Untitled 2
العودة   منتديات شيعة الحسين العالمية اكبر تجمع اسلامي عربي > المـنتـديات الأدبيـة > القصة القصيرة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2012/09/27, 08:52 AM   #11
ابوشهد

موالي ماسي

معلومات إضافية
رقم العضوية : 67
تاريخ التسجيل: 2012/03/04
المشاركات: 4,509
ابوشهد غير متواجد حالياً
المستوى : ابوشهد is on a distinguished road




عرض البوم صور ابوشهد
افتراضي


(11)
وهتف الرجل الذي أيقظهم:
أنا الحسين بن علي آليـت ألاّ أنـثـني
انتبه الرجل الأسدي... فرك عينيه. كان الفجر قد لاح من وراء النخيل... فجر يشبه الرماد.
وشيئاً فشيئاً تبدّدت الظلمة، ولاحت له أجساد القتلى مقطّعة الرؤوس... متناثرة هنا وهناك، كنجوم منطفئة. حلّ اليوم الثالث عشر من محرّم. شمسه كئيبة حزينة. ترسل أنواراً باهتة. تلفح أجساداً مقطّعة الرؤوس، وكانت الريح تعدو كذئبة مجنونة تثير غباراً كدخان الحرائق.
وجاءت نسوة أسديات، ورجال كانوا يبكون بحرقة. وتعالت في الفضاء تأوّهات هابيل، وهو يشكو ظلم أخيه.
وقف بنو أسد حيارى لا يدرون ما يصنعون!
حاول بعضهم أن يتعرّف القتلى ولكن لا جدوى. حتّى "ابن مظاهر" ضاع عليهم.
كانت الأجساد مضرّجة مزّقتها حوافر خيل قاسية.
وجاء فتى يسعى... عليه سيماء النبوّات. ووقف بنو أسد مدهوشين، وهو يشير الى الأجسام المجهولة.
ـ هذا جسد أبي...
وتمتم وهو يواريه الثرى:
ـ طوبى لأرض تضمّنت جسدك الطّاهر... الدنيا بعدك مظلمة والآخرة بنورك مشرقة. أمّا الليل فمُسهَّد، وأمّا الحزن فسرمد.
ومشى الفتى الى جسدٍ آخر كان مقطوع الرأس واليدين.
فاعتنقه وراح يبكي:
ـ على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم... سلام عليك من شهيد محتسب ورحمةالله.
ومرّ النهار، ونكت الفتى يديه من التراب، ونظر الى الفرات. كان يشعر بظمأ شديد...
اغترف من الماء، وهمّ أن يشرب، ولكنه رماه بعنف كما لو كان سماً. تذكّر كلّ تفاصيل ملحمة الظمأ، وهي تجري على شواطئ نهر يموج بالمياه.
نهض الفتى وألقى نظرة احتقار على الفرات، وطفرت من عينيه الدموع وهو يولي ظهره للشواطئ. وبدا النهر كئيباً كخيط من الملح. وشيئاً فشيئاً كانت أصوات مناحة بني أسد تخبو في أُذنَيه، وهو يتّخذ طريقه نحو مدينة غَدرَتْ بأبيه.


توقيع : ابوشهد
عظم الله اجرك و احسن عزاءك و غفر لشهدائك يا عراق
رد مع اقتباس
قديم 2012/09/27, 08:54 AM   #12
ابوشهد

موالي ماسي

معلومات إضافية
رقم العضوية : 67
تاريخ التسجيل: 2012/03/04
المشاركات: 4,509
ابوشهد غير متواجد حالياً
المستوى : ابوشهد is on a distinguished road




عرض البوم صور ابوشهد
افتراضي

[COLOR="Blue"]
(12)

بدا الجامع الأعظم مكتئباً، كناسكٍ حزين. ورغم الضجة المتصاعدة، فقد بدا مقفراً، وضاعت آيات القرآن بين لغط الكوفيّين الذين تجمهروا في الظهيرة المحرقة.
نزا الأرقط على المنبر، وراح ينظر الى الناس باستعلاء. الشرر يتطاير من عينيه كشظايا جحيم مستعرة. هتف بغطرسة وقد فقد السيطرة على لثغة لسانه:
ـ الهمد... الحمدلله الّذي أظهر الحق وأهله... نَسَرَ اميرالمؤمنين يزيد وهزبه، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب الحسين بن علي وشيعته.
ضحك أحدهم بمرارة، وهو ينظر الى هذا الألكن الّذي نزى على منبر عليّ.
لقد مضت أيام البلاغة والفصاحة. مضت دون عودة، وورث المنبر قردةٌ وخنازير يسومون الناس سوءَ العذاب. كان الصمت يخيّم فوق الرؤوس الّتي أطرقت ذلاًّ...
فجأة هبَّ رجل مكفوف البصر:
ـ يابن مرجانة! الكذّاب أنت وأبوك والّذي ولاّك وأبوه... أتقتلون أبناء النبيّين وتتكلّمون بكلام الصدّيقين ؟!
فُوجئ الأرقط، فصرخ بغيظ:
ـ مَن المتكلّم؟!
ـ أنا المتكلّم يا عدوّ الله! تقتلون الذرية الطاهرة الّتي أذهب الله عنهم الرجس، وتزعم أنّك على دين الاسلام... واغوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار ؟!
استشاط الأرقط، وهتف بجلاوزته كأفعى حانقة:
ـ عَلَيَّ به!
هتف الرجل المكفوف البصر بشعار الأزد:
ـ يا مَبرور!
وتواثب الرجال من هنا وهناك، وانتزعوه من بين أنياب الكلاب.
وقال رجل أزديّ بإشفاق:
ـ لقد أهلكتَ نفسك و عشيرتك!


توقيع : ابوشهد
عظم الله اجرك و احسن عزاءك و غفر لشهدائك يا عراق
رد مع اقتباس
قديم 2012/09/27, 08:55 AM   #13
ابوشهد

موالي ماسي

معلومات إضافية
رقم العضوية : 67
تاريخ التسجيل: 2012/03/04
المشاركات: 4,509
ابوشهد غير متواجد حالياً
المستوى : ابوشهد is on a distinguished road




عرض البوم صور ابوشهد
افتراضي


(13)
مضت الساعات ثقيلة، وباتت الكوفة تترقب حادثة ما، وبدا قصر الإمارة كوحشٍ رابض في الظلام.
كسرت حوافرُ الخيل هدأة الليل... كانت تندفع نحو منزل رجل مكفوف البصر... بصير القلب.
واقتحمت الذئاب داره بعد أن حطّمت الباب، وكانت له صَبيّة فصاحت:
ـ وا أبتاه!
ـ لاعليكِ، ناوِليني سيفي.
ـ ليتني كنتُ رجلاً أذبّ بين يديك.
كان الرجل يقاتل في الظلام؛ وأحاطت به الذئاب، فسقط أسيراً بين الأنياب.
وهتفت ابنته:
ـ وا ذلاّه! يحاط بأبي وليس له ناصر!
وفي القصر، فرك الأرقط يديه جَذلاً، وقال بشماتة:
ـ الحمدلله الّذي أخزاك.
ـ وبما ذا أخزاني يابن مرجانة ؟!
قال الأرقط بنفاق:
ـ ما تقول في عثمان ؟
ـ ما أنت وعثمان، أساءَ أم أحسَن، أصلَح أم أفسَد؟ ولكن سَلْني عنك وعن أبيك وعن يزيد وأبيه.
ـ لأَذيقنّك الموت.
فقال الأزديّ بطمأنينة:
ـ لقد كنتُ أسأل ربّي الشهادة مِن قبل أن تلدك أمُّك، وس
ألتُه أن يجعلها على يدَي ألعنِ خلقه وأبغضهم اليه.
جحظت عينا الأرقط غيظاً، وأشار الى جلاوزته، وسرعان ما تدحرج رأس الشيخ؛ وكانت ابتسامة تلوح على وجهه.
ودعا ابن زياد بأزديّ آخر، كان في الطامورة، فجيء به، يخطو على وهن... أثقلته السنون والسلاسل والقيود.
قال الأرقط بصفاقة، وقد اجتاحته رغبة في سفك الدم:
ـ ألستَ صاحِبَ أبي ترابٍ في صِفّين ؟!
ـ نعم و إنّي لأُحبّه، وأفتخر به، وأمقتك وأباك، لاسيّما الآن وقد قتلتَ سِبط الرسول.
أجاب الأرقط باستهتار:
[/color]


توقيع : ابوشهد
عظم الله اجرك و احسن عزاءك و غفر لشهدائك يا عراق
رد مع اقتباس
قديم 2012/09/27, 08:57 AM   #14
ابوشهد

موالي ماسي

معلومات إضافية
رقم العضوية : 67
تاريخ التسجيل: 2012/03/04
المشاركات: 4,509
ابوشهد غير متواجد حالياً
المستوى : ابوشهد is on a distinguished road




عرض البوم صور ابوشهد
افتراضي


(15)
نَعبَ الغرابُ فقلتُ: صِحْ أو لاتَصِحْ فـلقـد قَضـَيـتُ من النبيِّ دُيوني
كانت دمشق ترقص على دفوف أهلها، والأبواق تدوّي في الفضاء، وتَذكّر يزيدُ جدَّته (هند)، وهي تصدح غداة "أُحُد":
إن تُقبِـلوا نُعانقْ أو تُدبِروا نُفارقْ ونَفرش النَّمارقْ فِراقَ غيرِ وامِقْ
القافلة المقهورة تشقّ طريقها كسفينة تعصف بها ريح مجنونة... يتقدّمها رأسُ آخرِ الأسباط على رمح طويل، فبدا كعملاق من عمالقة التاريخ. ودنا شيخ من فتىً في العشرين من عمره... كان ينوء بثقل سلاسل القهر. هتف الشيخ:
ـ الحمدلله الّذي أهلككم، وأمكنَ الأميرَ منكم!
نظر الفتى اليه، وخاطبه بإشفاق:
ـ أقرأت القرآنَ يا شيخ ؟
قال الشيخ مأخوذاً:
ـ بلى.
ـ أقرأتَ: قل لا أسألُكم عليه أجراً إلاّ المودّةَ في القربى ؟
ـ نعم قرأت ذلك. ما ذا تعني ؟
ـ نحن القربى يا شيخ... أقرأت: إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ
عَنكُمُ الرجسَ أهلَ البيتِ ويُطهِّرَكم تطهيراً ؟
ـ نعم قرأت ذلك.
ـ نحن أهل البيت يا شيخ.
ـ بالله عليك، أنتم هُم ؟!
ـ نعم، وحقِّ جدِّنا رسولِ الله، إنّا لَنحن هم.
وقع الشيخ... كأنّ الأرض تهتزّ تحت قدميه... كان ينتحب ويُوَلوِل:
ـ أبرأ الى الله ممّن قتلكم...
وما أسرع أن احتوشته الجلاوزة، كحَمل سقط بين مخالب قطيع من الذئاب.
وتساءلت امرأة دمشقية:
ـ مِن أيّ السبايا أنتم ؟

(16)
فقالت سكينة بحزن:
ـ نحن سبايا آل محمّد.
ومضت القافلة في طريقها الى قصرٍ بُني على الظلم ما له من قرار.
وفي باب القصر توقّفت القافلة، وجيء بالحبال، فرُبِّق بها آل الرسول، وَضعوا طرَفه في رقبة فتىً في العشرين؛ أنهكته السلاسل والقيود، ثمّ في رقبة زينب بنت علي! ثمّ باقي بنات محمّد! وكلّما تعثّر الأسرى في طريقهم انهالَتْ عليهم السياط من كل جانب.
وتذكّرت زينبُ عِزّاً قديماً بدّدته أيام الزمن الخالي... يوم كانت تخرج يحفّ بها فتية بني هاشم. وها هي الآن تُساق أسيرةً الى أولاد الطلقاء. لَشدّ ما يقسو الدّهر... ولكن كل شيء في عَين الله، ولقد أوتيَتْ زينب صبراً دونه صبر أيّوب.
وأُدخلت الرؤوس، وكان رأسُ الحسين على رمح طويل.
وفي تلك الليلة ضاعت آياتُ القرآن وسط دفوف مجنونة تحتفل بنصر الخليفة الجديد. الّذي زيّن قِرْده الأثير قلادةً جديدة من الذهب المرصّع بالياقوت الأحمر.
دمشق تغمرها ظُلمة... تلاشت زينتها، وبدت المدينة كراهبة مكتئبة، وعلى باب جَيرون كان رأس الحسين مصلوباً، حيث صُلب رأس يحيى بن زكريا.
دمشق صامتة كأنّ على رأسها الطير. وفي باب السّاعات كانت حيّة من نحاس تُخرج رأسها المثلّث في كل ساعة، فتُسقِط حصاةً في إناء نحاسي، وكان غراب من نحاس يشير الى الوقت دون اكتراث، وها هو الزمن يعود الى الوراء... يستعيد حوادث قديمةً... قديمة جداً.
كان صوتُ يحيى بن زكريا يدوّي في السجن:
ـ آه من الخليعة العاهرة... ابنة بابل!
ليرجمها الناس بالحجارة، فتزول الآثام من الأرض، والاّ فسترتدي السماء ثوبَ الحِداد، ويصير القمر بِركةً من الدم، وستسقط النجوم على الأرض، وسيحلّ الرعب في قلوب الملوك.
كانت "سالُومي" تُصغي بحقد الى كلمات يحيى تُفجّرُ الغيظَ في صدرها... وزادها الشّيطان فتنة.
همست في أذن هيرودس:
ـ سأرقصُ مِن أجلك.

(17)
وجُنّ هيرودس:
ـ أُعطيك ما تشائين. امنحكُ نصف مملكتي.
أغرقت الجواري "سالومي" بالعطور.
هتفت بخلاعة:
ـ بقدمَين عاريتين سأرقص لك... بقدمين مثل حمامتين بيضاوين سأرقص لك.
هبّ هيرودس من عرشه:
ـ آه ... رائع... عظيمٌ لقد رقصتِ من أجلي. اقتربي يا سالومي سأعطيك كلَّ ما تشتهين... أُقسم بآلهتي. خرّت "ابنة بابل" عند قدميه:
ـ أريد أن تقدّم لي في طبق من الفضّة... رأسَ يحيى.
ـ لا... لا ياسالومي.
ـ ولكنك أقسمت بآلهتك!
ـ لن أفعل! اطلبي منّي شيئاً آخر. أُعطيك نصف مملكتي.
ـ أريد رأس يحيى.
لعبت الخمرة برأسه، وانتزعت أصابع (ابنة بابل) خاتم الموت من يده، وسقط رأس يحيى بن زكريا عند قدَمي "سالومي".
في طبَق من الفضة كان رأس يحيى يتألّق في الظّلام.
وقالت "سالومي" منتشية:
ـ إنّ عينيك اللتين كانتا مخيفتين قد أُغلقتا الآن، ولسانك لا يتحرّك، لن يقول شيئاً هذا اللسان... أنا سالومي ابنة بابل... الأميرة اليهودية... ما زلت أحيا... أمّا أنت فقد مُتّ... لقد أصبح رأسك مُلكاً لي أفعل به ما أشاء. سوف أرميه لنسور السماء.
ارتجف هيرودس لهذه الراقصة تتشفّى من يحيى... صرخ بهلع:
ـ هذه المرأة تعجّ بالشرور...
وخاطب جنوده:
ـ أطفئوا المشاعل.
كان يريد الهروب ... وفيما هو يغادر قاعة الحفل، حانت منه التفاتة. كانت سالومي ما تزال تخاطب رأس النبيّ. كانت تحمل طبق الفضة، وتدور به ـ مجنونة ـ في أروقة القصر.

(18)
صاح هيرودس بجنوده:
ـ اقتلوا هذه المرأة.
وتدافع الجنود لسحْق امرأة داعرة، فسقطت ممزَّقة، وعلى وجهها آثارُ رعب وخوف، وكان وجه يحيى يسطع نوراً. وبدا قصر هيرودس مخيفاً... نوافذه مشرَعة تعصف بها الريح من كل مكان.
رأس الحسين ما يزال مصلوباً على باب جيرون، الرهبان ينظرون اليه من بعيد، فيرون ملامح يحيى بن زكريا، فتفيض أعينهم من الدمع حزناً.

رأس الحسين في طبق من ذهب بين يدَي يزيد... وكان ابن معاوية ينكت ثغر السبط بقضيب في يده.
التفتَ إلى ابن بشير، وكان يوماً ما أميراً على الكوفة:
ـ الحمدلله الّذي قتله.
قال الأنصاري بحزن:
ـ قد كان أبوك يكره قَتْلَه.
ـ قد كان ذلك قبل أن يشهر سيفه، ولو شهر سيفه على أبي لقتله.
وقال رجل رأى النبيّ وسمع حديثه:
ـ أشهد لقد رأيتُ النبيّ يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن، ويقول: أنتما سيدا شباب أهل الجنّة. قَتلَ اللهُ قاتلكما.
استشاط سليل آكلة الأكباد. وما أسرع أن تناوشته الجلاوزة، وسُحل الى خارج القيصر. وكان رسول القصير يتأمّل رأس الحسين، وفي أعماقه تموج تساؤلات:
ـ إنّ عندنا في بعض الجزر حافِرَ حمارِ عيسى، ونحن نحجّ اليه في كل عام ونهدي اليه النذور، وأنتم تقتلون ابن نبيّكم ؟!
نهض النصراني، وتقدّم بخشوع ليقبّل رأس الحسين.
تخيّل نفسه يعانق يحيى بن زكريا، أو المسيح بن مريم.
استشاط ابن معاوية غضباً، فتدحرج رأس النصراني الى جانب رأس الحسين، وسمع مَن له أذن واعية رأس السبط يتمتم:

(19)
ـ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
والتفت يزيد إلى فتى الحسين:
ـ أرأيت صُنع الله بأبيك ؟!
قال الفتى:
ـ رأيتُ قضاءَ الله.
تمتم يزيد بنفاق:
ـ ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم.
قال سليل الأنبياء:
ـ ما أصابَ مِن مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسِكُم إلاّ في كتابٍ مِن قبلِ أن نبرأها إنّ ذلكَ على الله يَسير. لكي لا تأسَوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم .
وبدا الفتى ـ وهو في الأغلال ـ كأسد أوثقه الصيادون، فخاطب يزيدَ:
ـ ما ظنُّكَ برسول الله لو يراني على هذه الحال !
ونهض خطيب السلاطين، وأمعن في مدح معاوية ويزيد وسبِّ عليّ والحسين، فصاح به الفتى:
ـ لقد اشتريت مرضاةَ المخلوق بسخطِ الخالق، فتبوّأْ مَقعدكَ من النار.
وكان رجل شامي ما برِح يتطلّع الى بنات محمّد، فنظر إلى فاطمة بنت الحسين، وتمنّى أن يهبها له الخليفة جاريةً تخدمه.
تعلّقت الفتاة بعمّتها زينب كغريق يتشبّث بعمود من أعمدة سفينة محطّمة تتقاذفها أمواج الطوفان. قالت زينب بثبات:
ـ لا تخافي. لن يكون ذلك أبداً.
ردّ يزيد متغطرساً:
ـ لو شئتُ لفعلت.
ـ فقالت ابنة علي:
ـ الاّ أن تخرج من ديننا.
ـ إنّما خرج من الدين أبوكِ وأخوك!
ـ بدِينِ الله ودين جدّي وأبي وأخي اهتديتَ أنت وأبوك، إنْ كنتَ مسلماً.
ـ كذبتِ يا عدوّة الله.
ـ أنت أمير مسلّط تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك.

(20)
عاود الشامي الأحمق:
ـ هَبْها لي يا أميرالمؤمنين.
ودّ يزيد لو يُسحق هذا الأحمق، فنهره بشدّة:
ـ وَهبَ الله لك حتفاً قاضياً!
أطبق الصمت على المكان، وكان التاريخ يتساءل عن المنتصر في كربلاء؛ يزيد أم الحسين. فنهضت امرأة رافقت الحسين على قدر تقول كلمتها معبّرة خالدة:
ـ صدق الله سبحانه حيث يقول: ثمّ كان عاقبةَ الّذين أساؤوا السُّوأى أنْ كذّبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزئون ... أظننتَ يا يزيد ـ حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى ـ أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة ؟!... فمهلاً مهلاً! أنسِيتَ قول الله تعالى: ولا تَحسبنّ الّذين كفروا أنّما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنّما نُملي لهم ليزدادوا إثماً و لهم عذابٌ مُهين ، فو الله ما فَرَيتَ إلاّ جِلدَك، ولا حَزَزتَ إلاّ لحمَك. ولَترِدَنّ على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بما تحمّلتَ من سفك دماء ذريّته، وانتهكتَ حُرمتَه في عترته... وحسْبُك بالله حاكماً، وبمحمّدٍ خصيماً، وبجبريلَ ظهيراً، وسيعلم مَن سوَّل لك ومكَّنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بَدَلاً. وأيّكم شرٌّ مكاناً وأضعف جُنداً.
ولئن جَرَّتْ عليَّ الدواهي ـ يا يزيد ـ مُخاطبتَك، إنّي لاَستصغِرُ قَدْرك. فكِدْ كيدَك، واسعَ سَعْيك، فو اللهِ لا تمحو ذِكرنا ولا تُميت وحيَنا، ولا يرحض عنك عارُها. وهل رأيُكَ إلاّ فنَد، وأيامك إلاّ عَدَد، وجمعك الاّ بَدَد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنةُ الله على الظّالمين.

تضاءل يزيد حتّى أصبح كذبابة أو يكاد؛ وربّما لأوّل مرّة أيقن أن الحسين لم يُقتل بعدُ وأنه ما يزال يقاتل في كربلاء، وها هو الآن على أبواب دمشق. فلعن في نفسه ذلك الأرقطَ الأحمق لأنّه لم يقتلهم جميعاً، ها هي زينب تحمل قلب الحسين وفصاحة عليّ وهيبة محمّد. وها هي الشام تتساءل عن رجل اسمه الحسين وعن امرأة اسمها زينب.

غادرت القافلة ربوع الشام في طريقها إلى كربلاء، وعرف الدليل الطريق، وراحت القافلة تسابق أمواج الفرات.

(21)

وتساءل الأطفال عن جنودٍ ورماح كانوا يحرسون النهر.. يحرمون القلوب الظامئة والأكباد الحرّى من قطرة ماء.
وكانت الطيور والغِزلان تمرح في الشواطئ.. ترتاد النهر بحرّية.
ـ لو تدري أيها النهر! عن قلوب ذوَتْ عطشاً على شطآنك!!
كان الحسين يذوب ظمأً.. قلبه يتفطّر، وأنت تجري.. تنثال مياهك على الشواطئ.. تهبها الحياة، وتمنح الأرض السمراء عشبك الأخضر.. وفي عاشوراء تركتَ قلوباً صغيرة تتلوّى عطشاً، وكان " الرضيع " يمدّ يداً صغيرة؛ يطلب قطرة ماء.. ما تزال يده ممدودة تستفهم التاريخ والانسان.
لاحت أرض كربلاء من بعيد.. الأرض التي شهدت قبل أربعين يوماً مصرع الحسين.
سهام مغروسة في الرمال.. سيوف مهشّمة وبقايا رماد..
قفزت الحوادث الرهيبة إلى الذاكرة. تجسّدت أمام العيون. وتردّد صداها في القلوب.
هرولَت "الرَّباب" إلى كومة رمل صغيرة.. تضمّ رضيعها الشهيد! احتضنت الرمل.. راحت تحثوه فوق رأسها:
ـ هلمّ إليّ يا صغيري..
وتساقطت قطرات من لبن سائغ فوق الثرى، فامتزجت مع الدموع.
كان الرضيع غافياً في أحضان الأرض التي لوّنها بدمه الرائق؛ وعندما هوّمت عيناها، رأت نافورة ماء تنبجس من نحر الرضيع الشهيد. وكان الأطفال يدورون بين القبور كحمائمَ برّية تبحث عن أعشاشها.
ووقفت زينب تتأمّل الصمت المهيمن.. وهي تستيعد حو
ادث يومٍ طويل.. يومَ حطّم الحسينُ شبَحَ الموت.. يرسم بدمائه الطريق.. الطريق إلى جنان تجري من تحتها الأنهار.. وشواطئ الفرات تختزن الملح... أمواجه سراب، وظلال الخيل رماد، والنهر حيّة يقهرها الظمأ.
والحسين يهوي بسيفه على صخور الزمن، فتنبجس منها ينابيع الخلود... والحسين يقهر الموت، ينتزع من بين طواياه الحياة.
من بعيدٍ لاح "جابر".. رجل نصَر النبيّ، وجاء اليوم يزور سِبطه. وكان مع الأنصاري عصبة من بني هاشم.. شمّ جابر رائحة النبيّ فهوى يقبل قبر الحسين:
ـ يا حسين.. يا حسين.. يا حسين.. حبيب لا يجيب حبيبه، وأنّى لك بالجواب وقد فُرِّق بين رأسك وبدنك!.. أشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.
وأجال جابر بصره الواهن بين القبور:

(22)
ـ السّلام عليكم أيتها الأرواح التي حَلّت بفِناء الحسين وأناخَت برَحله.. أشهد أنكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم الملحدين. والذي بَعثَ محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحق نبياً، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.
فقال رجل كان معه، وقد اتّسعت عيناه دهشة:
ـ كيف ولم نَهبط وادياً ولم نَعلُ جبلاً ولم نضربْ بسيف ؟!
وتداعت في أعماق جابر كلماتٌ قالها محمد من قبل:
ـ سمعتُ حبيبي رسول الله يقول: "مَن أحبّ قوماً كان م
عهم، ومن أحبّ عمل قوم أُشرِك في عملهم"... والذي بعث محمداً بالحق نبياً، إن نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه.
كانت الشمس على وشك أن تغيب وقد بدت حمراء.. حمراء كعين تسحّ دموعاً ثقالاً.
نهض جابر وقد تعفّر وجهه بتراب الحسين. تمتم بحديث لحبيبه كان قد سمعه قبل أكثر من خمسين سنة، كان النبيّ يداعب صبياً في ربيعه الخامس ويقول: حسين مني وأنا من حسين...
هتف جابر وسط الصمت وكان الفرات يجري.. تتدافع أمواجه:
ـ أشهد أني قد سمعت ذلك من حبيبي محمّد.
غابت الشمس خلف الرمال الممتدّة، ونشر المساء ستائره الرمادية فوق الأرض، وانبرى رجال يدقّون أوتاد خيام صغيرة...
فزينب تريد البقاء إلى جنب أخيها الحسين.

مضى يومان والقافلة التي غادرت الشام وما تزال في كربلاء تسقي رمالها دموعاً ساخنة بعد أن ارتوت من دماء الحسين وسبعين من حواريّيه.انطلق الأطفال إلى الفرات، وقد بدا.. والنخيل تحفّ شاطئيه: حورّية نهضت لتوِّها من النوم.
غمس الصغار أرجلهم في المياه، وكانت الأمواج تغسل أقدامهم برفق... كأنّ النهر يعتذر إليهم عن يوم حرَمهم فيه من قطرة ماء.
تذكّروا أيّام العطش. كانوا ينظرون جهة النهر... وكان النهر أسيراً تحرسه رماح وسهام. تذكروا صرخاتهم.. بكاءهم وهم يصيحون:
ـ العطش.. العطش!

(23)
وعادت صورة عمّهم "أبي الفضل" وقد اعتلى صهوة جواده.. حمَلَ القِربة واتّجه صوب الفرات.. كانوا يترقّبون عودته يحمل إليهم الماء.. ولكن عمَّهم ذهب ولم يَعُد... وظلّوا ينتظرون.
وبدت السماء في أعينهم صحراء ملتهبة، فلا مُزنة تحمل إليهم الوَدْق. وكانت نُتَف الغيوم تعبر السماء كسفنٍ تائهة.
وقفت زينب تتأمّل الفرات وقد بدا مرثية غارقة في الحزن.. وكانت الشواطئ تبكي.. تسحّ دموعاً فوق الرمال، وحفيف النخيل يردّد صوت امرأة تنوح بصمت.
استند طفل إلى جذع نخلة سمراء بلون الصحراء.
كان يصغي إلى نشيج الفرات وبكاء النخيل.. ينظر إلى المياه المتألّقة، فيشاهد نجوماً وقمراً منيراً. هوّمت عيناه فرأى حصاناً أبيض ينبثق من النهر.. ينقل خطاه، والمياه تنثال منه.. ترسم درباً نديّاً.. ورأى الحصان يضرب الأرض.
عمّه "أبو الفضل" يعتلي صهوة الحصان، وينطلق صوب الفرات والقِربة على كتفه.. كان الحصان يصهل، وعمّه يبتسم، وقد عاد يحمل الماء... راح يعبّ منه دون ارتواء.. وعندما فتح الطفل عينيه، وجد زينب أمامه، وفي يديها قربة تموج بمياه الفرات.
هَوَت الشمس باتّجاه المغيب.. جمرة متّقدة.. جرح راعف....
لحظات، وحلّ الظلام، فتصاعد الأنين.. أنين النهر.. النخيل.. الرمال.. وذهب الطفل يتلمّس طريقه بين نخيل الشاطئ. بدا القمر جميلاً في أحضان الماء. رأى وجه أبيه الشهيد منعكساً فيه كمرآة صافية.. ودّ في أعماقه لو يحمله النهر بعيداً إلى عالمٍ جميل.. إلى مدينة ترقد في أحضان النهر؛ وهناك يلتقي أب
اه، ثمّ ينطلقان معاً إلى البحر الكبير.
استيقظ الطفل على صوت من وراء النخيل يناديه:
ـ أين أنتَ يا بقية أخي ؟
ونهض الصغير مسرعاً نحو جهة الصوت. إنها عمّته زينب.
ارتمى في أحضانها، وكان القمر يغمر الرمال بلونه الفضّي المتألّق.
العيون الساهرة تراقب نجوم السماء، والأطفال يناغون القمر.. وتألّقت في الرمال سبعون نجمة أو تزيد.. وانطوى الليل على جراحٍ روّت الأرض.
وخُيِّل للقلوب الكسيرة أن قلباً كبيراً ينبض في أعماق الأرض فاهتزّت ورَبَتْ، وكان صدى صهيلٍ يأتي من جهة الفرات.

(24)
وفي قلب الظلام، كان الحسين على فرسه يتألّق في وجهه نور النبوّات.. يحمل في يديه الورد والزيتون والماء، ويحمل القرآن.
بدت كربلاء ـ تلك الليلة ـ مسرحاً كبيراً يستوعب الحياة... وظهر التاريخ يئنّ من عواء الذئاب.. يستنجد بجواد الحسين. وكان الجواد يصهل، فتفرّ الذئاب مذعورة.
وينطلق التاريخ.. يعتلي صهوة الجواد.. يسابق الزمن. وكانت الذئاب تطارده لاهثة.

استيقظت يثرب كئيبة، وقد صبغت الشمس جدارنها بحمرة ملتهبة، وكان غراب ينعب فوق أحد المنازل.
ارتاعت فاطمة الصغرى، وهي تراقب الغراب، وقد كان يلطّخ جداراً يحيط باحة البيت.بدا البيت خاوياً على عروشه، فلا أحد يؤنس الفتاة الوحيدة مذ تخلّفت عن القافلة لعلّةٍ أنهكتها.
تركوها وحيدةً، وانطلقوا إلى أرض السَّواد. وكانت تترقب بريداً يأتي من قِبل أبيها، وها هو نذير الشؤم يحطّ على المنزل.. يملأ الفِناء بنعيقه، ويصبغ الجدار بدم هابيل.
وتمرّ الأيّام كالحةً سوداء، كأسراب غربان مهاجرة.
وذات صباح حزين، سمعت الصبيّة صوتاً ينعى والدها العظيم. كان الصوت يتردّد بين منازل المدينة المنكوبة:
يا أهلَ يثربَ لا مُقامَ لكم بها الجسمُ منه بكربلاءَ مُضرَّجٌ قُتل الحسينُ فأدمعي مِدرارُ والرأسُ من فوقِ القناة يُدارُ
هبّت يثرب عن بكرة أبيها. اليوم مات رسول الله!
واتجهت الجموع المدهوشة إلى الصحراء للقاء قافلة عَصَفتْ بها الأيّام.
وخرج فتى في العشرين من خيمته وهو يكفكف دموعه ويشهق في عبرته. ودارت عيناه في رجال صحبوا النبيّ. كان ينعى إليهم سبط صاحبهم العظيم.
ودخل الفتى بعياله مدينة جدّه... وبكت زينب عندما لاحت لها البيوت من بعيد، فأجهشت بالبكاء. ولأول مرّة بانَ الانكسار على وجهها، وهي تردد:
مـدينـةَ جـدّنا لا تَـقبلينا خَرَجنا منكِ بالأهلين جمعاً فبالحسراتِ والأحزانِ جِينا فعُدنـا لا رجـالَ ولا بَنينا


(25)
وعندما وصل الركب إلى المسجد، أخذت أخت الحسين بعُضادتَي باب المسجد، وهتفت:
ـ يا جدّاه، إني ناعية إليك أخي الحسين.
وصاحت سكينة بلوعة:
ـ يا جدّاه، إليك المشتكى مما جرى علينا، فو الله ما رأيتُ أقسى من يزيد، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شرّاً منه، ولا أجفى وأغلظ، فلقد كان يقرع ثغر أبي بمخصرته ويقول: كيف رأيتَ الضرب يا حسين ؟!
وناحت الرباب بنت امرئ القيس بقلب كسير:
قد كنتَ لي جَبَلاً صَعباً ألوذ بهِ مَن لليتامى ومَن للسائليـن ومَن واللهِ لا أبتغي صهراً بصهركمُ وكنتَ تَصحبُنا بـالرحم والدِّينِ يُغْني ويُؤوي إليه كلَّ مسكينِ ؟! حتى أُغيَّبَ بين الرمـل والطينِ
ودخل رجل من أولاد طلحة على بقية آل محمد وسأل شامتاً:
ـ مَن الغالب ؟
فأجاب الفتى وهو يزيح عن العيون حجب الزمان:
ـ إذا دخل وقت الصلاة فأذّنْ وأقِمْ تَعرف الغالب.
اهتز الأشدق شماتة وهو يصغي تشفياً إلى مناحة بني هاشم، وتمتم:
ـ واعية بواعية عثمان!

والتفت إلى قبر النبي وأردف:
ـ يا محمد، يوم بيوم بدر!
واتجه الأشدق إلى المنبر، وراحت كلماته تخرج شظايا يتهدّد أهل المدينة بالويل والثبور، ثمّ أصدر أمره إلى قائد شرطته بهدم دُور بني هاشم، فهرول الشرطة يحملون آلات الدمار، فأمعنوا في خرابها حتّى غادروها أطلالاً أو خرائب خلّفها الزمن الراحل.
ولاذت بنات محمد بالقبر الشريف، وهي تستصرخ الضمير النائم:
ماذا تقولـون إن قـال النـبيّ لكم: بعـتـرتـي وبـأهلي بعد مُفتقَدي ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكم مـاذا فـعـلتم وانتم آخـر الأمـمِ منهم أسارى ومنهم ضُرِّجوا بدمِ ؟! أن تخلفوني بسوء في ذوي رحِمي


(26)
كان الحزن يطوف بيوت يثرب، كغيوم رمادية مثقلة بدموع السماء، وكانت عجائز المدينة يحدّثن حفيداتهن عن أحزان قديمة لأمّ الحسين يوم ودّع أبوها الدنيا إلى الرفيق الأعلى.
وتهامسنَ عن حزن جديد.. حزن زينب.
ـ إن القدر لن يمهلها كما لم يمهل أمها من قبل.
ـ سرعان ما رحلت الزهراء.... التحقت بأبيها..
ـ لن تعيش زينب أكثر من عام.
إنها تذوي لحظة بعد أخرى، كشمعة تذوب في قلب الظلام.

نهض الأشدَق من سريره المذهّب؛ كان الليل قد ذهب ثلثاه، وهو ما يزال يتقلّب في فراشه يصغي إلى صدى مناحة تأتي من بعيد.
ما يزال بنو هاشم ينوحون على الحسين، وما تزال المدينة تجترّ آلامها بصمت... كان الأشدّق فيما مضى يطرب لبكائهم، وينتشي لمناحتهم، أما الآن فبدأت تؤرّقه.. تقضّ مضجعه.. تسلب من عينيه حلاوة النوم. إنه يرى تململ المدينة.. يصغي إلى أصوات تلعنه وتلعن بني أمية أجمعين، وكان الحسين على الش
فاه.ضغط الأشدق على أسنانه حانقاً، وراح يحدّق ـ من خلال نافذة في القصر ـ في الظلام الدامس. تراءت له اشباح في الظلام.. اشباح مخيفة ليس لها شكل.. تحمل في أيديها سيوفاً وخناجر..
ارتدّ الأشدق مذعوراً، وشعر بفمه يزداد اعوجاجاً، حتّى لقد صعب عليه أن يصرخ بحاجبه.
وقعت عيناه على كأسٍ فيها ثمالة، فأفرغها في جوفه دفعة واحدة.
منذ مدّة وهو لا يفارق هذه البيضاء التي تحرق جوفه وتغرقه في بحر من الخيال.
ولكن ماذا يفعل لهذه المرأة ؟!... زينب تسلبه حلاوة العيش.. تقضّ مضجعه.. المدينة تستيقظ على مناحتها.. وهو يخاف لحظة الانتقام. لعن في أعماقه يزيد وابن زياد. كان عليهما أن يقتلا زينب... الحسين لا يموت إلاّ بقتل هذه المرأة. إنها ابنة عليّ.. عليّ الذي ما يزال الناس يردِّدون كلماته؛ ومحمد يهتف به الناس كل يوم خمس مرّات.
شعر بدوارٍ في رأسه، ورغبة في القيء. لقد أكثر من الشراب هذه الليلة.
استيقظ الفجر على صياح الديكة. ونعب غراب، قبل أن يغادر وكره. وناحت حمامة بصوت حزين.
صرخ الأشدق بكاتبه بصوت يشبه فحيح الأفاعي:

(27)
ـ اكتب إلى الخليفة:
"إذا كانت لك بالحجاز حاجة فاقتل زينب".
وانطلق ذئب أغبر يحمل رسالة الموت. الأشدق ما يزال متعطّشاً للدماء.
لم تروهِ دماء كربلاء، فراح ينشد المزيد.
ما تزال هند تلوك كبد حمزة، وتشتهي كبد عليّ..
كلمات الحسين تدور في بيوت "الأنصار" من سكان المدينة ممزوجة بدموع زينب.. تتحوّل إلى روح تنشد الحرية.. والذين صحبوا النبيّ يتذكرون عهوداً قديمة تحت الشجرة وفي العقبة كانوا قد نسوها، وها هم يستيقظون ليجدوا راية "العقاب" في أيدي الذين حاربوها عشر سنين.
الخلافة تتحول إلى مُلك والخليفة يصير هرقل.. والمنبر ينقلب إلى عرش... ويكون معاوية أمين الوحي، ويُشتم أبو تراب ليل نهار، ويعود طريد الرسول إلى المدينة، وتُنفى زينب من كل الحجاز.
استوت "العقيلة" فوق ناقتها، وألقت نظرة حزينة على ربوع مدينة جدّها، متوجهة صوب مصر.
قالت امرأة هاشمية، وهي تودّعها:
ـ لقد صدق الله وعده: وأورَثنا الأرضَ نتبوّأُ من الجنّةِ حيث نشاء فطيبي نفساً، وقَرّي عيناً، وسيجزي الله الظالمين.
وانطلقت سفينة الصحراء تقطع الفيافي.. تحمل امرأة اسمها زينب، امرأة لن يمهلها القدر سوى سنة واحدة، فقد فاضت روحها في أول ذكرى لعاشوراء.
في الفسطاط قلب مصر، مكثت زينب عاماً واحداً. وعندما أغمضت عينيها الدامعتين، تفتّحت ملايين العيون، وملايين القلوب على نداء الحرّية. فما يزال الحسين يقاتل.. يهتف في سمع الزمن:
ـ إني لا أرى الموت إلاّ سعادة.... والحياة مع الظالمين إلاّ برَما.
وما يزال التاريخ يردد كلمات قالتها زينب في كربلاء:
ـ لقد اخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة، فيوارونها وينصبون بهذا الطف علَماً لا يُدرس أثره، ولا يُمحى رسمه على كرور الليالي والأيّام.


(28)
مرّات أعوام والمهرة التي وُلدت لحظة عاشوراء أضحت فرَساً تسابق الريح.. ودارت الأرض دَوْر الرَّحى.
يثرب تلعق جراحها العميقة. أغار عليها جند الشام واستباحوها ثلاثة أيّام بلياليها... قُتل رجال كانوا حول النبيّ... كانوا سبع سنابل خضر؛ في كل سنبلة مائة حبّة.
السيوف الأُموية تحصد بلا رحمة حتّى رؤوس الاطفال. بَقَرَت بطون الحبالى، واستُبيحت ألف عذراء.. وبايعت المدينة يزيدَ جاريةً ذليلة.
عاد أبو سفيان يقود القبائل وهو يهتف: اُعلُ هُبل؛ والأحزاب يعبرون خندق النبيّ بعد أن ردموه في كربلاء، ونادى منادٍ.
ـ يا أهل يثرب لا مُقامَ لكم بها.
المدينة تحصد بذار "السقيفة".
وفي مكة، كانت المجانيق تقصف الكعبة من فوق رؤوس الجبال، فاحترق جانب منها.. الشيطان يصب حِممَه فوق بيت الله.. وجند الشام يرمون الكعبة بكتل النار الملتهبة، ثمّ يتجهون إليها وقت الصلاة.
ويزيد في رحلة صيد أسكرته نشوة الانتصار، والأرقط ما يزال جاثماً عل
ى صدر الكوفة يسومها سوء العذاب.. يذبّح أبناءها ويستحيي نساءها.
الضمير الذي خدّره "معاوية" يستيقظ في قلب الليل، يتململ.. يبحث عن جحيم يتطهر فيه.. يتخفف من إثم رهيب حوّل الحياة إلى ذلّ لا يطاق.
لقد وُلد الحسين من جديد.. وها هي بنت محمد تُقدّم وليدها إلى الدنيا شعلةً متوقِّدة يحملها الأحرار في كل زمان ومكان.
الأفاعي ما تزال تتلوّى في قصر الإمارة.. تلدغ كل من يصادفها. وقد فّر الأرقط إلى الشام بعد أن هلك سيّده، وظهر في الكوفة رجل يصرخ: يا لَثاراتِ الحسين.. رجل ذرّف على الستين؛ يُدعى "المختار".
قال ابن سعد محذّراً:
ـ أيها الأمير، إن المختار أشدّ خطراً من سليمان، فابنُ صُرَد قد خرج من الكوفة يروم قتال أهل الشام.
وقال الأبرص:
ـ أجل أيها الأمير، أرى أن تُودِعَه السجن.. أو تقتله.. نتغدّى به قبل أن يتعشّى بنا.
لا أحد يدري كيف استيقظت الكوفة.. نفضت عن نفسها العار وهبّت بشعارٍ كانت قد نامت عنه خمس سنين؛ يوم كان مسلم بن عقيل سفير الحسين ينادي في دروب الكوفة وحيداً: يا منصورُ أمِتْ.
هبّت الكوفة تصرخ مجنونة: يا لَثاراتِ الحسين.
وسقط قصر الإمارة في أيدي الثائرين؛ فيما فرّ الجلادون لا يلوون على شيء.

(29)
كان الأبرص قد فرّ باتجاه الجنوب مشدوهاً يفكّر بكلمات قالها الحسين في كربلاء:
ـ والله لا تَلبثون بعدها إلاّ كريثما تُركَبُ الفَرَس حتّى تدورَ لكم دَورَ الرَّحى وتَقلقَ بكم قَلقَ المحور.. عهدٌ معهود عَهِده إليّ أبي عن جدّي رسول الله.
وتجسدت صورة الحسين وهو يرفع يديه إلى السماء كنبيٍّ يستمطر اللعنة على قوم كذبوه:
ـ اللّهم احبِس عنهم قَطْر السماء، وابعَثْ عليهم سنين كسني يوسف، وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مُصبَّرة.. والله لا يَدَعُ أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه.. قتلةً بقتلة، وضربة بضربة، وأنّه لَينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي.
تحققت نبوءة الحسين. صارت المُهرة فرساً تُركب، تسابق الريح وظهَر "المختار الثقفي" في قبضته سيف الانتقام. فرّ الجلاّدون.. تحولوا إلى فئران خائفة اختبأت في جحورها ترتجف، وكان سيف المختار يطاردها.. يحقق نبوءات الحسين.
وفي ساعة غضبٍ مقدس، تحولت جحور الفئران إلى انقاض وركام.
قال المختار وهو يودّع "ابن الاشتر" قائده الشجاع:
ـ بقي رأس الافعى.. بقي رأس الارقط:
هزّ إبراهيم رايته بشدّة.
تحرّك سبعة آلاف مقاتل يحملون في صدورهم قبساً من روح الحسين، وصهيل فرس غاضبة تدوّي في الأعماق.

غادر ابن زياد الشام على رأس جيش تجاوز الثمانين الف مقاتل يحملون سيوفاً أموية تنذر الكوفة بالويل والثبور، يقودها "الارقط" وقد بايع مروان على الطاعة... ومروان طريد رسول الله، أُمويّ سامريّ منعه النبيّ أن يغادر الطائف. ولمّا أغمضَ النبيُّ عينيه جاء مختبئاً تحت عباءة عثمان.
وتمرّ الأعوام تِلو الأعوام، وإذا بالطريد يسرق منبر محمد في وضح النهار.
سقطت الموصل في قبضة الأرقط... وعلى ضفاف نهر الخازر في ضواحي الموصل التقت فئةٌ قليلةٌ فئةً كبيرةً وحدثت ملحمة رهيبة.. كان الأشتر يقاتل بشجاعة أبيه.. يستعيد بطولاته على شاطئ الفرات بصِفِّين وليشهد "الخازر" أنّ الولد على سرّ أبيه.


(30)
طاحونة الموت تدور عند ضفاف الخازر، وسقط رأس الأرقط وتمزّقت جيوشه.
كان المختار جالساً في القصر عندما وضع بين يديه رأس الأرقط.. كان يشبه رأس الأفعى يسيل من أنيابه الصديد.. عيناه زائغتان تعكس آثار رعب ودناءة.
وتساقطت رؤوس الجلاّدين.. رأس الأبرص ورأس رجل كان يحلم بالري وجرجان، رأس سنان و "حرملة" ورؤوس عفنة كثيرة.. سقطت كما تتساقط الثمار الفاسدة عند هبوب الزوبعة وفي فجر يوم باسم، وقد تطهّرت الكوفة من رجس الشيطان. كان فارسٌ قد غادرها توّاً يحمل معه رؤوس الأفاعي، ويكاد أن يسبق الريح، وجهته "يثرب" المدينة المنكوبة.
دخل الرجل الكوفي منزل عليّ بن الحسين وهتف مبهور الأنفاس:
ـ يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الوحي، أنا رسول المختار إليكم ومعي رأس ابن مرجانة ورأس ابن سعد و....
وعادت الفرحة إلى المدينة.. تجدّدت ذكريات بدر يوم تساقطت رؤوس الشرك في "القَليب".
وفي تلك الليلة تذكّرت نسوة بني هاشم الحِنّاء، وعدد المِروَد يدور في العيون يمسح آثار حزن متجدد.. وشقّ المشط طريقه في ليل الشعر ليل حالك أو ربما اشتعل شيباً. وهوى فتى الحسين ساجداً لله الذي يمهل ولا يهمل:
ـ اللّهم وفّقه لما تحبّ وترضى، واغفر له في الآخرة والأولى.
عادت البسمة تطوف في بيوت بني هاشم.. تمسح الدموع، وتمنح الأطفال الأمل، والنسوة كُحلاً ومَراود... ومن بين كل العيون بقيت عينان حزينتان تدمعان..
فلقد أغمضهما القدر بمصر قبل أن تَرَيا تَساقُطَ رؤوس الجلاّدين.
غير أنّ التاريخ ما يزال يردّد بطولات امرأة اسمها "زينب".
[/color][/size][/SIZE][/COLOR]


توقيع : ابوشهد
عظم الله اجرك و احسن عزاءك و غفر لشهدائك يا عراق
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)



الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اسرار الرجل التى يجب ان تعلمها كل امرأة kh93lil شباب أهل البيت (ع) 19 2013/02/24 07:05 PM
امرأة صينية نور الصــور العامة 12 2012/10/19 07:48 PM
افتخري لانك امرأة kh93lil الارشيف والتكرار 7 2012/08/15 10:35 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024
جميع الحقوق محفوظة لـ منتديات شيعة الحسين العالمية اكبر تجمع اسلامي عربي
|

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى || SiteMap Index


أقسام المنتدى

المنتــديات العامة @ السياسة @ المناسبات والترحيب بالأعضاء الجدد @ منتديات اهل البيت عليهم السلام @ سيرة أهـل البيت (عليهم السلام) @ الواحة الفاطمية @ الإمام الحجّة ابن الحسن صاحب العصر والزمان (عج) @ الادعية والاذكار والزيارات النيابية @ المـدن والأماكن المقدسة @ المـنتـديات الأدبيـة @ الكتاب الشيعي @ القصة القصيرة @ الشعر الفصيح والخواطر @ الشعر الشعبي @ شباب أهل البيت (ع) @ المنتـديات الاجتماعية @ بنات الزهراء @ الأمومة والطفل @ مطبخ الاكلات الشهية @ المنتـديات العلمية والتقنية @ العلوم @ الصحه وطب أهل البيت (ع) @ الكمبيوتر والانترنيت @ تطبيقات وألعاب الأندرويد واجهزة الجوال @ المنتـديات الصورية والصوتية @ الصوتيات والمرئيات والرواديد @ الصــور العامة @ الابتسامة والتفاؤل @ المنتــــديات الاداريـــة @ الاقتراحات والشكاوي @ المواضيع الإسلامية @ صور اهل البيت والعلماء ورموز الشيعة @ باسم الكربلائي @ مهدي العبودي @ جليل الكربلائي @ احمد الساعدي @ السيد محمد الصافي @ علي الدلفي @ الالعاب والمسابقات @ خيمة شيعة الحسين العالميه @ الصــور العام @ الاثـــاث والــديــكــورآت @ السياحة والسفر @ عالم السيارات @ أخبار الرياضة والرياضيين @ خاص بالأداريين والمشرفين @ منتدى العلاجات الروحانية @ الابداع والاحتراف هدفنا @ الاستايلات الشيعية @ مدونات اعضاء شيعة الحسين @ الحوار العقائدي @ منتدى تفسير الاحلام @ كاميرة الاعضاء @ اباذر الحلواجي @ البحرين @ القران الكريم @ عاشوراء الحسين علية السلام @ منتدى التفائل ولاستفتاح @ المنتديات الروحانية @ المواضيع العامة @ الرسول الاعظم محمد (ص) @ Biography forum Ahl al-Bayt, peace be upon them @ شهر رمضان المبارك @ القصائد الحسينية @ المرئيات والصوتيات - فضائح الوهابية والنواصب @ منتدى المستبصرون @ تطوير المواقع الحسينية @ القسم الخاص ببنات الزهراء @ مناسبات العترة الطاهرة @ المسابقة الرمضانية (الفاطمية) لسنة 1436 هجري @ فارسى/ persian/الفارسية @ تفسير الأحلام والعلاج القرآني @ كرسي الإعتراف @ نهج البلاغة @ المسابقة الرمضانية لسنة 1437 هجري @ قصص الأنبياء والمرسلين @ الإمام علي (ع) @ تصاميم الأعضاء الخاصة بأهل البيت (ع) @ المسابقة الرمضانية لعام 1439هجري @ الإعلانات المختلفة لأعضائنا وزوارنا @ منتدى إخواننا أهل السنة والجماعه @


تصليح تلفونات | تصليح تلفونات | تصليح سيارات | تصليح طباخات | تصليح سيارات | كراج متنقل | تصليح طباخات | تصليح سيارات |