @ القصائد الحسينية @ المرئيات والصوتيات - فضائح الوهابية والنواصب @ منتدى المستبصرون @ تطوير المواقع الحسينية @ القسم الخاص ببنات الزهراء @ مناسبات العترة الطاهرة @ المسابقة الرمضانية (الفاطمية) لسنة 1436 هجري @ فارسى/ persian/الفارسية @ تفسير الأحلام والعلاج القرآني @ كرسي الإعتراف @ نهج البلاغة @ المسابقة الرمضانية لسنة 1437 هجري @ قصص الأنبياء والمرسلين @ الإمام علي (ع) @ تصاميم الأعضاء الخاصة بأهل البيت (ع) @ المسابقة الرمضانية لعام 1439هجري @ الإعلانات المختلفة لأعضائنا وزوارنا @ منتدى إخواننا أهل السنة والجماعه @


تصليح تلفونات | تصليح تلفونات | تصليح سيارات | تصليح طباخات | تصليح سيارات | كراج متنقل | تصليح طباخات | تصليح سيارات |